عندما أنهى صاحب العمل شرحه للمهمة، اعتدل في وقفته وقال بنبرة حاسمة:
"إذاً، ليذهب كل من وُكِّل بالحراسة الليليّة إلى مكانه."
ساد صمتٌ خفيف، كأن الهواء نفسه توقف عن الحركة، ثم خرجت من أفواهنا كلمات قصيرة، مترددة، لكنها متوافقة:
"حسناً..."
بدأ الجميع في التحرك، كلٌّ إلى موقعه المخصص، بخطى ثابتة رغم التعب الظاهر في أعينهم. أما أولئك الذين كان دورهم في النهار، فقد انسحبوا بهدوء نحو أماكن النوم، يجرّون خطواتهم المثقلة بعناء اليوم الطويل. شيئاً فشيئاً، خفتت الأصوات من حولي... خطوات الأقدام تلاشت، والأنفاس القريبة ابتعدت، حتى لم يتبقَّ أحد... سواي.
وقفت هناك للحظة، جامداً في مكاني، كأن الأرض التصقت بقدمي. لم أعد أفكر، أو ربما لم أعد أستطيع التفكير. بدأ العرق يتصبب من جبيني، ليس بفعل التعب، بل بفعل ما ينتظرني.
كان عليّ أن أذهب... إلى الطابق الثاني. وحدي.
بلعت ريقي، ثم أخذت نفساً عميقاً محاولاً السيطرة على ارتجاف أنفاسي. همست لنفسي بصوت خافت، يكاد لا يُسمع:
"ما بك؟ الأمر ليس بهذه الخطورة... لا يوجد شيء هناك... لا أشباح ولا كائنات غريبة. الأشباح ليست حقيقية، أليس كذلك؟"
ضحكت بخفّة عصبية، لكن لم يدم ذلك طويلاً.
"هيا... تحرك... فقط تحرّك."
بدأت قدماي تتحركان ببطء، كأن الأرض تسحبني إلى الخلف مع كل خطوة. صعدت الدرجات الواحدة تلو الأخرى، صوت خشب السلم تحت قدمي بدا وكأنه يصرخ في السكون، يُعلن عن وصولي رغم أنني لم أرغب بذلك.
ما إن بلغت الطابق الثاني حتى شعرت بشيء ما يختلف... المكان كان هادئاً، لكن ليس أي هدوء. كان صمتاً ثقيلاً، كأن الجدران تراقبني، كأن السقف يهمس لي بشيء لا أستطيع فهمه.
أخذت ألتفت يميناً ويساراً ببطء. الظلال تتراقص على الجدران بسبب نور الفانوس الخافت المعلّق في نهاية الممر. لا أحد هناك. لا شيء يتحرك. لكن قلبي كان يدق كطبول الحرب، وعيناي تتابعان كل زاوية مظلمة كأنها تخفي سراً ينتظر لحظة الانقضاض.
كل شيء كان ساكناً... فقط الظلام.
الظلام... والصوت الصامت الذي في داخلي .
...
مرّت عدّة دقائق...
وأنا واقف هناك، وسط الظلام الهادئ، لم يحدث شيء. لا صوت، لا حركة، لا حتى نسمة هواء تُحرّك الغبار المعلّق في الضوء الخافت. فقط ذلك الصمت الثقيل الذي بدأ يحيط بي كستارة سوداء من القلق. كنت أراقب الممر الطويل أمامي، عيني لا تفارقه، وكأنني أترقب أن يخرج منه شيء... أي شيء.
لكن لا شيء خرج.
جلست على طرف السلم الحجري المؤدي إلى الطابق، وأسندت ظهري إلى الجدار البارد خلفي، مترجّياً... نعم، مترجّياً من أعماق قلبي ألا يحدث شيء.
تمنّيت أن تمرّ الساعات دون مفاجآت. أن تكون هذه الليلة مجرّد حراسة عادية، بلا أصوات مريبة، ولا خطوات خفيّة، ولا أبواب تُفتح من تلقاء نفسها. كنت أريد أن أراقب الفراغ فقط... ثم أعود إلى سريري.
لكن... الليل كان لا يرحم.
مرت ساعة، ثم ساعة أخرى... وربما ثالثة، أو هكذا شعرت. الوقت هنا لا يتحرك كباقي الأماكن، وكأن الزمن نفسه يُعاقبني على يقظتي.
بدأ التعب يتسلّل إلى جسدي ببطء، كحيوان زاحف يلتفّ حولي بلا صوت. رأسي بدأ يثقل، وجفوني أصبحت كأنها تُصارع الجاذبية.
النعاس...
كان أقوى من أي شيء شعرت به هذا اليوم.
فركت عينيّ، وتنفّست بعمق محاولاً طرد الرغبة المتزايدة في النوم. مررت يدي على وجهي، ثم على شعري. شعرت بالحرارة المتجمّعة على جبهتي من طول الوقوف، وشعرت أيضاً برجفة خفيفة تسكن أطرافي.
ثم، وكأن التعب حرّك لساني، تنهدت بصوتٍ مسموع وهمست لنفسي، غاضباً بصوت بالكاد يخرج:
"لماذا كلّفني صاحب العمل بالحراسة الليليّة؟ وليست ساعة أو اثنتين... بل اثنتا عشرة ساعة؟!"
نظرت إلى الممر الطويل من جديد وكأنني أنتظر منه جواباً، لكن الجدران صمتت.
"هل هناك خلل في تفكيره؟ كيف لي أن أحرس الطابق الثاني وحدي؟"
وجهت بصري إلى الغرفة ، حيث يقع جناح النبيل فاليس . الطابق الأهم... حيث ينام أكثر شخص محاط بالأسرار في هذا المكان. مسؤولية حراسته؟ وحدي؟ كنت أرتجف من الفكرة نفسها، لا من البرد.
"على الأقل... لو جعل أحداً يشاركني الحراسة... شخصاً واحداً فقط. حتى لو لم يتحدث معي."
لكن لا أحد هنا سواي. لا ظل، لا صوت، لا رفيق.
كانت تلك الأفكار تتوالى في رأسي بسرعة، كأنها تطرق باب عقلي بقبضات من نار. ومع كل فكرة، يزداد شعوري بالوحدة والتعب.
كل ما أريده الآن... كل ما أتمناه... هو النوم.
لكن النوم ممنوع، في هذه الليلة الطويلة، على الحارس الوحيد للطابق الثاني.
...
ومع مرور الوقت، أخذ النعاس يتسلّل إليّ ببطء كقطرة ماء تتسلل عبر شقّ في جدار قديم. أغمضت عيني قليلاً... فقط قليلاً، كما يفعل المرء حين يحاول أن يمنح نفسه ثانية من الراحة لا أكثر. لكن تلك اللحظة، تلك الثانية العابرة، انكسرت فجأة بصوت غريب...
صوت قادم من جهة المستودع.
تجمّدت في مكاني.
صوت... طقطقة؟ خشخشة؟ لم أتمكن من تمييزه بوضوح، لكنه بالتأكيد لم يكن من صنع خيالي.
اتسعت عيناي فوراً، وشعرت بجسدي يتصلّب كما لو أن أحدهم قد سكب عليه دلوًا من الجليد. ضرب قلبي بقوة، ثم بقوة أكبر، وكأن صدرِي أصبح طبلاً حربياً يُقرع في ظلام الليل.
لم أدرِ أيهما سيصيبني أولًا... جلطة دماغية أم نوبة قلبية.
تعثرت أفكاري، وقلت لنفسي بصوت خافت متوتر، "ا... اهدأ... لا داعي للذعر... لا بد أنها الرياح... نعم، مجرد رياح عابثة."
لكن... الصوت تكرر مرة أخرى. أكثر وضوحًا هذه المرة. نفس الطقطقة الخافتة، لكنها أقرب.
توقف عقلي عن التفكير للحظة، والعرق بدأ يتصبّب من جبيني بغزارة، وكأن جسدي يحاول أن يطفئ النار التي اشتعلت بداخلي فجأة.
أدركت أن من واجبي أن أتحرّى الأمر.
المستودع قد يحتوي على شيء... أو شخص. ربما مغتال، لص، مخلوق مجهول... أو مجرد فأر ضخم يعزف على صناديق الخشب.
نظرت إلى الممر المؤدي إلى باب المستودع، وكان يبدو أطول مما هو عليه في النهار، كأن الظلال قد تمدّدت، أو كأنها تراقبني وتنتظر أن أقترب أكثر.
تمتمت لنفسي، "ربما أكون أجبن شخص في العالم... لا، بلا شك أنا هو الأجبن. لكن..."
ثم نظرت أمامي بثبات مفتعل وتابعت، "عندما يكون لدي واجب عليّ فعله... فأنا أفعله. هذا جزء مني. هذه طبيعتي."
تنفّست بعمق، ثم مرة أخرى، محاولًا حشد بقايا شجاعتي. خطوت خطوات ثقيلة نحو المستودع، كل صوت يصدر من الأرضية تحت قدمي بدا كصفعة على طبلة أذني. وعندما وصلت إلى الباب، وقفت قليلًا.
بصوت هامس، قلت: "عند ثلاثة سأدخل... واحد... اثنان... ثلاثة."
بهدوء، مددت يدي وفتحت الباب.
صرير خفيف، وكأن الباب ذاته يصرخ احتجاجاً على فعلي.
نظرت إلى الداخل... الظلام حالك. لا مصباح، ولا شعاع قمر. مجرد سواد كثيف لا يُظهر شيئاً. لكني كنت قد وصلت إلى هذه النقطة، ولا مجال للعودة.
دخلت المستودع ببطء، كمن يخطو داخل حلم مزعج. وضعت يدي على الجدار وتقدّمت قليلاً. نظرت حولي، علّني أرى شيئاً، أي شيء... لكن لا أثر لأحد. لا صوت، لا ظل، لا تنفّس غريب. فقط رائحة الخشب القديم، والغبار، والصمت.
تنهدت براحة خفيفة، وقلت لنفسي بابتسامة مرتعشة:
"كما توقعت... إنها الرياح."
لكن تلك الراحة لم تدم.
فجأة، وبصوتٍ حادٍ ومفاجئ .
" طخ ! "
دويّ خافت ، ثم صمت ...
ارتجف جسدي، والتفتت عيناي فورًا نحو مصدر الصوت.
نظرت إلى الباب المغلق، والهواء بدا أثقل من قبل.
وقفت في مكاني لا أتحرك، لا أتنفس حتى.
هنا، تذكّرت بوضوح تلك اللحظات من ألعاب الرعب في عالمي السابق... تلك اللحظات الكلاسيكية التي تُغلق فيها الأبواب فجأة، فتدير الشخصية رأسها... ويظهر شيء مرعب خلفها.
شهقت داخلياً، وترددت.
أدركت حينها... أنني لو نظرت خلفي الآن، فقد تكون تلك نهايتي.