تبعت السيدة العجوز عبر الأزقة الضيقة ، بعيداً عن الأسواق والضوضاء . كانت تتحرك ببطء ، لكن خطواتها واثقة ، وكأنها تعرف كل زاوية في هذا المكان . بدا لي وكأننا نغوص في طبقة أعمق من هذا العالم ، طبقة لا يصل إليها سوى من يعرفها جيداً ... أو من ضَلّ طريقه مثلما فعلت أنا .
نظرت إلي فجأة وسألت :
" أول مرة تقضي فيها ليلة تحت سقف هنا ، أليس كذلك ؟ "
نظرتُ إليها بصمت ، ثم اكتفيت بهز رأسي .
أومأت فقط ، ثم أكملت سيرها .
بعد عدة دقائق من المشي ، توقفنا أمام باب خشبي صغير ، متهالك من الزمن ، لكنه ثابت . فوقه لافتة بالكاد تُقرَأ ، لكن اسم المكان كان واضحاً بما يكفي : " نُزُل السنابل . "
طرقتْ الباب ثلاث مرات بنمط معين . فتحته امرأة مسنة أخرى ، قصيرة القامة . تبادلتا نظرة صامتة ، ثم نظرت إلي وقالت :
" خمسة دولارات ، لا أقل . غرقة واحدة ، لا أسئلة . موافق ؟ "
توقفت قليلاً ، فكرت في المبلغ . خمسة دولارات كانت مبلغاً ليس بالقليل بالنسبة لي ، لكنها لم تكن كثيرةً أيضاً . تذكرت مئة الدولارات التي جمعتها بجهدي ، وعرفت أنني أستطيع تحملها هذه الليلة لأجل الراحة التي أحتاجها .
" موافق "
قبل أن أدخل المنزل ، توقفت للحظة ونظرت إلى الخلف ، إلى الطريق الذي أدى إلى الغابة التي كانت أول مكانٍ يأويني منذ مجيئي إلى هذا العالم .
ودعتها في صمت ، كأنني أودع جزءاً من نفسي ، وقلبي يثقل بحنينٍ غريب ، لكنه مليء بالأمل .
دفعت المبلغ ، وتبعت المرأة إلى الداخل .
الجو في الداخل كان دافئاً . ليس بسبب المدفأة _ فلم تكن هناك _ بل بسبب الصمت والسلام في المكان . الجدران من الطين ، الأرضية مفروشة ببساطة ، والغرف مفصولة بستائر قديمة . لم يكن فندقاً ، بل مأوى ... لكنه كان أفضل بكثير من الغابة .
مررنا بمطبخ صغير في زاوية ، بدا بسيطاً جداً . كان فيه موقد قديم صدئ قليلاً ، وأوانٍ معدنية متراكمة فوق طاولة خشبية مهترئة . رائحة الطعام البسيط كانت تعبق في المكان ، مزيج من الخبز الطازج والمرق الخفيف . بدا المطبخ كأنه قلب النزل ، حيث يجتمع الناس أحياناً رغم
بساطته .
دخلت غرفتي . كانت صغيرة ، فيها سرير خشبي مغطى ببطانية رمادية ، وطاولة عليها شمعة نصف محترقة . لا نوافذ ، لا مرآة ... فقط أنا ، والسكون .
جلست على السرير . نظرت حولي بصمت . كان المكان بسيطاً إلى درجةٍ قاسية ، خالياً من أي شيء يُشعرني بالدفء الحقيقي .
في تلك اللحظة ، عاد إلى ذهني شكل غرفتي القديمة ... السرير الذي كنت أتقلب عليه بلا هَم ، النوافذ الواسعة التي يدخل منها نور الصباح ، رائحة الكتب ، صور عائلتي المعلقة على الجدران ، وحتى ضوء المصباح الذي كنت أظنه باهتاً ... كم كان دافئاً .
أحسست بمرارة في حلقي ، وكأن الغصة علقت فيه فجأة .
اشتقت . اشتقت لكل شيء .
بيتي ... عائلتي ... حياتي .
لكن رغم هذا الألم ، لم أسمح له بابتلاع قلبي . كان هناك شعورٌ خافت ، كشمعة بعيدة في نفق طويل ، يقول لي إن هذا ليس نهاية الطريق ... بل بدايته .
ابتسمت بتعب ، وتمددت على السرير الخشن ، وأغمضت عيني . ربما لم أكن في بيتي ... لكني بدأت أضع أولى خطواتي في طريقي إليه ، مهما كان بعيداً .