مرت عدة أيام منذ وصولي إلى هذا العالم الغريب . في البداية كان كل شيء مربكاً ، مشوشاً ، وكأنني أعيش حلماً لا أفهمه . أما الآن ... فقد بدأت أتأقلم .

أصبحت أستيقظ كل صباح مع أول خيوط الشمس التي تتسلل من بين أغصان الأشجار ، أتمدد قليلاً ، وأتوجه إلى جدول الماء القريب لأغسل وجهي وأشرب ما يكفيني من الماء النقي ، البارد والمنعش ، وكأنه الشيء الوحيد الذي يذكرني بنقاء عالمي القديم .

بعدها أتوجه إلى العمل . لا يزال العمل مُرهِقاً ، فرفع الصناديق الثقيلة ، ونقل المعدات يتطلب قوة لم أكن أملكها من قبل ، لكن جسدي بدأ يعتاد الأمر تدريجياً .

أصابعي أصبحت أكثر صلابة ، وكتفيّ لم يعودا يؤلمانني كما في البداية . كنت أعمل بصمت ، أركز على كل مهمة تُعطَى لي ، ومع كل يومٍ جديد ، أُتقِنُ ما أفعله أكثر من اليوم الذي سبقه .

بنهاية اليوم ، أقبض أجري _ عشرة دولارات . ثم أتجه مباشرة إلى المطعم الصغير نفسه . أصبحت أتعرف على بعض الوجوه هناك ، حتى أنَّ النادل لم يعد يسألني عن طلبي ، فقط يبتسم ويقول :

" كالعادة ؟ "

وأومئ له بتعبٍ صامت ، فأنا بالكاد أملك طاقة للكلام .

كانت الوجبة هي نفسها : الأرز ، اللحم ، الأعشاب ، الشوربة ، والخبز بالزبدة . خمس دولارات مقابل دفء في المعدة وراحة مؤقتة .

بعد الوجبة ، أعود إلى الغابة . أجد المكان نفسه ، أستلقي على الأرض ، أتنفس بعمق ، وأغفو .

هكذا كانت أيامي تمر : عمل ، طعام ، نوم .

كأنني دخلت في دوامة رتيبة ، لكنها كانت بالنسبة لي بداية للاستقرار .

بداية لحياة جديدة .

لكن في إحدى تلك الليالي ، بعد يومٍ متعب آخر ، جلست في مكاني المعتاد بين الأشجار ، ورأسي مثقل بالأفكار . لم أستطع النوم بسهولة . الحنين بدأ ينهش قلبي من الداخل .

تذكرت وجوههم ... أمي ، أبي ، إخوتي .

صوت ضحكهم . دفء المنزل . تفاصيل صغيرة كنت أعتبرها عادية أصبحت الآن كنزاً مفقوداً .

نظرت إلى الهاتف الذي كنت أحمله معي منذ اليوم الأول . حاولت جاهداً أن لا ألمسه طوال هذه الفترة . لم يكن لدي شاحن ، ولم أكن مُتَأكِداً إن كان هذا العالم يملك كهرباء كما نعرفها ... لكنني لم أعد أحتمل .

" فقط نظرة واحدة ... فقط محاولة . "

ضغطت على زر التشغيل . الشاشة أضاءت بوهجٍ خافت في الظلام ، وتسلل النور إلى عينيّ كشعاع من ذكرياتي . فتحت تطبيق الاتصال . كان من السخف أن أتوقع وجود تغطية أو إنترنت ، لكنني حاولت . ضغطت على اسم " أمي " في قائمة المكالمات الأخيرة .

رن الهاتف ... مرة ... مرتين ...

لا إجابة .

أعدت المحاولة مع رقم أبي ... ثم أحد إخوتي ... ولا أحد يجيب .

أغلقت الهاتف وتنهدت ، ودمعة صغيرة كادت تهرب من زاوية عيني .

وقبل أن أطفئ الهاتف كلياً ، لمحت تطبيقاً جديداً لم أره من قبل .

كان اسمه : " ما وراء المجهول "

قطبت حاجبيّ . لم يكن موجوداً في قائمة التطبيقات سابقاً .

فضولي غلبني ، ففتحته .

ظهرت شاشة سوداء ، ثم رسالة قصيرة بسيطة ، وكأن أحداً كتبها لي خصيصاً :

" أنت ، يا من تحمل هذا الهاتف ...

لا تستخدمني إلا للضرورة .

فأنت تستطيع استخدامي خمس مراتٍ فقط . "

استخدمني بحكمة . "

تأملت الكلمات ، ثم انفجرت ضاحكاً رغم كل شيء .

" حتى في عالم غريب ، يظهر لي تطبيق غامض ؟ "

كانت الضحكة صادقة ، نادرة . شعرت بأن التطبيق الغريب لم يأتِ ليقدم لي خدمة ... بل ليذكرني بأن أبتسم . ضحكت ، وأغلقت الهاتف ، ثم نظرت إلى السماء التي تغطت بالنجوم ، وهمست :

" شكراً ، أياً كنت ... على الضحكة . "

2025/06/03 · 10 مشاهدة · 611 كلمة
Toleen Jaber
نادي الروايات - 2025