بعد أن صعدتُ إلى الطابق الثاني، كانت خطواتي مثقلة بالإرهاق، لكن شيئًا ما في فكرة الطعام أعاد إلى جسدي شيئًا من الطاقة. توجهت نحو المطبخ، الذي يقع في نهاية الرواق، ملاصقًا لغرفة النبيل فاليس ريمون. كان هذا الجزء من القلعة أكثر تنظيمًا ونظافة، والسجاد الفاخر يُغطي الأرضية، عازلًا خطواتي عن الصدى الذي كان يلازمني في أرجاء الأماكن الأخرى.

وقفت أمام باب المطبخ الخشبي الثقيل، وطرقت عليه ثلاث طرقات متتالية.

"طَق... طَق... طَق..."

لم أنتظر طويلاً، إذ سرعان ما فُتح الباب من الداخل بانضباط شبه عسكري، ليظهر من خلفه رجلٌ ضخم ، يرتدي قبعة الطباخ البيضاء التقليدية. وجهه كان يحمل بعض التجاعيد حول العينين والفم، لكن بشرته المشدودة وكتفيه العريضين كشفا أنه لم يكن عجوزًا، بل في منتصف عمره، شابًا في بنيته، حكيمًا في نظراته.

قال بصوت هادئ، منخفض النبرة ولكن واثق:

"ما الذي تريده؟"

وقفت بثبات، ثم قلت وأنا أضع يدي على بطني:

"أنا جائع... هل لديك بعض الطعام؟"

نظر إلي لثوانٍ، نظرة تشبه تلك التي يُلقيها القادة قبل أن يُصدروا حكمهم، ثم أومأ برأسه وقال:

"بالطبع، ادخل."

دخلت المطبخ بخطوات هادئة.

كان المطبخ كبيراً. غرفة مستطيلة تملؤها الطاولات الخشبية المصقولة، تتوزع فوقها سكاكين وألواح تقطيع وأوانٍ نحاسية لامعة. في الزوايا كانت هناك أرفف مليئة بالأعشاب المجففة، وأكياس دقيقٍ معلقة بخيوط غليظة، وتوابل منتشرة تنبعث منها روائح مختلفة. في أحد الأركان كان هناك موقد كبير تنبعث منه حرارة دافئة، وعليه قدر كبير تُصدر منه رائحة شهية للغاية.

رائحة الحساء كانت تجتاح المكان كعطرٍ يوقظ الحواس، مزيج من اللحم المطهو مع الخضار والتوابل، كأن كل نكهة تهمس باسمها في الهواء.

قال الطباخ دون أن يلتفت، وهو يتحرك بخفة غير متوقعة لمن في حجمه:

"اجلس على الكرسي هناك... سأحضر لك حساءً وخبزًا."

أومأت برأسي ممتنًا، ثم توجهت إلى الكرسي الوحيد قرب الطاولة المستديرة في وسط الغرفة. جلست، بينما عيناي تتجولان في المكان، كأنني طفل في عالمٍ من الدفء والروائح.

لحظات قليلة، وإذا به يضع أمامي صحنًا عميقًا من الحساء، تنبعث منه الأبخرة كأنها قصص تُروى، وإلى جانبه قطعة خبز طازجة، ما تزال دافئة.

لم أستطع الانتظار.

أمسكت بالملعقة، وغرستها في الحساء، ثم رفعتها إلى فمي.

في اللحظة التي لامست فيها النكهة لساني، شعرت كأنني أعود للحياة.

كان الحساء غنيًّا، طريًّا، متوازن الطعم، ليس مالحًا ولا باهتًا، بل أشبه بلحنٍ هادئٍ يعزف في داخلي. أما الخبز، فكان طريًا من الداخل ومقرمشًا من الخارج، تمامًا كما يجب أن يكون.

لم أتكلم.

أكلت فقط.

...

بعد أن أنهيتُ طبقي، رفعت رأسي نحو الطباخ، الذي كان منهمكًا بغسل بعض الصحون، وقلت:

"شكرًا لك على الطعام... كان شهيًا بحق."

ابتسم دون أن يلتفت، وقال وهو يمرر قطعة قماش على أحد الأطباق:

"لا تحتاج إلى شكري... أنا فقط أقوم بواجبي."

كلماته كانت بسيطة، لكنها حملت ما يشبه الدفء.

وقفت من على الكرسي، شعرت بخفة غريبة، كأن الطعام لم يُشبع جسدي فقط، بل طمأن قلبي أيضًا.

...

ما إن خرجت من المطبخ حتى شعرتُ بالدفء لا يزال يعلق بأنفاسي، رائحة الحساء اللذيذ ما زالت تسكن أطراف حواسي. قبل أن أغلق الباب خلفي، التفتّ إلى الطباخ وسألته:

"كم تبقّى على موعد العشاء؟"

رفع رأسه من فوق القدر الكبير، مسح جبينه بطرف كمّه، ثم أجاب:

"نصف ساعة تقريباً. بعدها يبدأ وقت الوجبة الليلية، ثم تنطلق مناوبات الحراسة الجديدة."

أومأت برأسي شاكرًا، وأخذتُ نفسي إلى الممر المضاء بخفوت. مررت بجانب غرفة النبيل فاليس ريمون دون أن أسمع صوتًا من الداخل، فتابعت سيري نحو السلالم المؤدية إلى الطابق الثالث.

لم يكن لدي ما أفعله خلال هذه الدقائق الثلاثين، وراودني شعور غريب أنني بحاجة إلى أن أستنشق هواءً مختلفًا... هواءً أعلى من الأرض... وأقرب إلى السماء.

خطواتي صعدت بتؤدة، حتى وصلت إلى الباب الخشبي المؤدي إلى الطابق الثالث. دفعت الباب ببطء، وانفتح أمامي مشهد جميل.

صمتٌ مهيب.

وضوء شمس المغيب يتسرّب من بين الأعمدة الحجرية الطويلة، يرسم خطوطًا ذهبية على الأرض الباردة. الهواء هنا مختلف... نقيّ، بارد، فيه نكهة تشبه نكهة الثلج حين يغطي الأشجار في عزّ الشتاء.

وقفت لحظة في مكاني، لا أعرف كيف أصف ما أراه. كل شيء هنا بدا ساكنًا... وكأن القلعة نفسها تتنفس بهدوء.

نظرت حولي، فرأيت ماركوس يقف عند الجهة الشمالية، سيفه معلّق عند خصره، ونظرته ثابتة نحو الأفق. أما نوكس، فكان في الجهة الجنوبية، واقفًا بصمته المعتاد، كأنه جزء من جدار هذا المكان.

اقتربت من السياج المطلّ على الخارج، وهناك وقفت.

الرياح الباردة لفحت وجهي، لكنها لم تكن قاسية. كانت كمن يدعوك للسكينة، همساتها تملأ أذني، وكأنها تقول: خذ وقتك... تنفّس.

ربما كانت هذه اللحظة هي الأولى التي شعرتُ فيها بهدوء حقيقي منذ أن وصلت إلى هذا العالم. لا صوت، لا قلق، لا أبواب تنغلق فجأة، ولا أصوات غريبة في الظلام... فقط أنا، والسماء، والرياح.

لكن كعادة اللحظات الجميلة، لم تدم طويلًا.

"ما الذي تفعله هنا؟!"

صوت ماركوس ارتفع، لكن نبرته حملت ودًّا حقيقيًّا.

استدرت إليه، وقلت بابتسامة خفيفة:

"لدي نصف ساعة قبل المناوبة ، فقلتُ لنفسي لمَ لا أتنفّس قليلًا."

ضحك ماركوس، ثم قال:

"لكن أليس عليك أن تتجهّز؟"

رفعت حاجبي بدهشة:

"أتجهز؟ وكيف يتجهز أحدهم لمناوبة في ممرّ حجري لا يتحرّك فيه شيء؟"

اقترب مني، ثم قال بنبرة جادّة قليلًا:

"أقصد نفسيًّا، يا صديقي. لا تعلم ما الذي قد يحصل. ربما الأعداء يقرّرون القدوم الليلة."

قلتُ له بسخرية خفيفة، وأنا أضع يدي على السياج:

"لا تذكّرني... ليلة البارحة كانت رعبًا حقيقيًّا، رغم أن لا أحد أتى."

نظر إليّ باستغراب:

"ماذا تعني؟"

تنهدت، ثم بدأت أروي له ما حدث.

حدثته عن أصوات الخطوات، عن الباب الذي أُغلق وحده، وعن ذلك الظلّ الذي لم أفهمه، وعن الخوف الذي تملكني... ثم النهاية المفاجئة التي كانت قطة صغيرة رمادية.

رويت له القصة كما هي، بكل تفاصيلها.

عندما أنهيت، ضحك ماركوس ضحكة خافتة وقال:

"إذاً هذا ما حدث... قطة."

ثم أضاف وهو واضعٌ يده على السياج:

"ألا تظن أنّك بالغت قليلًا؟ أعني، لمَ لم تضع احتمال أنها قد تكون مجرد قطة؟"

نظرت إليه نظرة فيها خليط من الجدية والسخرية:

"وكيف أفعل ذلك؟ نحن في عالم جديد، كل شيء فيه محتمل. تلك القطة كان من الممكن أن تكون وحشًا، أو كائنًا متحوّلًا، أو حتى شخصاً متنكرًا."

أومأ برأسه ، لكنه لم يقل شيئًا.

في تلك اللحظة، اقترب نوكس بهدوئه المعتاد. انضم إلينا دون أن ينبس بكلمة، فاكتفيت بسرد القصة من جديد على مسامعه، ظنًا أن الفضول قد يراوده. لكن... لا شيء. لا ضحكة، لا دهشة، لا تعليق. فقط نظرة ثابتة، ثم عاد لينظر إلى الأفق، كأن شيئًا لم يُقل.

ومع اقتراب نهاية النصف ساعة، بدأ الضوء يخفت، والبرد يزداد.

سمعنا جرس المناوبة يدقّ بخفة، فأدركنا أن الوقت قد حان.

نزلنا سويًا من الطابق الثالث، خطواتنا تتردد على السلالم الحجرية. وعندما وصلنا إلى الطابق الثاني، التفت نحوي ماركوس وقال:

"ابذل جهدك الليلة."

وأومأ نوكس برأسه، دون أن يضيف شيئًا.

ابتسمت لهما، ثم راقبتُهما يبتعدان تدريجيًّا، حتى اختفيا عن نظري، وهدأت خطواتهما مع انحدار الدرج.

وقبل أن أتحرك، سُمعت خطوات أخرى تصعد نحوي. التفتُّ لأرى لوكسيان وتيروس، وقد جاء دورهما لحراسة الطابق الثالث.

لوكسيان رمقني بنظرة سريعة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، وتبعتها ضحكة قصيرة وهو يواصل طريقه إلى الأعلى.

استغربت قليلًا، لكنني لم أحتج إلى الكثير من التفكير. على الأرجح... كايرو قد أخبره.

انزعجت في داخلي. لم يكن الموقف مُضحكًا برأيي، لكنني سرعان ما تنفّست بعمق، وأعدت توازني.

الليلة حلت.

ومناوبتي الثانية على الطابق الثاني... قد بدأت الآن .

2025/06/27 · 8 مشاهدة · 1135 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025