“نيرجين! انتبه إلى الأمام!”
ما إن دوّى صوتي حتى توقّف نيرجين الذي كان يتقدّمنا، ثم اندفع بجسده مذعوراً.
في اللحظة التي أدرك فيها أنّ شيئاً ما كامن داخل الظلام المشؤوم، كان قد صار على بعد خطوة منه فقط.
نحن أيضاً، الذين كنا خلفه، انطلقنا يمنة ويسرة لتفاديه، وفي تلك اللحظة اندفع حصان عسكري غريب الشكل من بيننا.
كان جسده مغطى بالكامل بدرع معدني، وعلى ظهره أجنحة سوداء ريشية، وفي جبهته قرن بارز. كان بيغاسوس غارقاً في الفوضى.
“ما هذا الكائن؟!”
صرخت إليسيا، فأجابتها ماري:
“ه-هذا ليس بيغاسوس عادياً!”
ذلك البيغاسوس الذي كان يعدو ليتجاوزنا، توقف فجأة ثم استدار مندفعاً نحونا مجدداً.
كان يلفه دنس الفوضى، وهالته العنيفة تكاد تضاهي قوة فارس بلاتيني. لم يكن الروح المقدسة للصفاء والحكمة التي عرفها الناس باسم بيغاسوس.
“…البيغاسوس الذي أعرفه لم يكن كهذا أبداً.”
قالت أنيت بعينين مرتجفتين تنكر الحقيقة.
“صحيح، هذا ليس بيغاسوس عادياً.”
بصوت خفيض وحاسم، سمّاه جيلبرت:
“إنه بيغاسوس المجرّة ، ملك بيغاسوس الإمبراطورية، والفرس الوطني لسلالة كوزموس. إنه الكائن المقدّس المحبوب من نجم الإله كوزموس، والحارس الموكَل بحماية الباحة الداخلية للقصر الإمبراطوري…!”
وبينما كان بيغاسوس المجرّة يصرخ عالياً ويتهيأ لاندفاعة أخرى شرسة، دوّى إطلاق ناري أصاب درعه المعدني، فأصيب بالفزع وتوقف لحظة.
“مهما كان، سواء بيغاسوس المجرّة أو غيره، لقد ابتلعته الفوضى.”
التفت إليّ جيلبرت، فبادلت نظره من دون تردد.
“ماذا؟! لا تقل لي أنك تنوي إنقاذ ذلك الحصان أيضاً.”
“…لا.”
أشهر جيلبرت سيفه.
“قلبي يتوق إلى ذلك، لكن… لقد ضحى كثيرون في طريقنا حتى الآن. لا يمكن أن نسمح لتضحياتهم أن تذهب سدى!”
“هاها! أحسنت.”
دفعت سيلينا جيلبرت إلى الخلف ووقفت في مواجهة البيغاسوس، رافعة سيف القمر.
“انطلقوا أنتم. لدي من البصيرة ما يكفي. سأؤدي دوري كالمُسانِدة وأترك الساحة لكم. أسرعوا.”
“السيدة سيلينا!”
“كنت شغوفة بمصارعة الثيران في شبابي! وقلتُ لكم من قبل، أليس كذلك؟ أنا من محبي الحيوانات! هاها! هيا، لنجرّب لكمة حماية البيئة!”
وهي تصرخ وتضحك، اندفعت نحو الوحش وسيف القمر بيدها. أما أنا فأدرت رأسي بعيداً قبل أن أرى النتيجة.
“إذن، نعتمد عليكِ.”
كان في صدورنا الكثير مما نود قوله، لكن الآن وقت الحركة.
“هيا، نتحرك.”
لا مجال للتوقف.
“أنتَ… استرح قليلاً.”
“لا، لا… سآتي معكم.”
كان جيلبرت يلتفت للخلف متردداً، لكنه التحق بي من جديد.
بعد دايني، ها هي سيلينا أيضاً قد انسحبت من الصفوف. اثنان من الفرسان البلاتينيين، الذين يعدّ كل واحد منهم سلاحاً استراتيجياً بحد ذاته، خرجا من التشكيل.
…
…
…
واصلنا الركض في صمت. لم يُسمع شيء غير إرشاد نيرجين وجيلبرت للطريق.
تقدّمنا عبر ممر طويل منقوش بزخارف دنسة، مررنا بزوايا مجهولة نجهل ما يترصد وراءها، واجتزنا قاعة هائلة تُعظّم الفوضى. كنا نشق طريقنا في أفظع ما يمكن أن يكون من معاقل الظلام.
“احذروا!”
“اتخذوا تشكيل الدفاع!”
فجأة انبثقت مجسّات الفوضى من الجدران اليمنى واليسرى. كانت هجمة مباغتة، لكن جميعنا هنا محاربون مهرة. بورد حمى ماري ولوري، والآخرون تفادوا وضربوا كلٌ حسب براعته.
“لا تنشغلوا! التزموا التشكيل واقتحموا الممر!”
تألقت عينا بورد مع صرختي، فتقدّم للأمام.
“أنا سأتولى دور الصدمة الأمامية!”
ارتفعت من درعه طاقة جبّارة مستمدة من هيبة الغابة. وعلى جانبيه اصطف جيلبرت ولينا كجناحين. صار أشبه بثور هائج ذي أجنحة.
وفي الخلف، أضاء وهج أحمر. كان في يد إيليشيا اليسرى القوس القرمزي العظيم، قوس هارماديون. لقد اندثرت وصمة اللعنة حين مات جوبركا، فتعافت جراحها.
“سأفتح لكم الطريق!”
انطلقت السهام القرمزية، وردّات هارماديون الوردية شقّت الممر طولاً ممزقة المجسّات.
“الآن!”
“إلى الأمام!”
اندفع بورد كالثور المسعور متقدماً بدرعه فوق المسار الذي فتحته إليسيا، فيما قطع جيلبرت ولينا المجسّات المتبقية على الجانبين. وكل من بقيت أمامه عقبة، تكفّل بها بنفسه.
“تبا! ما أبشع هذه الأشياء!”
لوّحت أديلّا بيدها، فانبثق رمح ذهبي انطلق دوراناً، يذبح المجسّات واحداً تلو الآخر.
“ما هذه الكائنات بحق السماء؟!”
بصوت عميق وجاد أجاب نيرجين:
“إنها نتيجة تحوّل الواقع . كلما ارتفع معامل الفوضى، بدأت كل عناصر الواقع تخضع لعبودية الكاووس… المعادن، الأعشاب، الهواء، الماء… كل جزء من الطبيعة يتشوّه ويتحوّل إلى وحش فوضوي.”
“ماذا تقول…؟! هذا يعني أنها قوة إلهية!”
نعم… إن خصمنا الحقيقي، هو إله.
“لو لم نكن جميعاً كيانات قوية بذاتنا، لكنا قد ابتُلعنا منذ زمن وأصبحنا عبيداً للفوضى.”
“…فظيع!”
“والأسوأ لم يأت بعد. كلما اقتربنا من قلب القصر، ازدادت الفوضى كثافة. وعندما تبلغ ذروتها… قد نواجه كياناً لا يمكن تخيله، كائناً يخرق قوانين الواقع ومفعماً بالقداسة الدنسة.”
وكما قال نيرجين، لم يمض وقت طويل حتى تحققت نبوءته.
بعد أن اخترقنا بصفٍّ مثالي هجمة المجسّات التي انبثقت من الجدران، واصلنا التقدّم نحو العمق.
والآن لم تعد الجدران فقط؛ بل حتى الأرض والسقف قد امتلأا بمجسّات تتحرك وتلتف. لكن لوري بمدفع النيران وماري بمدفع المياه ضغطتا على الجبهة الأمامية، مما فتح لنا المجال.
مجسّات الفوضى كانت تخنق كل شيء تلامسه وتحوّله. نعم، كانت محنة مزعجة، لكن قوتنا فاقت.
مهما كان عددها، مزقناها واخترقناها حتى بلغنا نهاية الممر.
“هاه!”
“أخيراً خرجنا!”
“لكن… أين نحن الآن؟!”
القاعة العظيمة. وكما توقّعنا، كانت مليئة بالزخارف الدنسة والمنحوتات المرعبة، حتى أنّ الفوضى المتكاثفة كضباب داكن كادت تخنق أنفاسنا. لحسن الحظ، لم يظهر عدوّ للعيان.
هل عليّ أن أحرّر قليلاً من قوة الروزاريو؟
إلى هذا الحد بلغ ضيقي حتى راودتني تلك الفكرة. وفي تلك اللحظة بالذات—
“دعوني أتولى الأمر.”
تقدّم هيكثيا ولوّح بسيفه، فانطلقت ألسنة اللهب لتملأ القاعة وتبعث حرارة حارقة.
كانت تلك النيران تجسيداً لعالمه الذهني نفسه. أحرقت الفوضى المحيطة وحدها، لتمنحنا لحظة قصيرة من هواء صافٍ نتنفسه.
بدت القاعة أكثر إشراقاً مما كانت، وبات الباب العظيم في الجهة المقابلة مرئياً بوضوح.
“…بديع.”
دوّى صوت مفاجئ جعلنا جميعاً نتأهب.
فُتح الباب المقابل بعنف، وتدفقت الفوضى كالدخان، ومن داخله خرج رجل.
رداء أسود يرفرف، درع حالك يغطي جسده، وقفّازات معدنية من أطراف أصابعه حتى ساعديه تتلألأ كالشمس. وفي صدر الدرع قلادة لامعة كالقمر في ليلٍ حالك.
“أيها الأبطال الفانون.”
عندما واجهناه، تجمّدت أوصالنا.
قوي!
ما هذه الهالة…؟!
من يكون هذا…؟!
معنا ثلاثة من فرسان الماس، وأكثر من عشرة من فرسان البلاتين في قمة قوتهم.
“أوه، حتى الوحوش بينكم؟ هذا جديد.”
ولو أضفنا سباستيان، لكان العدد أكثر.
وأخيراً… ها هو يظهر. الزعيم النهائي الذي ظهر حتى في الأصل حين اجتاز جيلبرت أول زنزانة.
“الإمبراطور…”
أنظروا إلى يديه المشعتين كالشمس. تذكّروا القلادة القمرية على صدره.
“أنت…!”
ولم أكن الوحيد الذي عرفه. رينا، الفارسة التي خدمت أجيالاً من العرش الإمبراطوري الكوزموسي، و… ولي العهد جيلبرت.
“دوراكافتل…!”
تقدّم جيلبرت بخطوة من بيننا، يحدق بعينيه المتسعتين نحو الإمبراطور دوراكافتل.
“همم؟ ومن تكون…؟”
لم يكن دوراكافتل يتوقع أن يسمع اسمه، فتطلع إلى جيلبرت باستفهام. وكذلك رينا بجانبه، إذ بدا لها شكّ غامض من ملامحه.
“…أوه… لا يمكن.”
لكن ما حسم يقينه لم يكن الوجوه، بل سيف واحد.
“أنت هو!”
يد الشمس، قلادة القمر… ومعهما سيف الفضاء الذي يرنّ بصداها.
“إنه نسل أولئك النسوة اللواتي فررن مني قبل مئة عام مع ذلك السيف!”
اندفعت من جسده عاصفة هوجاء من الفوضى، حتى ارتجفنا من شدّة وقعها. صاح هيكثيا:
“تبا! من هذا الوحش؟!”
“ومن تظن؟”
وحين لوّحت بيدي، مزّقت قوّة القداسة إعصار الفوضى، وارتفع ردائي عن رأسي. رمقني دوراكافتل بعينيه مباشرة.
“إذن أنت هو ذاك الشاذ… كلب كوزموس الصيّاد القادم من عالم آخر، ممزق المصائر. هه، لا تبدو بتلك القوة.”
“إنه المذنب الذي أسقط إمبراطورية كوزموس. الإمبراطور المنبوذ.”
“بقتلك، سيسعد سيدنا كاووس نفسه. لقد أفسدتَ خططه الكبرى طويلاً، لكن الآن انتهى أمرك.”
“لقد خُدع بمشروع ارتداد الزمن مع بابا كوزموس، فخان الإمبراطورية وانضم إلى كاووس. الخائن.”
“ومنذ وقوفك أمامي، انتهى مسارك يا عدوّ القدر… مارتين فون تارغون وولفهادين.”
“هو جد جيلبرت الأعلى. آخر أباطرة كوزموس—دوراكافتل أوبر كوزموس.”
اتجهت كل الأنظار نحو جيلبرت. والحق يُقال، لم يعد من الممكن إنكار الشبه بين ملامحه وملامح دوراكافتل.
شُهر السيف بصوت معدني. أخرج جيلبرت سيف الفضاء ووجّهه نحو الإمبراطور.
“…امضوا أنتم. أما هذا فشأني.”
“تبا! ورغم أنك من نسلي، لا تميّز الحق من الباطل.”
تردّد دوراكافتل قليلاً أمام الباب، ثم فجأة تنحّى جانباً.
“جيلبرت، إن كنت حفيدي، فلتبقَ وحدك. أما البقية، فامضوا إن شئتم. صحيح أنّني أود الإمساك بالعدو أيضاً، لكن لا بأس. هنا والآن سألقّنك آداب الدم والوراثة.”
لم نصدّق أنه سيفسح لنا الطريق. بينما تردّد الآخرون، لم أتردّد أنا لحظة واحدة وتقدمت.
إن أمثال هذا المتغطرس لهم جانب غريب… لا يكذبون أبداً.
تبعتني أديلّا ولوري وأنيت، ثم لحقنا هيكثيا وكازاكس.
“نيرجين.”
“…نعم، السيد مارتين.”
“تعال معنا.”
كان في عينيه حقد واضح على دوراكافتل، لكن وقته لم يحن بعد ليسقط. التفتُّ إلى رفاق جيلبرت.
كنت أعلم أننا سنتفارق في هذه النقطة. لكن حين حانت اللحظة فعلاً، شعرت بثقل غريب.
هنا بالذات هو خاتمة الأصل. ساحة المعركة الأخيرة. وأنا… أستعد لعبور ما وراءها.
“…إذن، أستودعكم الأمر.”
كثيرة هي الكلمات، لكن وقتها لم يحن. كنا على وشك العبور من الباب الذي أفسح لنا دوراكافتل.
“ههه… كلب كوزموس.”
“ماذا الآن؟”
ناداني الإمبراطور، بعيون بريئة كصبي يلعب لعبة المطاردة.
“أسرع بالذهاب. فبعد أن تحصل على سيف الفضاء، سأأتي بنفسي لاصطيادك.”
“….”
كنت على وشك الردّ عليه باستهزاء حين—
“مارتين!”
ناداني جيلبرت. كان إلى جانبه رينا وإليسيا وبورد وماري، جميعهم يستعدون للقتال. أشار إليّ قائلاً:
“لا تبتعد كثيراً بسرعة!”
ابتسم بثقة.
“سألحق بك قريباً!”
“أيها الوقح الصغير!”
بدأت المعركة. معركة القدر بين الإمبراطور الساقط دوراكافتل، الذي جرّ إمبراطورية كوزموس إلى الهاوية، وبين آخر وريث للدم الملكي والمختار بالسيف—جيلبرت.
*
*
*
م.م من هالفصل ورايح اذا شفتو اخطاء املائية اعذروني بحاول حاليا انهي ترجمة الرواية باسرع وقت ممكن