مرت الثواني ببطء قاتل، كأن عقارب الساعة نفسها قد أُصيبت بالملل. تبعتها الدقائق، ثم الساعات... وكل لحظة شعرت بها وكأنها دهر. الليل هادئ، ساكن، لا أصوات تُسمع سوى أنفاسي المتثاقلة، وصرير الرياح التي تمر عبر النوافذ الحجرية كهمسٍ لا يُفهم.
لم يحدث شيء يُذكر.
ولا حتى صوتٌ غريب أو ظلّ عابر كما حدث في الليلة السابقة... لا خطوات ولا توتر. ومع ذلك، كان قلبي يرفض أن يهدأ بالكامل. ربما بسبب ما مررت به البارحة، أو ربما لأن هذا العالم الجديد علّمني ألا أثق كثيرًا بالهدوء، فهو في كثير من الأحيان، مجرّد تمهيد لعاصفة.
مع مرور الوقت، بدأ النعاس يُلقي بثقله على جفنيّ. عيناي كانتا مرهقتين بشدة، كأنهما تستغيثان وتطلبان الرحمة.
أردت أن أُغمضهما... فقط لدقيقة... ربما أقل.
لكنني قاومت.
مددت يدي نحو ذراعي، وقرصت نفسي . الألم الخفيف جعلني أستعيد انتباهي، وتذكّرت أنني في مناوبة، ولا مجال للاسترخاء. هذه المهمة قد تكون بسيطة في ظاهرها، مجرد مراقبة لممرّ صامت... لكنها في هذا العالم، قد تنقلب في لحظة واحدة إلى صراع بين الحياة والموت.
فتحت عيني جيدًا، أجبرت نفسي على الوقوف لوهلة، ثم عدت إلى وضعيتي السابقة. كررت هذا لعدة مرات طوال الليل، كأني أخوض معركة صامتة ضد نعاسي.
كنت أتمتم في داخلي:
"أتمنى أن تمر الليلة بسلام... فقط هذه الليلة."
وبغرابة...لم يحدث شيء.
مرّ الوقت بلا حوادث، بلا مفاجآت، بلا همسات في الظلام. مجرد صمت طويل، كأنه يراقبني أنا أيضًا، لا يُريد أن يُربكني... بل يُريدني فقط أن أتحمل.
وحين بدأ الخيط الأول من الضوء ينساب عبر أطراف النوافذ، ويزحف بتؤدة فوق الأحجار الباردة، أدركت أن الليل انتهى. مناوبتي وصلت إلى نهايتها.
ابتسمت ابتسامة خفيفة، لا لشيء، بل لأنني نجوت من ليلة أخرى.
وقفت بتثاقل، وبدأت في النزول عبر الدرج الحجري المؤدي إلى الطابق الأول، وكل خطوة كانت تشعرني بأنني أقترب أكثر من مكانٍ آمن، من فراشٍ بسيط، لكنه بات يعني لي الكثير.
دخلت الغرفة المخصصة لنا، كانت خالية إلا من هدوئها. خلعت معطفي الثقيل، وتركته جانبًا، ثم تمددت على السرير. لم أكن بحاجة إلى وسادة، أو بطانية، أو حتى وضع مريح... فقط أردت أن أغمض عيني.
وفعلت.
وفي اللحظة التي انسحب فيها الوعي من رأسي، ابتسمت داخليًا.
لأن هذه المرة... لم يكن هناك قطة.
ولا ظلّ.
ولا خوف.
فقط نوم...مستحق.
---
استيقظت ببطء، كما لو أنني أخرج من قاع بحرٍ من النوم الثقيل. شعرت بثقلٍ في أطرافي، لكن عقلي كان مستيقظًا على نحو مريح. فتحتُ عينيّ بتؤدة، نصف نائم ونصف واعٍ، ثم جلست على طرف السرير وأنا أفرك وجهي وعينيّ براحة يدَي.
الغرفة كانت هادئة، الضوء المتسلّل من النافذة المرتفعة كان خافتًا لكن دافئًا، يوحي بأن الشمس لا تزال في كبد السماء.
وقفت بتثاقل، وسرت نحو الحمام المجاور، شغّلت الماء البارد وغسلت وجهي مرّات متتالية، حتى شعرت ببعض الانتعاش يتسلل إلى أعماقي.
خرجت بخطوات هادئة، آملاً ألا أكون قد نمت طويلًا هذه المرة. لذا بحثت بعينيّ عن أوّل شخصٍ قد يخبرني عن كم الوقت الآن.
ولم يطل البحث.
رأيت سيريون واقفًا في مكانه المعتاد، مستندًا إلى الحائط قرب مدخل الرواق الشرقي، وعيناه تتفقدان الممر كما اعتاد أن يفعل دائمًا، بهدوءٍ لا يتزحزح.
اقتربت منه وسألته بنبرة فيها شيء من القلق:
"امم...سيريون ، مرحباً مرة أخرة ، هل تعلم كم الساعة الآن؟"
التفت إليّ ببطء، وكأن لا شيء في العالم يستحق العجلة، ثم قال بصوتٍ ثابت:
"وقت العصر... الظلال بدأت تطول، لكن الشمس لم تغب بعد."
تنفست الصعداء، وأطلقت تنهيدة ارتياح واضحة.
لم أنم طويلًا هذه المرة.
ابتسمت له شكرًا دون أن أضيف شيئًا، ثم أدرت وجهي وتوجهت نحو المطبخ.
...
حين وصلت، وجدت الطباخ في مكانه المعتاد، يقف أمام القدر الكبير وقد بدا منهمكًا في تقليب ما بدا كحساءٍ جديد. رفع رأسه نحوي حالما رآني، وارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة لم تدم سوى لحظة، لكنها كانت كافية لأن أشعر بالترحيب.
قال دون أن يرفع صوته كثيرًا:
"عدت؟ يبدو أنك صرت زبونًا دائمًا."
ابتسمت بخجل وقلت:
"أنا فقط... جائع."
أومأ برأسه دون تعليق، ثم التفت نحو إحدى الطاولات، جهّز طبقًا بهدوء ومهارة، وسكبه لي دون أن يتوقف عن التحرك. لم تمضِ سوى لحظات حتى وضع أمامي طبقًا دافئًا.
جلستُ وبدأت بالأكل، كانت النكهة مألوفة، لذيذة، مطمئنة، مثل حضنٍ دافئ في عالمٍ لا يعرف الحنان.
وحين أنهيتُ الطبق حتى آخر قطرة، رفعت بصري إليه وقلت بهدوء صادق:
"شكرًا على الطعام."
أجابني دون أن يلتفت، وهو يمسح طاولة جانبية:
"لا داعي للشكر... طالما أنك تقدر الطعام، فأنت تستحقه."
وقفت وغادرت المكان، أحمل في داخلي شعورًا من الراحة، وإن كان غامضًا بعض الشيء.
...
خرجت من المطبخ، توقفت عند بداية السلالم، لكنني لم أتحرك. وقفت للحظات أتأمل الفراغ من حولي، أحاول التفكير بما يجب عليّ فعله الآن.
كانت السماء لا تزال ساطعة من خلف النوافذ العالية، ومع ذلك، لم يكن هناك شيء واضح أفعله.
جلست على الدرجة الأولى من السلم الحجري، أسندت ظهري إلى الجدار، وبدأت أفكر.
ثم، كأن الفكرة سقطت من السقف، خطر على بالي شيء كنت قد نسيته منذ فترة.
الغرفة الوردية.
كانت تلك الغرفة ما تزال تحيرني. فأنا لم أرَ أي فتاة البارحة ولا اليوم ، لم أسمع أي صوت منها خلال الليل ، ولم يكن هناك أي أثر لفتاة تعيش في تلك الغرفة ، فلماذا إذاً توجد غرفة كتلك ؟ وإذا كانت هناك فتاة ، فهل هي ابنته ؟
شعرت أن الوقت قد حان لأعرف.
نهضت من على الدرج، مسحت الغبار الخفيف عن بنطالي، ثم نزلت إلى الطابق الأول، حيث أعلم أن صاحب العمل غالبًا ما يكون هناك، يحرس الجانب الأيمن من الطابق.
وها هو، واقفٌ كما عهدته، مستندٌ بظهره إلى الجدار، وذراعاه متشابكتان على صدره، وعيناه تسكنان الفراغ أمامه دون توتر أو قلق، وكأن لا شيء يمكنه أن يفاجئه.
اقتربت منه بخطوات واثقة، لكنه سبقني بالكلام، بنبرة هادئة تخلو من الحدة:
"ما الذي تفعله هنا؟"
توقفت أمامه وقلت بابتسامة قصيرة:
"لا يوجد شيء أفعله الآن، فقلت لنفسي... لمَ لا آتي وأسألك سؤالًا؟"
نظر إليّ نظرة مختصرة، لكن اهتمامه لم يتبدد.
ثم قال بعد لحظة صمت:
"اسأل."