بعد أن انتهينا من استكشاف الطابقين الأول والثاني من القلعة، صعدنا إلى الطابق الثالث والأخير عبر درج حجري لولبي ضيق تفوح منه رائحة الرطوبة القديمة. كان الصعود متعبًا بعض الشيء، خاصة بعد الجولة الطويلة، لكن فضولنا لمعرفة ما يخفيه هذا الطابق دفعنا للصعود دون تردد.
وصلنا أخيرًا إلى السطح، ففُتح أمام أعيننا مشهد مدهش لم نكن نتوقعه. كان الطابق الثالث عبارة عن سطح واسع، تحيط به جدران حجرية منخفضة تعلوها درابزين حديدية سوداء مزخرفة بنقوش غريبة تشبه الأختام القديمة. من هذا المكان المرتفع، كنا نرى محيط القلعة بالكامل، الأشجار الكثيفة التي تُحيط بها من كل جانب، والجبال التي ترتفع في الأفق وكأنها جدران طبيعية تحرس القلعة منذ قرون.
كان الهواء في الأعلى عليلًا، تختلط فيه برودة الليل ببقايا دفء النهار. أما السماء، فقد بدأت تتلون بدرجات البرتقالي والذهبي مع اقتراب غروب الشمس، مما أضفى على المكان هالة مذهلة جعلت السكون أكثر عمقًا.
تجوّلنا قليلاً على السطح، كل واحد منا مشغول بمراقبة مشهد مختلف، بعضنا يحدق في الأفق، وآخرون ينظرون إلى الأسفل حيث كانت الحديقة الداخلية للقلعة تُرى بوضوح من هنا. بدا السطح كقاعة مراقبة حقيقية، مكان مثالي لرصد كل ما يقترب من القلعة أو يحوم حولها.
بعد لحظات من التأمل والدهشة، قررنا النزول مجددًا. رجعنا إلى الطابق الأول، حيث كان الرجل العجوز واقفًا ينتظرنا بهدوء، وعيناه تتابعان خطواتنا كأنّه كان يدرس ردود أفعالنا منذ بداية الجولة.
قال الرجل العجوز بصوت هادئ لكن جدي:
"حسنًا، بما أنكم انتهيتم من الجولة، فقد حان الوقت لأحدثكم عن تفاصيل المهمة التي جئتم من أجلها."
توقف لوهلة ثم أكمل، ناظرًا نحونا جميعًا بعينيه المتعبتين:
"بما أن عددكم عشرة، فسيتم تقسيمكم إلى مجموعتين: خمسٌ منكم سيحرسون النبيل فاليس في النهار، والخمسة الآخرون سيحرسونه في الليل. كل واحد منكم سيكون له مكان محدد يتولى حراسته بدقة، حتى نضمن عدم تسلل أي عدو أو خطر من أي جهة كانت."
صمت الرجل العجوز لبرهة، ثم التفت إلى صاحب العمل وقال:
"أندرو، أنت تعرفهم أكثر مني. أخبر كل واحد منهم بمكان حراسته، فأنت أدرى بقدراتهم وخبراتهم."
أومأ صاحب العمل بإيجاب، ثم خطا خطوة للأمام وقال بنبرة صارمة:
"لقد سمعتموه. الآن سأحدد لكل شخص منكم موقع الحراسة المخصص له. أنصتوا جيدًا."
تفحّص وجوهنا واحدًا تلو الآخر، ثم تابع قائلاً:
"لوكسيان، نوكس، تيروس، وماركوس... أنتم ستتولون مسؤولية الطابق الثالث، وهو الطابق الأعلى والأكثر أهمية كونه يتيح رؤية واسعة لما حول القلعة."
أشار بيده نحو الأعلى وكأنّه يُعطي الأمر منذ الآن، ثم أكمل بنبرة مرتبة:
"نوكس وماركوس ستكونان مسؤولين عن الحراسة في فترة النهار. ستتبادلان المواقع كل ست ساعات لتبقيا متيقظين. أما الليل، فسيكون من نصيب تيروس ولوكسيان، ستعملان بالمناوبة طوال اثنتي عشرة ساعة كذلك."
نظر إلينا نظرة تحمل مزيجًا من الجدية والثقة، ثم قال:
"إن الطابق الثالث ليس مكانًا عادياً، إنه خط الدفاع الأول ضد أي تهديد خارجي. مسؤوليتكم كبيرة، وأي تقصير قد يعرّض حياة السيد للخطر. فكونوا على قدر المهمة."
شعرت حينها أن شيئًا ما في هذا المكان يختبئ خلف الظاهر. ربما كان السطح مجرد بداية لما سنواجهه... وربما، كما لمح العجوز مرارًا، فإن الأسرار لا تبدأ إلا بعد اكتمال الجولة.
أخذ صاحب العمل نفسًا قصيرًا ثم تابع حديثه بصوته الواضح الجاد:
"أما كايرو وسيريون وكالستير، وأنا... فسنحرس الطابق الأول، بما أن الأعداء قد يحاولون اقتحامه في أي لحظة. سنقوم بالحراسة بالتناوب، تمامًا كما ذكرت. سيريون وأنا سنكون في الخدمة خلال ساعات النهار، بينما كالستير وكايرو سيتوليان الأمر في الليل."
توقف قليلًا ليتأكد من أن الجميع يستوعب ما يقول، ثم نظر إليّ مباشرة، ونبرة صوته حملت بعض الجدية:
"أما أنتما الاثنان المتبقيان... فستحرسان الطابق الثاني. زايروس سيحرسه في النهار، وأنت... ستحرسه في الليل .
في تلك اللحظة، خفّت الأصوات من حولي، وكأنّ كل ما في القاعة قد صمت دفعة واحدة.
الليل؟ وحدي؟ ولمدة اثنتي عشرة ساعة؟
كأن شيئًا ثقيلاً سقط على صدري. شعرت بانقباض غريب في حلقي، وبأن الهواء أصبح أثقل ممّا يجب. نظرت إلى الطابق الثاني للحظة، رغم أنني لا أراه الآن، تخيّلته في ذهني: ممرات طويلة، سكونٌ قاتم، جدران قديمة تنبعث منها رائحة الغبار والرطوبة... وظلال، الكثير من الظلال.
ثم قلت في داخلي بسخرية : "طبعاً...من غيري سيحرس في أكثر الأوقات رعباً ، كنت أتوقع أنه على الأقل سيكون هناك شخص ما ليحرس معي . "
لكن سرعان ما تسلل القلق إلى داخلي كأنّه خيوط دخانٍ باردة، وبدأت الأسئلة تتراقص في رأسي:
هل سأكون وحيدًا حقًا؟
ماذا لو حدث شيء؟ من سيأتي لمساعدتي؟
ماذا لو تسلّل العدو من حيث لا أراه؟
هل أصرخ؟ هل أهرب؟ هل أقاتل؟
لم يكن الأمر مجرّد حراسة بالنسبة لي.
كان امتحانًا حقيقيًا للشجاعة... أو ربما، للقدرة على البقاء متماسكًا في وجه المجهول.
نظرت إلى زايروس، الذي بدا هادئًا ، لا كلمة، ولا نظرة، كأن الأمر لا يعنيه. ربما لأن الحراسة في النهار لا تحمل ذلك الرعب الهادئ الذي يحمله الليل.
لم أقل شيئًا. لا لأنني شجاع، ولا لأنني موافق، بل لأنني لا أملك رفاهية الاعتراض.
فقط... أومأت برأسي بخفة، وكأنني أقبل بالأمر، بينما أنا فقط ... خائف .