زهرة ميرفيا...
تلك الزهرة ذات اللون البنفسجي الفاتن، لم يكن هناك أي زهرة أخرى تشبهها في القصة. "كانت زهرة أسطورية، يُقال إنها تستطيع شفاء أي مرض، حتى الغيبوبة الغامضة التي أصابت الدوقة.
وفقًا للرواية، لم تكن زهرة طبيعية، بل كانت من صنع الساحر الأعظم والأول في هذا العالم، ذلك الرجل الذي امتلك أقوى مانا، والذي لم يستطع أحد هزيمته أبدًا. ومع ذلك، لم تذكر الرواية تفاصيل كثيرة عنه، وكأنه كان مجرد ظل في طيات القصة، شخصية أسطورية طواها الغموض.
لكنني متأكدة... متأكدة تمامًا أن زهرة ميرفيا ذُكرت في الرواية!
أتذكر أن الأميرة سيلينا قد عثرت عليها في مرحلة ما، لكن... التفاصيل المحددة؟ لا أستطيع تذكرها جيدًا.
إذًا، لماذا يقول أمين المكتبة إنها مجرد خيال؟!
"ألم تسمع عنها؟ بالطبع هي حقيقية!"
كانت كلماتي مشحونة بالإصرار، نطقت بها وكأنني أحاول أن أتمسك بآخر خيط من الأمل. لكن الرجل أمامي لم يظهر أي علامة على التردد، بل تنهد ببطء، ثم نظر إلي بعينين هادئتين كأن ما أقوله مجرد وهم.
"آنسة أوريانا، إنها مجرد خرافة."
قالها بصوت ثابت، كأن الأمر محسوم ولا جدال فيه.
"الناس هم من اخترعوها، لا يوجد أي دليل حقيقي على وجودها. حتى في كتب الدوقية، التي تُعد من أندر الكتب وأكثرها دقة، لم تجدي أي ذكر لها. ألا يكفيكِ هذا دليلاً على أنها ليست أكثر من قصة متداولة بين الناس؟"
تجمدتُ في مكاني، كلماته سقطت فوق رأسي كصخرة ثقيلة، شعرتُ بها تحطمني ببطء.
"مستحيل...!"
همستُ بذلك دون وعي، عيناي تلمعان بعدم التصديق. كيف يمكن أن يكون هذا صحيحًا؟
قبضتُ يدي بقوة، أظافري انغرست في راحتي دون أن أشعر بالألم. لا، لا يمكن أن يكون مخطئًا... لكنني متأكدة! رأيتها في القصة! البطلة، سيلينا، عثرت عليها... أليس كذلك؟
تسارعت أنفاسي، شعرتُ بصدري ينقبض وكأن الهواء بدأ ينفد من حولي. لا... لا يمكن أن تكون مجرد خرافة، أحتاج لإيجادها، وإلا—
أغمضتُ عيني بقوة، حاولتُ أن أهدئ الفوضى التي اجتاحت رأسي. ولكن الفكرة كانت تضربني كالمطرقة:
"إذا لم تكن الزهرة موجودة... فلن أتمكن من إنقاذ الدوقة."
شيء بارد زحف في داخلي، إحساس يشبه الفراغ العميق...
"هل هذا يعني أنني فشلت؟"
شعرتُ بتلك الفكرة تثقل روحي. حتى بعد أن مُنحتُ فرصة جديدة للحياة... هل سأظل عاجزة؟ هل سأظل عديمة الفائدة كما كنت دائمًا؟
لم أستطع الرد. فقط، وقفتُ هناك... غارقة في صمت قاتل.
"آنسة أوريانا، هل أنتِ بخير؟"
صوته المليء بالقلق اخترق أفكاري المشوشة، فانتبهت لأني كنت أحدّق في الفراغ دون أن أعي ذلك. رمشت ببطء، ورفعت رأسي نحوه، لأجد وجهه القَلِق يحدّق بي.
"لقد ناديتكِ أكثر من مرة ولم تجيبي... وجهكِ شاحب جدًا،" قالها بنبرة مترددة، وكأنه لا يعرف إن كان عليه مواصلة الحديث أم لا.
شعرت بوخز في صدري، وكأن شيئًا ثقيلًا ضغط على أنفاسي. هل ما أشعر به ظاهر بهذا الوضوح؟
"هل هذا... بسبب أن الزهرة ليست حقيقية؟" سأل، وهو يميل قليلًا للأمام، عاقدًا حاجبيه في حيرة صادقة.
ثم تابع، ونبرة فضوله ازدادت:
"لكن... ما الذي تحتاجينه من هذه الزهرة أصلًا؟ لماذا تبدين وكأن العالم انهار بسببها؟"
حاولت كبح العاصفة التي اشتعلت في صدري، وأجبرت نفسي على التنفس بهدوء. لا يجب أن أبدو ضعيفة. لا الآن.
سحبت أنفاسي ببطء، وأعدت ملامحي إلى حالتها المعتادة: هدوء مصطنع وبرود اعتدت على ارتدائه كدرع. ثم قلت بنبرة متزنة:
"لا شيء مهم. كل ما في الأمر أنني أحب البحث واكتشاف الأشياء الجديدة... ظننت فقط أن هذه الزهرة موجودة بالفعل، وكنت أنوي إخبار والدي عنها."
رفعت رأسي قليلًا، ناظرة إليه بثقة مزيفة، ثم تابعت:
"كانت ستساعد في تحسين تجارتنا... وربما، تجعل والدي فخورًا بي أكثر، وتزيد من ثقته بي."
صمتُّ لوهلة، قبل أن أشيح بنظري بعيدًا. لا يمكنني قول الحقيقة. لا يمكن أن يعرف أي شخص السبب الحقيقي... لا أحد.
أخرجت تنهيدة طويلة، محاولة تهدئة مشاعري المضطربة التي تكاد تلتهمني.
"عليّ بذل كل مجهودي، حتى لا أندم لاحقًا... حتى إذا ماتت الدوقة، أكون قد فعلت كل ما في وسعي."
شددت على قبضتي دون أن أعي، بينما كانت عيناي تلمعان بخليط من الإصرار والخوف.
"لن أسمح لنفسي بالفشل مجددًا... لا هذه المرة."
رفعت نظري ببطء نحو أمين المكتبة. نظراتي كانت حذرة، حاسبة لكل كلمة.
"عليّ أن أحصل على المعلومات التي أحتاجها، دون أن يشك هذا الشخص بما أبحث عنه أو بما أنوي فعله."
لم أعد أثق بأحد. لا يمكن لأي شخص داخل هذه الدوقية أن يعرف السبب الحقيقي خلف أسئلتي.
أرحت ملامحي، وقلت بهدوءٍ مصطنع:
"هل تعرف مكتبة أكبر من مكتبة الدوقية؟"
رفع حاجبيه قليلاً، ثم هز رأسه مفكرًا.
"لا أظن أن هناك مكتبة أفضل من مكتبة الدوقية... فهي تضم أندر الكتب والمخطوطات."
توقف لبرهة، وكأن في ذهنه فكرة غير مؤكدة، ثم أكمل:
"لكن، لأكون دقيقًا... هناك مكتبة أكاديمية سولفار. تمتلك مجموعة قوية من الكتب، خصوصًا في مجالات السحر والطاقة – المانا. الأكاديمية تُعتبر مركزًا تعليميًا، لذا مكتبتها تحتوي على الكثير من الكتب التي لا تجدينها في أي مكان آخر."
توسعت عيناي قليلًا. "أكاديمية سولفاير...!"
لكنه سرعان ما بدد أملي بقوله:
"لكن للأسف، المكتبة ليست مفتوحة للعامة. لا يدخلها إلا طلاب ومعلمي الأكاديمية فقط."
تجمدت لحظة، ثم سألت بنبرة حذرة:
"مثل من؟"
"الآنسة فيكتوريا، مثلًا، بصفتها طالبة هناك، والدوق الشاب ليونارد، أحد السحرة الماهرين في فنون السيف."
هنا شددت على قبضتي مجددًا.
فيكتوريا... مجددًا! كل الطرق تؤدي إليها!
لكنني لم أسمح لليأس أن يبتلعني.
"هذا لا يعني أنه مستحيل... فقط يعني أن الطريق سيكون أكثر تعقيدًا مما ظننت."
أكاديمية "سولفاير"...
نعم، أتذكرها جيدًا. الأكاديمية التي التحقت بها الأميرة بعد اكتشاف قوة الشفاء النادرة التي تمتلكها.
لكن الشيء الوحيد الجيد في هذه الفوضى...
أن تلك اللحظة لم تأتِ بعد.
اكتُشفت قدرتها عندما كانت أوريانا في الثامنة عشرة. أي أن لديّ سنة كاملة قبل أن تنضم الأميرة إلى الأكاديمية.
تنفست ببطء، وكأنني أتنفس راحة مؤقتة وسط هذا الاختناق.
"هذا يعني أنني لن أضطر لمواجهة الأبطال... لا الأمير، ولا الأميرة، ولا ذلك الساحر المزعج."
رفعت بصري إلى سقف المكتبة وكأنني أتمسك ببصيص أمل.
"أنا لا أريد لفت الأنظار، لا أريد تغيير مجريات القصة أكثر مما فعلت... فقط أريد إنقاذ الدوقة."
تراجعت خطوة للخلف، وأغمضت عيني لحظة.
"ثم، بعدها... يمكنني أن أموت بسلام."
فتحت عيني بعزم، وعدت أنظر إلى أمين المكتبة:
"شكرًا على المعلومة."
ثم استدرت بهدوء، وقبل أن أغادر، قلت بنبرة هادئة لكنها حاسمة:
"اعذرني... سأذهب الآن. أحتاج إلى التحدث مع الدوق."
بينما كنت أسير عبر الممرات الهادئة، تخترق أشعة الشمس النوافذ الملونة، ملقية بظلال ملونة على الأرضية الرخامية ، بدأت صورة قديمة تتسلل إلى رأسي، واحدة من تلك الذكريات التي بقيت محفورة في أعماق أوريانا رغم أنني لم أستعدها كاملة.
كان ذلك قبل عامين.
عندما بلغت أوريانا الخامسة عشرة... اليوم الذي حدّد فيه الدوق مصيرها.
"أكاديمية سولفار تقبل الطلاب من سن الخامسة عشر. لقد أتممتِ الخامسة عشرة الآن، لذا سأحضر لكِ معلمًا خاصًا لتدرسي لاختبار القبول. سأقدّم أوراقك للأكاديمية."
كانا في مكتب الدوق، محاطين بجدران عالية وكتب لا تنتهي، لكنها لم تبث فيها الأمان، بل شعورًا بالبعد.
أوريانا وقتها...
كانت شاحبة، ملامحها خالية من الحياة، نظراتها منطفئة، وكأن الروح غادرت جسدها قبل أن تنطق بكلماتها المرتجفة:
"لكن يا أبي... أنا لا أستطيع..."
تلعثمت، وصوتها خنقته الدموع التي لم تسقط.
"أمي... أمي لم تستيقظ منذ يومين. إنها... ما زالت نائمة، لا تتحرك."
وضعت يدها على صدرها المرتجف.
"أرجوك... يجب أن أبقى بجانبها. فقط قليلاً... فقط حتى تفتح عينيها من جديد."
"أوريانا... عليكِ أن تهدئي."
كانت الدموع تتساقط على خديها كأنها لم تبكِ منذ ألف عام، وكل ما كان بداخلها ينفجر دفعة واحدة.
"ولكن... أبي..." تمتمت بصوت متقطع، كأنها تتوسل.
اقترب منها بخطى بطيئة، وعيناه كانتا تحملان شيئًا يصعب تفسيره...
تعبير مكسور، محطّم، رغم ملامحه الصارمة.
"أعرف... أعلم أن كاميلا كانت كل شيء بالنسبة لكِ. لكنها كانت كذلك بالنسبة لي أيضًا."
وضع يده على كتفها بلطف، كأن لمسته تقول ما لم يستطع التعبير عنه بالكلمات.
"أوريانا، لا يمكنكِ السماح لنفسكِ بالانهيار هكذا. الغيبوبة التي دخلت فيها كاميلا ليست شيئًا سهلاً على أيٍّ منا."
تنهد بصوت خافت، وصوته بدأ ينهار معه:
"لكن الحياة... لا تتوقف عند أحد. حتى من نحبهم."
"أبي..." همست، وصوتها بالكاد يُسمع، كأن الكلمة نفسها كانت تنهار في حلقها.
مدّ يده بحنان نادر، ومسح دموعها بأطراف أصابعه...
لم يكن خبيرًا بالعناق، لكن تلك اللمسة كانت تحمل كل محاولاته لأن يكون أبًا.
"اهدئي، صغيرتي. لا تبكي كثيرًا، رجاءً..."
ثم جذبها إليه فجأة، واحتضنها.
لم تقاوم.
شعرت بجسده القوي يحيطها، لكنها لم تشعر بالأمان كما كانت تتمنى.
كان الحضن دافئًا... لكنه هشّ، كأنه سيختفي في أي لحظة.
بكت على صدره كطفلة ضائعة، تائهة، تحاول أن تتشبث بظل أم كانت تمنحها كل شيء.
"أنا أيضًا... الأمر صعب عليّ أكثر مما تتخيلين."
"ولكن علينا أن نستمر."
"ولا تقلقي... لقد جلبت معظم السحرة المهرة في الإمبراطورية وخارجها... ليست سوى مسألة وقت، وستعود كاميلا لوعيها. أنا متأكد."
كلماته كانت لطيفة، ولكن عقلها رفض تصديقها بالكامل.
لأول مرة، تمنت لو أن الزمن يعود للوراء، فقط للحظة واحدة... لحظة تكون فيها والدتها بخير، ووالدها لا يزال ذلك الرجل الذي تبتسم له والدتها حين يمر.
لكنها لم تقل شيئًا.
فقط أغلقت عينيها، وتشبثت بسترته أكثر، وكأنها تحاول أن لا تنهار أكثر مما انهارت.
قال الدوق بصوته الهادئ بعد لحظة صمت:
"حسنًا إذًا، عزيزتي أوريانا... سأقوم بتسجيلك في أكاديمية سولفار، وسأرتّب لك مدرسًا خاصًا يساعدك في المواد التي ستُختبرين فيها."
"أنا واثق أنها ستكون سهلة بالنسبة لك، فأنت ذكية، ولا تنسي أنك من دوقية سيريوس."
أومأت أوريانا ببطء، ثم مسحت دموعها بأطراف أصابعها.
حاولت أن ترسم ابتسامة صغيرة على شفتيها، لكنها لم تبلغ عينيها.
"حسنًا، يا أبي... سأبذل قصارى جهدي. أعدك."
صوت طرق خفيف على الباب قطع تلك اللحظة الهادئة.
"أبي؟ هل يمكنني الدخول؟ أنا، فيكتوريا... سآتي للحظة فقط."
لم ينتظر أحد إذنًا.
فتحت الباب ودخلت بخطى خفيفة، عيناها تتفقدان المكان.
"أوه، أختي العزيزة! لم أكن أعلم أنك هنا..."
قالتها بابتسامة واسعة، بدت طبيعية... أكثر من اللازم.
"إذاً، سأعود لاحقًا. لا أريد أن أزعجكما."
ترددت خطواتها للحظة قبل أن تستدير.
نظرة عابرة سقطت بين الأختين. لم تكن تلك النظرة بين أختين عاديتين، بل بين شخصين يعرفان أن خلف كل كلمة... نوايا لا تُقال.
قالت أوريانا بنبرة هادئة وهي تمسح بقايا دموعها:
"لا داعي، فيكتوريا... لقد انتهيت من حديثي مع والدي. يمكنك البقاء."
همست أوريانا، بنبرة هادئة رغم الارتجاف الذي لم يزل يختبئ في صدرها:
"لا داعي، فيكتوريا... لقد أنهيت حديثي مع أبي. يمكنكِ البقاء الآن."
رفعت فيكتوريا حاجبها قليلاً، وكأنها لم تتوقع الرد بهذا الهدوء، لكنها لم تقل شيئًا.
أما الدوق، فنظر إلى كلتيهما قبل أن ينهض من مكانه بتنهيدة خافتة، ثم قال بنبرة دافئة يشوبها إرهاق السنين:
"فلتبقيا أنتما الاثنتان... سأطلب من الخدم إعداد الشاي وبعض الحلويات، لنتناولها معًا."
ردّت فيكتوريا، بخفة ظاهرية تخفي شيئًا آخر:
"آه، ولكن يا أبي... هل حدث شيء؟ تبدو أوريانا وكأنها كانت تبكي للتو."
تحجّرت عينا أوريانا للحظة، ولم تلتفت. لم تُعلّق. فقط تشبثت بهدوء مصطنع صنعته من رماد البكاء.
قال الدوق بسرعة وكأنه يريد إغلاق الموضوع:
"إنها بخير فقط."
لكن الجملة لم تكن كافية لإخماد نظرات فيكتوريا التي كانت تخترق أجواء الغرفة ببرود مُنمّق.
جلس الدوق مجددًا، ثم أردف، كمن يتذكّر أمرًا مهمًا:
"آه، كنت سأقول هذا على الغداء يا فيكتوريا... على أي حال، بما أن أوريانا بلغت الخامسة عشرة، سأقدّم لها للالتحاق بأكاديمية سولفار."
تجمد الهواء في الغرفة.
لم يكن تغيّر تعبير وجه فيكتوريا سريعًا، بل بطيئًا ومزعجًا، كأن ملامحها تعيد ترتيب نفسها تحت قناع جديد.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة، لكن عينيها كانتا كالسكاكين المغلفة بالحرير.
قالت، بنبرة ناعمة لا تخلو من سُمّ مبطَّن:
"هاه... إذًا، أوريانا ستتقدم لتلك الأكاديمية المشهورة؟"
أجاب الدوق بنبرة معتادة، وكأن لا شيء غريب في الأمر:
"أجل، فيكتوريا."
نظرت فيكتوريا لأختها نظرة عابرة، لكنها في عُمقها كانت أشبه بتقييم صامت، كأنها تزن التهديد الذي تمثله أوريانا فجأة.
أما أوريانا، فشعرت بشيء يبرد في أطرافها.
كانت تعلم أن تلك النظرة لم تكن بريئة...
وأن اللحظة التي تصبح فيها محط اهتمام الدوق، أو تحظى بفرصة لم تنلها فيكتوريا من قبل، قد تكون الشرارة التي تُشعل النار مجددًا.
لكنها رفعت ذقنها قليلًا، وأجبرت نفسها على الابتسام.
اقتربت فيكتوريا بخطوات هادئة من أوريانا، ملامحها لا تزال متزنة، وابتسامتها اللطيفة لا تفارق وجهها.
"تهانينا، أختي العزيزة." قالتها بنغمة دافئة، قبل أن تميل بجسدها قليلًا وتنحني ناحية أذن أوريانا، حتى شعرت الأخيرة بأنفاسها الساخنة تلامس عنقها.
همست فيكتوريا بنبرة خافتة، خالية من أي دفء:
"لم أتوقع أن تلتحقي بالأكاديمية بهذه السرعة، حقًا... لكن، هل تذكرين ما قلته لك من قبل، أوريانا؟"
تجمدت أوريانا في مكانها. قلبها خفق بقوة، لكن ملامحها ظلت ثابتة.
تابعت فيكتوريا، وهمسها يتسلل كسُمّ بطيء:
"إن لم تنفذي ما أطلبه منك... فلن تري أمك مجددًا. إذا أردتِ أن تستيقظ من غيبوبتها، فأنت تعرفين تمامًا ما عليك فعله."
ثم ابتعدت قليلاً، ووضعت كلتا يديها على كتفي أوريانا، كأنها تواسيها أو تبارك لها.
ابتسمت من جديد، بنغمتها المعتادة، كأن شيئًا لم يحدث:
"إذاً... مبارك لكِ يا أختي. حقًا، أنا سعيدة من أجلك."
ثم تراجعت خطوة للخلف، وهي تنظر إلى الدوق كأنها لم تقل شيئًا قبل لحظة.
بينما بقيت أوريانا صامتة، تنظر للأرض، لا لأن التهديد أخافها، بل لأنها كانت تعرف أن المعركة لم تبدأ بعد.
شحب وجه أوريانا فجأة، كأن دماءها قد انسحبت من وجنتيها في لحظة واحدة. عيناها تشتتان في الفراغ، بينما يدها تلامس نسيج فستانها بعصبية. أفكارها تدافعت بعشوائية داخل رأسها.
(ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ لقد رأيت قدرتها... السحر الذي تملكه فيكتوريا ليس عادياً... لا أثق بها، لا يمكنني أن أثق بها. لكنها هددتني... أمي، حالتها تزداد سوءاً يوماً بعد يوم... إن رفضت، هل سيحدث شيء؟ لا، لا... هل تستحق الأكاديمية كل هذا؟ هل يستحق دخولي لها أن أخسر أمّي للأبد؟)
قطع تفكيرها صوت الدوق:
"إذن، فلننتظر حتى يحضر الخدم الوجبات الخفيفة، وسأطلب من أحدهم استدعاء ليونارد وأوسكار. لنقم بحفلة صغيرة بهذه المناسبة، ما رأيكم؟"
شدّت أوريانا على فستانها بقوة، أصابعها ترتجف.
"أبي... أنا..." توقفت، وكأن الكلمات كانت تتعثر على حافة شفتيها. ثم دفعت نفسها بقوة لتتكلم.
"أنا... لن أدخل الأكاديمية."
صمت ثقيل خيّم على الغرفة.
"هاه؟ ماذا تقولين، أوريانا؟" سأل الدوق بدهشة، ملامحه متجمدة.
رفعت رأسها، وعينيها فيهما دموع تتلألأ لم تسقط بعد.
"أنا آسفة، لكنني أرفض هذا الموضوع كليًا... تمامًا. أنا لن أدخل الأكاديمية."
تقدمت فيكتوريا بخطوة، وابتسامتها المصطنعة لم تتغير، لكن نبرتها حملت قلقًا مزيفًا.
"أختي، ولكن... هذه فرصتك! وأيضًا—"
"أنا أرفض الذهاب!" صرخت أوريانا فجأة، بصوت عالٍ ومتحشرج.
"دعوني فقط أفعل ما أريد!"
الدوق، وقد صُدم من ردّها، قال بلطف قلق:
"أوريانا... صغيرتي—"
لكنها لم تنتظر. انحنت بخفة، قالت بصوت مرتجف:
"اعذرني، يا أبي..."
ثم أدارت ظهرها، وخرجت من الغرفة بسرعة، خطواتها ترتطم بالأرضية الرخامية، وصدى غضبها وارتباكها ما زال يتردد في أرجاء المكان.
عدتُ إلى الواقع فجأة، ووجدت نفسي واقفة أمام باب غرفة والدي.
تنهّدت بصمت. ما حدث في ذلك اليوم... لم أكن أنا.
كانت "أوريانا القديمة" هي من صرخت، من رفضت، من تركت الغرفة دون تفسير.
أما الآن... فأنا بحاجة للذهاب إلى تلك الأكاديمية.
ليس لأنني أرغب... بل لأنني أريد تحقيق هدفي وإنقاذ الدوقة.
كل ما أتمناه... أن يوافق.
مددت يدي وطرقت الباب بلطف.
لحظة صمت قصيرة، ثم جاءني صوته الرزين، المعتاد:
"تفضلي."
فتحت الباب ببطء، ودخلت.
رفع رأسه فورًا، وعيناه وقعتا عليّ بشيء من الاستغراب.
"أوريانا؟ ماذا تفعلين هنا؟"
تقدّمت خطوة. يداي متشابكتان أمامي، وصوتي بالكاد خرج:
"أبي... أنا بحاجة للحديث معك في أمر مهم."