59 - واحد...اثنان...ثلاثة!

تجمّد قلبي في مكانه، كأن تيارًا جليديًّا اخترق صدري وتوقف داخله. لم أجرؤ على النظر خلفي، لم أفكر بشيء سوى فكرة واحدةٍ علِقت في رأسي كطوق نجاة: الهروب.

ابتلعت ريقي بصعوبة، ثم تنفست بعمق، لكن أنفاسي كانت ساخنة ومضطربة، والعرق يتصبّب من جبيني كأن جسدي كله يصرخ خوفًا. ومن دون أن أسمح لأي فكرة أخرى بالتسلل إلى رأسي، مشيت بسرعة وركضت نحو الباب.

مددت يدي المرتجفة إلى المقبض، قبضت عليه بقوة، ثم فتحته بسرعة. صرير الباب كان كصوت خنجر يُسحب من غمده، لكنه لم يكن مهمًّا... ما كان مهمًّا هو أنني خرجت.

ركضت، لا، هربت فعليًا، نازلاً الدرجات نحو الطابق الأول بخطواتٍ سريعة ومضطربة، حتى شعرت أن قدمي على وشك الانزلاق. ومع كل خطوة، كان قلبي يدق أسرع، وعقلي يصرخ داخلي: "لا تلتفت! لا تنظر خلفك!"

ما إن وصلت إلى الطابق الأول حتى وجدت نفسي أركض لا إراديًا باتجاه كايرو، كان واقفًا بجانب الجدار، يُراقب المكان. توقفت أمامه، وأنا ألهث كأنني كنت أهرب من وحش غير مرئي.

انحنيت قليلاً واضعًا يدي على ركبتي، محاولًا التقاط أنفاسي التي بدت وكأنها تهرب من صدري، وقال كايرو وهو ينظر إليّ باستغراب، حاجباه مرفوعان:

"ما الخطب؟"

رفعت رأسي بصعوبة، ثم قلت بصوت متقطع بسبب لهاثي:

"ه... هناك... هاا... كائن غريب في المستودع... هاا... وأيضًا... أُغلق الباب فجأة... هاا..."

نظر إليّ بتمعّن، ثم قال بهدوء وهو يشير بيده ليهدئني:

"على مهلك... خذ نفسًا، لا تتعجل."

أغمضت عيني للحظة، ثم أخذت نفسًا عميقًا آخر، بينما هو قال بنبرة تحليلية:

"إذاً، على حسب كلامك... هناك كائن غريب في المستودع؟ والباب... أُغلق من تلقاء نفسه؟"

أومأت برأسي بسرعة وأنا أتنفس بصوت مسموع:

"نعم... نعم، هذا ما حدث تمامًا!"

هزّ كايرو رأسه قليلًا، ثم قال بهدوءٍ متوقع:

"لابد أن الرياح هي من أغلقَت الباب... هذا يحدث أحيانًا."

صرخت تقريبًا، لكن بصوت منهك:

"لا! لا! النوافذ كانت مغلقة! رأيت ذلك بعيني! لا يمكن أن تكون الرياح!"

توقف كايرو لثوانٍ، وكأنه يعيد التفكير فيما قلته، ثم سأل:

"هل أنت متأكد أنك رأيت أحدًا؟ أو شيئًا ما؟"

صمتُّ قليلاً، ثم خفضت نظري، وقلت بصوتٍ خافت ومضطرب:

"نع... نعم... في الواقع... لا، لم أرَ أحدًا... لكن لابد أن هناك مخلوقًا ما. لا يمكن أن يُغلق الباب وحده! أنا متأكد أن هناك شيئًا ما هناك..."

تنهد كايرو وأدار نظره نحو الأعلى، ثم مسح شعره إلى الخلف وقال بنبرة جادة هذه المرة:

"حسنًا، حسنًا... لنفترض أن هناك أمرًا غير طبيعي. سنذهب الآن إلى الطابق الثاني، إلى المستودع تحديدًا، ونرى بأعيننا ما حدث بالضبط."

شعرت بالارتياح حين قال ذلك، وإن لم يزُل خوفي تمامًا.

...

سِرنا معًا نحو الدرج، خطواتنا كانت بطيئة وثقيلة كأنها تنقش على الأرض أثر الخوف نفسه. الظلام كان كثيفًا كحبرٍ سكبه الليل فوق هذا الطابق البارد. كايرو، الذي بدا أكثر هدوءًا مني، أمسك بيده شمعة صغيرة، شعلة مرتجفة بالكاد تقاوم الظلام الذي يلتهم المكان من حولنا. كانت تلك الشعلة تضيء وجوهنا الخائفة وتلقي بظلال راقصة على الجدران، ظلال جعلتني أتوتر أكثر بدل أن أشعر بالأمان.

صعدنا درجات السلم المؤدي إلى الطابق الثاني ببطء، كل صرير يصدر من الخشب القديم تحت أقدامنا كان أشبه بصرخة من المجهول. قلبي ينبض بقوة كأن صوت دقاته هو الوحيد الذي أسمعه في هذا الصمت المرعب.

وصلنا إلى نهاية الدرج، وهناك، أمامنا عبر الممر، وقف الباب المؤدي إلى المستودع. كان مغلقًا.

توقفت في مكاني، وقد صدمت تمامًا. نظرت إلى الباب بذهول، ثم إلى كايرو وقلت بصوت مضطرب:

"أنا... أنا متأكد أنه كان مفتوحًا. لقد فتحته بنفسي عندما خرجت."

لم يُجب كايرو على الفور، بل اكتفى بالصمت لثوانٍ، ثم قال بنبرة هادئة توحي بالحذر:

"لنَدخل فحسب... ونرَ ما في الداخل."

ابتلعت ريقي بصعوبة، وشعرت بجفاف في حلقي. لم أستطع التراجع الآن. كايرو تقدّم، يده ثابتة على المقبض، بينما أنا كنت واقفًا خلفه أراقب كل حركة وكأنها مشهد سينمائي مرعب لا أعرف نهايته.

فتح الباب.

صرير خافت تخلل اللحظة، ومعه خرج هواء بارد من الداخل، كأن المكان تنفس بعد أن أُغلق طويلًا. دخلنا المستودع.

الضوء الخافت للشمعة جعل الغرفة تبدو أوضح قليلًا من المرة السابقة، لكن الظلال الطويلة التي خلّفتها الصناديق والرفوف المصفوفة جعلت المكان يبدو كمتاهة صغيرة تخفي أسرارها في العتمة.

نظرتُ حولي ببطء، قلبي لا يزال يطرق صدري كالمطرقة، ولكن...

لم يكن هناك شيء.

مجرد مستودع عادي. صناديق مرتبة، بعض أدوات قديمة، وهدوء غير مريح. لا همسات، لا حركات، لا كائنات غريبة.

تنهد كايرو وقال وهو يلتفت إليّ:

"أرأيت؟ لا يوجد شيء مخيف هنا."

صمتُّ، لم أُجب.

كانت أفكاري تتقافز في رأسي مثل العصافير المذعورة. هل كنتُ أتوهم؟ هل خوفي جعلني أرى ما ليس موجودًا؟ المكان بالفعل يبدو طبيعيًا... بل ويبعث على شيء من الدفء رغم البرودة، لكن في الوقت نفسه، هناك إحساس غريب في الجو، لا أستطيع تفسيره.

ثم، لاحظت شيئًا.

على الأرض، بين صندوقين قديمين، كانت هناك دمية ساقطة.

انحنيت قليلًا ونظرت إليها. كانت تضحك... أو هكذا بدا وجهها. ابتسامة جامدة وواسعة، وعينان زجاجيتان تنظران إلى السقف كما لو كانت تتأمل شيئًا لا يُرى.

في تلك اللحظة، عادت إليّ ذكريات أفلام الرعب التي شاهدتها ذات يوم، تلك التي كانت تتمحور حول دمى تتحرك من تلقاء نفسها، تضحك، تتكلم، تقتل. ندمت بشدة على مشاهدتي لتلك الأفلام. تمنيت لو أنني لم أملأ عقلي بتلك الأفكار السوداء.

مددت يدي بخوف، ورفعت الدمية. كان ملمسها باردًا، ووجهها من قريب أكثر رعبًا مما توقعت. وضعتُها بسرعة فوق أحد الصناديق المرتفعة، وابتعدت عنها خطوة وكأنها ستقفز في أية لحظة.

قال كايرو من خلفي:

"إذاً، هل نذهب الآن؟"

أجبت بهدوء، رغم أني لم أكن أشعر بالهدوء حقًا:

"نعم... لنذهب."

تحركنا نحو الباب، خطواتنا خفيفة ولكنها حذرة. لم نكن قد ابتعدنا سوى أمتار قليلة، عندما دوّى صوت حاد في الغرفة:

"كلااخ!"

تجمّدنا أنا وكايرو في مكاننا. استدرت ببطء نحوه وقلت بصوت خافت مرتجف:

"أ... أرأيت؟ لقد قلت لك! هناك وحش هنا!"

لم يجبني مباشرة، بل نظر إلى مصدر الصوت وقال بنبرة مرتعشة:

"ما ال... الذي تقوله؟ لا بد أنها... سقطت من تلقاء نفسها..."

نظرت إليه بعينين مليئتين بالغضب والخوف:

"ك... كيف تسقط بنفسها؟! من وضعها فوق الصندوق؟! أنا!"

قال بسرعة وهو يتلفت:

"ذ...ذلك لا يهم الآن... يجب أن ننظر خلفنا... لنرَ ما الذي حدث."

لكن قبل أن نتمكن من الالتفات، سمعنا صوتًا جديدًا... خطوات خفيفة، بالكاد تُسمع، تمشي خلفنا ببطء... ببطء مزعج، كأن من يمشي يستمتع بجعلنا نسمع كل خطوة.

تجمدنا تمامًا.

الظلال من حولنا بدت وكأنها تتحرك معنا، والهواء صار أثقل.

قال كايرو بصوت خافت وهو يحدّق في الباب:

"ع...عند الرقم ثلاثة، سنستدير. وأنت... ستحاول أن تقفز وتمسك بالشيء الذي خلفنا."

نظرت إليه مصدومًا، وهمست:

"ه... هل أنت مجنون؟! كيف لي أن أفعل ذلك؟! لا أعلم حتى ما هو!"

تجاهل خوفي، وقال بثبات رغم نبرة صوته المرتجفة:

"واحد..."

(لاااا...)

"اثنان..."

(لا أريد...)

"ثلاثة!"

استدرنا بسرعة.

أغمضت عيني وقفزت بكل ما أملك من قوة نحو الخلف، ذراعاي ممدودتان في الهواء.

يدي أمسكت بشيء ما.

شيء بارد... ورطب... ويتحرك.

فتحت عينيّ فجأة، لأتفاجأ بما كنتُ أمسكه...

2025/06/25 · 7 مشاهدة · 1071 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025