كارين كانت تحدّق إلينا بعينين متسعتين، وكأنها لا تكاد تصدّق ما حدث.
"…لم أتوقع حقًا أنكم ستنجحون."
آنيت كانت مطروحة في زاوية بعد أن تهشّمت عظام جسدها، ولوري غارقة في إغماءٍ تام بعد أن استنزفت كل طاقتها، أما أديلّا فكانت بالكاد قادرة على البقاء جالسة على العرش الذهبي، تحافظ بصعوبة على استمرار الحاجز.
لكن لا بأس.
"الآن…"
سأتولى كل شيء بنفسي.
المسدسان أطلقا خيوطًا من ضوء النجوم. رصاصات مقدسة تنهال على كارين كزخات نيزكية، تنحرف وتعود في مسارٍ منحنٍ، فيما هي بدورها تشهر سيفها ومسدسها لتصدّ الهجوم.
لم يعد بوسعها استدعاء الثقب الأسود. لم يعد أمامها خيار سوى الصدّ المباشر.
"تبا!"
القوة القدسية والسلطة الذهبية تملأ المكان وتضغط عليها من كل جانب.
"هنا لم يعد لقوانين الفوضى سلطان!"
بعض الرصاصات أصابتها رغم محاولاتها الحثيثة للتصدي. حراسة الفوضى حولها تتشقق، وإن لم تنهَر تمامًا.
"هذا الآن نطاق الكوزموس!"
وبين زخّات النيازك، اندمجت طلقة عملاقة كالشهاب، رصاصة لوري المقدسة التي ارتطمت بجنب كارين.
"…؟!"
حماية الفوضى انكسرت، فانكشفت بلا دفاع. اندفعتُ بخطوط نجمية خلفي، وأشهرْتُ البندقية لأطلق، لكنني فجأة انخفضت ووجهت لها ركلة قوية في خاصرتها.
"كاه!"
جسدها انثنى واندفع بعيدًا، وقد انشغلت عينها بالبندقية ولم تحسب الضربة الجانبية.
(أجل… كما توقعت!)
كارين ليست صاحبة خبرة قتالية كبيرة!
(فهي لم تكن محاربة من الأصل!)
حتى لو مُنحت قوة الفوضى، لم تكتسب العمق القتالي الحقيقي.
"كارين!"
ضغطت على زناد البندقية فأطلقت رصاصة مشبعة بالقوة المقدسة. هي بدورها، مطروحة على الأرض، بادرت بإطلاق رصاصات لتفجيرها قبل أن تصل. لكن…
"هيهات!"
رصاصات الدعم من لايلاك اعترضت طلقاتها.
عين كارين اتسعت فجأة. نهضت بتدحرجٍ سريع لتصدّ الهجوم بسيفها، لكن ذراعها التوت وارتفع صوت العظم وهو ينكسر. لم تكد تمهل نفسها لحظة حتى ضربت كسرها بمؤخرة المسدس وأعادت العظم إلى مكانه، ثم ربطته بخيوط الفوضى.
لكننا لم نترك لها مجالًا.
"سيباستيان! انقضّ عليها!"
هجم الكلب الصياد العملاق من السماء على موضعها، فكاد المكان يهتز كالزلزال حين هبط، وفتح فاه ليطبق عليها.
كارين ترددت. تستطيع أن ترد الهجوم، لكنها إن أخطأت لحظة واحدة قد تفقد ذراعها، أو ربما تنهش نصف جسدها.
اختارت المراوغة.
"تبا!"
من ناحية أخرى، كان أنين أديلّا المؤلم يصلني. الرمال الذهبية التي غطت الجدران بدت تتشقق.
(يجب أن نعجّل!)
"كارين!"
اندفعتُ نحوها بمسدسيّ. رصاصات مقدسة تصطدم برصاصات فوضوية، السيوف والمسدسات تتقاطع على بعد أقل من شبر. تبادل خاطف للضربات حتى يكاد البصر يعجز عن تتبّعه.
(أستطيع…!)
أصبح الأمر أسهل من ذي قبل. هذا هو مقام الفارس الماسي!
روح بلغت ذروتها تستطيع تجاوز قوانين الكون قليلًا. الثانية الواحدة للبشر العاديين قد تُحسب لنا بعشر ثوانٍ.
"سيباستيان!"
[غروووو!]
دور الكلب العملاق حول كارين يضغطها بمخالبه، بينما لايلاك فوق ظهره تطلق قنصاتها بلا هوادة. ومع ذلك، صمدت كارين. وفي لحظةٍ نطقت:
"مذهل حقًا."
نعم، هو أمر مذهل. لكن…
"إن ظننتم أن هذا هو أقصى ما أقدر عليه…"
كنت على وشك الردّ، لكنني تجمدت.
"…"
عيناها… كانتا تتلألآن بياضًا.
"سيدي مارتن… أرجوك… أنقذ شقيقي."
كلماتها تناقض أفعالها، إذ لم تتوقف يدها وهي تصوّب سيف الفوضى إلى عنقي، فأصدّتُه بمسدسي.
"شقيقي… لم يسقط في الفساد!"
رصاص الفوضى اعترضته رصاصاتي المقدسة.
(ما هذا؟!)
داخل عينيها، تلألأ خيط من نور النجوم. كنجمة وحيدة وسط فراغٍ مظلم.
"كارين! ما الذي تقولينه؟!"
"آهغ! بقايا قذرة ما زالت بداخلي… تبا!"
بدأت عيناها تتقلبان بين السواد والبياض.
العالم العالِم (Master) يحلّل: واضح أن كارين خبأت جزءًا من وعيها قبل أن تلتهمها الفوضى، ومع تعرّضها للسلطة المقدسة ظهرت للسطح!
عادت عيناها لتضيئا بالبياض.
"الفوضى… تحاول نسخ روح شقيقي!"
وفجأة اندفعت مبتعدة، متجهة نحو سيباستيان ولايلاك.
سيباستيان زمجر وفتح فاه مطلقًا عواءً مخيفًا. الموجة الصوتية أوقفتها لبرهة.
"إنها تصنع نسخة مشوّهة من روح شقيقي، وتدّعي أنه سقط في الفوضى!"
عندها فهمت. أجل… لا يمكن أن يكون قد فسد. الفوضى تغزو الروح وتشوّهها، لكن روح القديس نقية لا تنكسر. قد يتعب، قد يضعف، لكنه لا يفسد. أبدا.
لذا حاولت الفوضى أن تبتكر نسخة زائفة، مشوهة، لتدفع جسده إلى استخدامها.
"اهزموني هنا! قد فات الأوان عليّ، لكن شقيقي…!"
تلاشت النجمة في عينيها، واكتسح السواد. لم يكن انقلابًا داخليًا فحسب، بل ابتلاعًا تامًا لآخر بقايا وعيها.
انفجر جسدها بفيضان من الفوضى. تراجعت للخلف لتثبت موطئها، ثم وجدت نفسها أمام الباب العظيم لقاعة الوليمة.
"لقد أسأتُ التصرّف… لم أتوقع أن تبقى بقايا النجاسة في داخلي."
ثم سعلت دمًا. جراح المعركة أنهكتها.
(قليل فقط… وسنسقطها!)
قتل شقيقة القديس كان يثقل قلبي، لكن بعدما توسلت لي أن أفعل… لم يبقَ تردّد.
رفعت بندقيتي، فيما لايلاك وسيباستيان أعادا استعداد القتال.
"…لا خيار إذن."
لكنها بدأت تتراجع خطوة خطوة.
"بما أن الخطة أوشكت على الاكتمال… لم يبقَ إلا أن أستخدم الملاذ الأخير."
ترنحت حتى سقطت جالسة أمام الباب العظيم.
"مهلاً… ماذا تفعلين؟!"
غرائز الصيد (Master) تحذّر: استعدّ للصدمة!
ضربت الأرض بقبضتها، مستهدفة الحاجز الذهبي الذي بالكاد تحافظ عليه أديلّا.
تشقق الحاجز، وتسللت يدها بين الفجوة لتجذب باب القاعة وتفتحه قسرًا.
(ما الذي تنوي فعله؟!)
انفتح الباب العظيم. ومن القاعة الكبرى حيث كان يتمّ تنفيذ سقوط القديس، اندفعت كائنات الفوضى كأنها موجات مدٍّ عاتية، لتغمرنا وتحيط بنا.
"كُح… كُح!"
حلَّ بي إحساسٌ خانق وكأنني ابتلعت حفنة من الرمال في قلب الصحراء. صدري يضيق، وقلبي ينقبض، وأوردتي كأنها انسدت.
لم أستطع تحمّل هذا الاختناق، ففككت درع الفارس الأسود، وعباءة صانع السلام. النجوم المتجسّدة التي استدعيتها قبل قليل تلاشت كذلك، ولا أثر لها.
(حسنًا…)
بفضل قِصر المعركة، لم أشعر كثيرًا بأعراض هبوط نجم السيادة.
(لكن… ما هذا المكان؟)
إنه… الفوضى.
نظرتُ حولي. لا شيء. ظلام، ظلام، وظلام أعمق. كأنني انحدرت إلى أعمق نقطة في فراغٍ لا نهاية له.
"ألا يوجد أحد؟"
ارتدَّ صوتي في الفراغ كأنني أنادي في بئرٍ مهجورة.
(اللعنة…)
لا أرى شيئًا. لا أسمع شيئًا. لا حتى جسدي أو دقات قلبي.
(يا خبير… يا حس الصحراء…)
أستدعيهما، لكن لا جواب.
(هل هذا وهم؟)
لا، ما دمتُ أملك الخبير، فلن أسقط في الوهم. ولا حتى في أي هجومٍ نفسي آخر. حس الصحراء يبقيني دائمًا يقظًا، حاد الإدراك.
(هل انقطع الاتصال؟)
هذا ليس وهمًا. أنا الآن أسيرٌ في بحر الفوضى.
…
أخذت نفسًا عميقًا وطويلاً لأتماسك. في مثل هذه اللحظات، يجب أن أكون أكثر هدوءًا من أي وقت مضى.
(الفوضى تغزو العقول.)
إن أردتُ ألّا أقع تحت سيطرة الكاووس، فعليَّ أن أتماسك. هذه آخر معركة لإنقاذ العالم. إن أخطأت الآن فسأندم إلى الأبد.
(إلى الأمام.)
تقدّمتُ صامتًا. الجهات الأربع فقدت معناها منذ زمن، لكنني سرتُ في الاتجاه الذي أظنه باب القاعة الكبرى الذي رأيته آخر مرة.
وربما هذا وهم أيضًا. كنتُ أمشي كالضرير، كمركبٍ صغير في بحرٍ هائج تتلاعب به الأمواج والرياح بلا دفة ولا بوصلة.
وبينما بدأتُ أفقد تركيزي وتثقل روحي، سمعتُ:
"هيه!"
شهقتُ. صوتٌ في هذا الفراغ؟! بدا مألوفًا كأنه يعرفني. قلبي أسرع بالخفقان، وعرقٌ بارد سال من جبيني.
التفتُّ نحو مصدر الصوت، لكن…
"…؟"
لا شيء سوى الفراغ الخاوي.
"هل هي هلوسة؟"
لكنه كان واضحًا جدًا. ومع ذلك، انتظرتُ ولم يتكرر الصوت.
واصلتُ السير.
"هذه رواية؟"
"…!"
التفتُّ ثانية، لكن لا شيء سوى الفراغ. شعرتُ بقلقٍ مجهول يدفعني للإسراع.
"يا عديم القدرة…"
"هَه!"
هذه المرة ركضت. جسدي الذي بلغ مرتبة البلاتين والماس يجب أن يكون سريعًا، لكن قدماي ثقلتا، وقلبي غدا عبئًا من حديد.
"لهذا تخلَّوا عنك."
"من هناك؟!"
صرختُ والتفتُّ، لكن لا أحد. ومع ذلك، أشعر بوجوده. نظرتُ يسارًا.
"من أنت منذ البداية؟!"
ثم يمينًا.
"أيعجبك أن تختبئ وتتحدث هكذا؟! أظهر نفسك ودع هذه الألاعيب التافهة!"
حينها سمعتُ:
"يا."
استدرتُ نحو الاتجاه الذي كنتُ أسير إليه. هناك…
رأيته. صديقي القديم، يجلس في مقهى مرتديًا بدلة كاجوال أنيقة، يضرب بكفّه الطاولة بانزعاج.
"…آه…"
"إلى متى ستعيش هكذا؟!"
"…"
"أنت في الثلاثين الآن! هيا!"
"…"
عرقٌ بارد يسيل من جبيني. هذا… هذا هو، تروما كيم آنهيون. عائلتي الأصلية، أصدقائي، يرونني الآن.
"…!"
تلك النظرات، نظرات احتقار وشفقة.
"ههق…!"
أتنفس بصعوبة.
"آنهيونا، ما زلتَ تكتب روايات؟!"
"الجميع وجد وظيفةً الآن!"
"جاركم حين كنتم صغارًا تزوّج منذ فترة."
"صديقي، سافرنا للخارج برفقة الأصدقاء."
"لماذا تعيش هكذا؟"
أنا… قبل أن أصبح مارتن كنتُ كيم آنهيون. في الثلاثين من العمر، لا أجيد شيئًا سوى كتابة القصص، وحتى ذلك كنتُ فيه عالقًا كمؤلفٍ فاشلٍ أبدي.
تركتُ عائلتي وأصدقائي، وكنتُ أنا نفسي أشعر بالعار، وأفكر بالموت. كنتُ أحلم أحلامًا براقة فيما واقعي يسقط إلى الهاوية.
"أنا، أنا…"
ركبتاي ترتجفان. سقطتُ على إحداهما، وقطرات العرق تتساقط باردةً. تشوشَ عقلي، لكني تمسكت به.
(اللعنة، ما هذا؟!)
أعرف. هذا وهم. أعرف أنه ماضٍ مضى.
لكن الذكريات، الأحاسيس، المشاعر… كلها حيّة، بل مضخَّمة. أنفاسي تختنق. سأنفجر.
(تبا!)
رفعتُ يدي وأخذتُ أضرب رأسي. الألم يشتد. أمسكتُ برأسي بقوة.
لا، لا، هذا وهم. وهم فحسب!
"لا، لا…!"
"لا ماذا؟! اخرج واعمل قليلًا! جالسٌ دائمًا أمام الكمبيوتر!"
لا يجب أن أتوقف هنا. أنا… في قتالٍ لإنقاذ القارة…
"عليّ أن أتماسك…"
"أجل، تماسَك! تنقذ القارة؟! هوس بالروايات؟! ارْمِ تلك الفلسفات التافهة!"
القديس… عليّ إنقاذ القديس…
"إنه وهم…"
"أي وهم! قديس؟! هذا هو الوهم والخيال الذي تتحدث عنه! في هذا العمر! توقّف عن الهروب وحاول فعل شيء!"
أحاطت بي تلك الأطياف، تقترب حتى لم تترك لي موضع قدم. وجوههم، أيديهم، عيونهم…
"هاه… هاه…"
أنفاسي تتسارع رغم أني لم أتحرك كثيرًا. دوار. عرقٌ بارد. لا، هكذا لن أنجو.
"تبا للجميع! اصمتوا!"
اعتدلتُ مترنحًا، أطعن قلبي بسيفي. أتحمل الألم.
"لن يوقفني أحد عن طريقي…!"
"حتى لايلاك."
"…!"
توقف قلبي.
"هل تعرف حقيقتك؟"
التفتُّ ببطء كآلة صدئة. هناك، كانت لايلاك تنظر إلي.
ذلك البصر… آه…
"لايلاك، أنا… أنا…"
حركت لايلاك شفتيها. صوتٌ يخرج منها، لم أظن يومًا أني سأسمعه منها، لكنه كان واضحًا ومشحونًا بالمشاعر.
وهكذا… انهرتُ تمامًا.