الفصل الحادية عشرة

لم أقصد ذلك

_________________________________

مع حلول شهر سبتمبر المتقلب في العاصمة الملكية التي كانت شتاؤها اطول من صيفها نسائم الصباح الناعمة كانت تداعب الأزهار بهدوء

ولم يكن مختلفا الهدوء داخل قصر الامراء عن الخارج، منذ مغادرة كاليان كان كل شيء هادئا في القصر.

النوافذ على قاعة الطعام كانت لاتزال مفتوحة إذا أن البرد ليس شديدا بعد لإغلاق النوافذ فلهذا مع لحن الرياح كانت الازهار داخل القاعة تتمايل برشاقة وجمال

نظر راندال نحو المقعد المهجور للأمير الثالث ثم قلب بصره ونظر الى الامير الثاني وعندها تلاقت اعينهما، فبادر راندال على غير عادته بالحديث

- سمعت أنك هادئ منذ مغادرة كاليان

كان سؤالا كنوع من تنبيه لفرانز على ذاته، إذ كيف تأثر بغياب كاليان

فرانز الذي منذ سن مبكرة بدأ بشرب النبيذ بجنون، ولم يكن ينفع معه حتى منع الملك له مما كان يسبب الكثير من الفوضى كل يوم، لكنه منذ أن غادر كاليان القصر يبدو أنه اصبح هادئا بشكل غريب فكأنه فقد شيئا

- مؤسف جدا

عقد راندال حاجبيه بغير فهم لمقصد فرانز عن المؤسف، لهذا نظر راندال في عيني فرانز للحظات دون اجابة كأنه يفتش في روحه لكنه نظر الى الجانب نحو النافذة عندما لم يستطع ايجاد الجواب وتحدث بنبرة عابرة

- لانيستا ستنشر في الميدان اليوم.

لانيستا على الرغم من أنه يقال عليها ورق لكنها نوع من الصبار قوي كالخشب وفيها ميزة أنها تمتص السوائل التي يسقط عليها، وفي كايريس استخدمت هذه الأوراق كنوع من الطقوس في مراسم الاعدام الذي يقام دائما في ساحة هاتسورا وكانت هذه الأوراق التي تكون عريضة وكبيرة ينتشر على الساحة وتمتص الدماء التي تتناثر حول المكان من نحور المذنبين

الاعدام المقرر اليوم كان بحق ايلا الطائر الأزرق التي هاجمت كاليان، ولهذا كان مفهوما لفرانز تماما مقصد راندال في الأشارة إلى الهجوم الذي تعرض له كاليان، لهذا امال فمه بعبوس إلى الأسفل ثم تحدث بضجر

- اعتقد أن لديك سوء فهم كبير

ما ظنه فرانز من ذكر قضية الهجوم على هذه المائدة هو أن راندال يشك في أن سيليكا قد تكون من دبرت ذلك ولهذا رد بهذا التعصب مع ذلك في الواقع راندال لم يعتقد ذلك قط هو ليس أعمى من الوضع الحالي للملكة لهذا توقع جيدا بأن سيليكا لن تتصرف ضد كاليان في وضعها الحرج. مع ذلك لم يشكك بكلام فرانز وفقط اومأ برأسه ايجابا ثم اجاب لفرانز

- دعنا فقط نكن هادئين لفترة اطول قليلا

مع وضع العلاقة الاخوية في عين الاعتبار بين هؤلاء الأمراء كان كونهم في مثل هذا الوضع الهادئ معجزة ما.

لكن يقال بأنه في يوم من الأيام سينجذب المتضادون كل منهم للأخر، هل يمكن حقا لهؤلاء الامراء التمتع بمثل العلاقة الاخوية الجميلة؟ ينامون قرير العين دون القلق من أن ينزلق سيف بعضهم على نحورهم؟!

عاد صمت قاتل في الغرفة بعد ذلك الحوار القصير الذي كان مليئا بالشرارات، وعندما انتهى راندال من وجبته ازاح كرسيه ثم نهض وغادر بصمت، وبعده بقي فرانز في القاعة وحده غارقا بأفكاره

من سيقف حتى النهاية في هذا القصر المتوحش؟

هل سيكون هو؟ أم راندال؟ ام اصغرهم كاليان؟...

عند ورود كاليان برأسه نظر نحو مقعد كاليان وحينه تذكر بأخر مرة التقى به كاليان كان حين كان الأخير يصارع الألم من السم الذي يمزق احشاءه، هذا المكان خانق جدا...

فنظر نحو مقعد راندال الفارغ وهمس كأنما يحادث راندال

- كيف يمكنك أن تبقى هادئا دائما مع كل ما يحدث من حولك؟

__________________________...

عبس كاليان بشدة وهو يتحدث بغضب ويأس

- كل هذا بسبب المطر

عند مغادرته لقلعة لاتران اخذ شيا معه كما وعدها ليعيدها إلى غابة هيريكا

ومع ذلك قبل وصوله حتى للغابة اشتد المطر وتسبب بقطع الطريق الملكي الذي كان الطريق الوحيد نحو الجبال

نظرا لأن ارسين لم يستطع فتح الطريق بسحره تماما وقف خجلا بجانب كاليان في المجموعة، لم يكن أمام كاليان حينه سوى الأمر بالعودة لأخر قلعة استراحوا عنده ثم في صباح اليوم التالي عندما انجز عمال الأقليم عملهم وفتحوا الطريق مرة اخرى انطلق كاليان ومجموعته.

في الأساس كان لازال مشاعر كاليان مضطربة منذ احداث قلعة لاتران والسفر العسير في المطر وعلى حصانه جعله يزداد سوءا وكان مشاعر عديدة في نفسه يغلي ولم يجد من شيء يستطيع صب مشاعره عليه سوى المطر الذي كان في الاساس سببا لوقوفهم في لاتران ثم السبب في تأخر رحلتهم أكثر من المقرر فثم السبب بمعاناته لهذا صاح كان كأنما يحادث نفسه فهو لم يوجه حديثه لأحد محدد

- عندما نعود الى العاصمة سيتعين علينا بناء ناقلات فضائية

ابتسم يان بإحراج وقلة حيلة على غضب كاليان الذي يبدو انه وصل لذروته بسبب هذا الطقس وطول الرحلة

أما ارسين فتظاهر بعدم سماع تذمر الأمير، على أي حال، ناهيك عن بناء ناقلة فضائية هم لن يتجرأوا على الحلم بذلك حتى لهذا كان يعلم جيدا ان اقوال الأمير كان مجرد مشاعر عابرة بسبب رحلته الطويلة فقط وسرعان ما سينسى هذا...

انعطف مجموعة كاليان من الطريق الملكي نحو مسار جديد يقود للغابة وكان لترك شيا وما ان وصلوا لمدخل الغابة حتى اوقفوا الاحصنة فترجلت شيا، نظر كاليان حوله كان لديه رغبته في المبيت حول المكان لكن وجد المكان غير مناسب قط مع كونه بعيدا عن الطريق الملكي ثم هم بالفعل تأخروا كثيرا في هذه اللحظة سمع صوتها تحدثه

- تعال معي الى القرية،..... هناك لوكا، هناك الزعيم،..... أمير خذ قسطا من النوم،.... واذهب غدا

كان أكثر شيء معقول كانت قد قالته شيا منذ ان انضمت إليهم، ووجد كاليان بذلك فرصته في المبيت دون ان يتشرد في هذه القفار، رغم أن كاليان كل ما كان يفكر به هو مكان ليريح جسده المنهك وروحه المتعبة، الا ان لمجموعته كانت افكار اخرى كانوا كأي بشر أخرين فضولييين حول قرى الجان المخفية عن البشر وبدوا مغرمين بها تماما حتى قبل رؤيتهم اياه

استجاب لطلب شيا فدخلت خيولهم الغابة خلف شيا التي قادت الطريق بين الحشائش للكثيفة والأشجار الهائلة واستمروا في المشي والأشجار تظلهم حتى وصلوا لوادي كبير فيه قرية انيقة اقتربت شيا مع احد كبار الجان بعد فترة وجيزة من اختفائها وكانت قد شرحت له الموقف فتقدم الجني الكبير من المجموعة ثم سأل

- من هو ملك البشر؟

نظر كاليان نحو يان، لم يعلم بما عليه أن يجيب خصوصا بوجود الفرسان والخدم معه، هو أمير لهذا لن ينظر احد اليه على انه اذا اجاب بأنه ملك بنوايا حسنة. لهذا اجاب بحذر

- لا يوجد شيء اسمه ملك بشري هنا.

- هل هذا صحيح؟ يريد زعيمنا رؤية ملك البشر

- لن تستطيع ذلك.

على ما يبدو أنهم على خلاف مبعوثي الجان في عيد ميلاد الملك هنا فهم لا يفهمون النظام البشري، ومع ذلك كان كاليان مرهقا اكثر مما يجعله في مزاج لإلقاء محاظرة عن هذا للجان فتحدث مرة اخرى

- انا لست بملك، لكني قائد هذه المجموعة

فأومأ الجني بالايجاب ثم قال إلى كاليان

- حسنا،... اتبعني

فهكذا تبع كاليان الجان حتى وصلوا إلى منزل بدا أنه الأكبر في المدينة فوجدوا فيه جنيا وسيما الى حد ما بشعر فضي مثل هينا، وتحدث هذا الذي يجب أن يكون زعيم هذه القرية

- انا جيرار، شيخ قرية هيريسكا

فأجاب كاليان ببساطة تحيته

- كاليان راين كايريس

في تلك اللحظة اهتزت اذان جيرار الحادة مرة واحدة، نظر جيرار الى كاليان ثم قال

- سعيد بلقائك

- قال أنك تريد رؤيتي؟

- هذا صحيح اردت ان اسألك معروفا

اتسعت عيون كاليان في صدمة، هو بنفسه تعب من سفر مزعج ثم هذا العجوز استدعاه دون مراعاة وهاهو يطلب منه معروفا في أول أول لقاء لهم بدل ان يشركه على انقاذه افراد من عشيرته؟!!

فتحدث كاليان بنبرة منزعجة ممزوجة بتعب

- لا اعرف ما غايتك، من الصعب لي فهم جرك لي هنا بدل منحي اقامة لي ولرجالي بينما لا ازال منهكا من سفري واحتاج للراحة.

رد زعيم عشيرة الجان لكاليان

- انت ملك البشر....

زاد انزعاج كاليان الذي بنفسه كان يبحث عن من يتشاجر معه ليصب فيه باقي غضبه فتحدث مقاطعا الجني

- ليس زعيم، ليس ملك،... امير، انا امير بشري فقط.

- هذا أو ذلك...

فابتسم كاليان بشراسة وهو يرد بصوت مرتفع

- هذا وذلك، المعنى مختلف تماما

يان الذي كان يشاهد الحوار العقيم من الجانب لم يقل شيئا وهو يستمع لمبالغات كاليان في ردود افعاله الذي كان من الواضح يبحث عن شخص ليتشاجر معه فحسب، لم يفهم يان سبب سلوك اميره لكن كان من الواضح له ان شيئا ما قد حدث حتى جعل الأمير بهذا الاحباط

رد الجني متهربا عن مسألة الالقاب المعقدة التي تسببت له بصداع بسبب تركيز كاليان على ذلك

- على كل حال اريدك ان تساعدنا في عملنا

جيرار الذي كان يتحدث الهراء اكثر مما يتخيل بسبب معاندات الأمير له اخيرا وصل لنقطة فيه استطاع بوح مطلبه مجبرا الأمير على سماعه

- لوكا الذي عاد لتوه، كان اخرج جان اخرين معه من القرية

- لا، انتظر....

اراد كاليان التحدث لكن اكمل جيرار في خشية ان يقلب كاليان الموضوع مرة اخرى لشجار اطفال

- لم يعودوا منذ أكثر من عشرة أيام، لذلك خرج اثنان اخران للعثور عليهم قبل ثلاثة ايام وهم كذلك لم يعودوا

كل ما حاول كاليان سؤاله أن ما علاقة هذا الجحيم به؟؟

لكن جيرار استمر في الكلام لم يعط قط لكاليان المجال لمقاطعته

- العالم البشري ليس حتى ممتعا للغاية بل انه خطير وكبير لا اعلم لما دائما يزحفون من القرية ويختفون، احتاج منك مساعدتي في العثور عليهم، لا يعرف الجان هنا العالم البشري جيدا ولهذا لا استطيع ارسال المزيد من الجان

اخيرا سكت جيرار بعد ان ابلغ طلبه إلى كاليان كاملا، فحل لحظة صمت وبعد ذلك سأل كاليان بتعب باد بشكل رهيب على وجهه

- تريدني ان أجد خمسة من الجان المفقودين هنا؟ لماذا أنا؟

- لأنك ملك البشر..

تنهد كاليان بقلة حيلة وغطى وجهه بكفه يبدو أن الجان قد اختفوا في قرى البشر ولهذا زعيم عشيرة الجان هذا يريد منه المساعدة للعثور على رعاياه المختفين مع ذلك، حسنا حتى لو أراد ذلك كاليان نفسه لم يكن يعرف مكانا اخر في كايريس غير قصر تشيرميل فكيف يمكنه العثور على مفقودين بينما لو هو نفسه خرج وحده في المدينة سيضيع حتما؟!.

حتى لو تركنا عدم معرفته للمدن جانبا فهو لم يكن بمزاج يجعله يتقدم لمساعدة الاخرين ليس لديه الدافع ولا الرغبة بعمل أي شيء لهذا تحدث بعبوس

- ما هذا الهراء الذي تتحدث عنه؟...، تسك....

في النهاية قام كاليان من مقعده بغضب وأمر رجاله بانهم سيغادرون قرية الجان، فهو عندما دخل هذه القرية اراد ان يستريح لا ان يتحول إلى محقق محلي يبحث عن اثار بضع من الجان المشاكسين المفقودين سيفضل المبيت على قارعة الطريق الملكي كمتشرد على الاقامة هنا

وبصمت على تعابير كاليان المظلمة اسرع رجاله بالتحرك لكن تحدث جيرار بمحاولة لاقناع هذا الأمير متقلب المزاج

- انا لا اطلب المساعدة فقط منك دون مقابل، سأدفع لك بالطبع لقاء ذلك.

سمع كاليان من قبل عن كيف أن الجان لا يستطيعون العيش مع ديونهم لذلك إذا ما حصلوا على أي مساعدة فهم يتأكدون من سداد دينهم وفقا لمعاييرهم

مع ذلك لم يستمع كاليان هو في النهاية امير ما حاجته لبضع قروش من جني مزعج ليس لديه حتى اداب الضيافة؟

مع ذاك استمر جيرار بالكلام عندما وجد أن طرح مكافأة مجهولة غير مفيد

- سمعت أنك في طريقك إلى أرض سيغفريد هل هذا صحيح؟

توقف كاليان عند ذكر وجهته ونظر نحو جيرار بتساؤل لأول مرة

فأومأ جيرار بحماس وهو يتحدث

- الطرق البشرية بطئية جدا، ولكن اذا كنت تستخدم طرق الغابات فيمكنك تقليل مدة سفرك إلى الربع

طريق يجب قطعة في شهرين حسب ادعائه سيتم قطعه في غضون نصف شهر فقط

كان عرضا مغريا جدا لكاليان الذي لم يكن لديه أي رغبة لإكمال هذه الرحلة وكل لحظة كان فيه بالنسبة له عذاب لم يكن حتى مسألة يحتاج التفكير فيه، جد خمس من الجان ثم قلص رحلتك إلى الربع.

دون أي كلمة عاد كاليان الى منزل جيرار بهدوء

_______________________________

2021/09/06 · 652 مشاهدة · 1834 كلمة
نادي الروايات - 2025