كان الظلام حالكًا، ولم أستطع أن أرى وجهه بوضوح، لكن ما إن اقترب قليلًا حتى لمحت خصلات شعره الوردي تتلألأ في العتمة.
شعرت بأنفاسي تتوقف لثوانٍ.
وما إن نطق، حتى عرفت صوته على الفور...
ليونارد.
تجمدت في مكاني.
ليونارد... هنا؟!
لكن... ماذا قال لتوّه؟
"أوريانا"؟
ناداني باسمي... كيف؟
كيف عرف أنني أنا؟!
أخذت نفسًا عميقًا، أُحاول تهدئة ارتجاف داخلي بدأ يتصاعد.
لا يجب أن أبدو مرتبكة. يجب أن أتصرف بهدوء، وكأن شيئًا لم يحدث.
بدأت ملامحي تهدأ تدريجيًا، وقاومت التوتر في صوتي، ثم قلت:
"أيها الدوق الشاب، ما الذي تفعله الآن؟ لماذا تمسكني هكذا؟ ثم... لماذا تضع يدك علي فمي؟"
"أوريانا، توقّفي عن التمثيل... أنا أعلم أنكِ أنتِ."
جمد الهواء حولي.
صوته لم يكن مرتفعًا، لكنه اخترق صدري كالسهم. لم يكن يُلقي اتهامًا، بل كان يُعلن حقيقة وصل إليها بثقة تامة.
حاولت ألا أظهر أي ردة فعل، لكن يدي ارتجفت للحظة قبل أن أخفيها بثوبي.
رفعت رأسي بسرعة، وأجبرت نفسي على الحديث بصوت ثابت:
"أيها الدوق الشاب... من فضلك، لا تناديني هكذا. يجب أن أدخل الآن إلى الدوقية. عليّ أن أُخبر الآنسة أوريانا بأني لم أجد ما كانت تطلبه."
مددت يدي، دفعت يده بلطف جانبًا، ونهضت محاوِلة تجاوز الموقف وكأن شيئًا لم يحدث.
كل ما أردته في تلك اللحظة هو أن أنجو من نظرته... من تلك العيون التي شعرت وكأنها تنزع القناع عن وجهي ببطء.
خطوت نحو الباب.
لكنه تحرك.
خطواته لم تكن سريعة... لكنها كانت ثقيلة، واثقة، وكأن الأرض نفسها تعرفه. وقف خلفي، قريبًا جدًا، ثم قال بصوت خافت، يكاد يكون همسًا:
"الشخص الوحيد في هذه الدوقية الذي يناديني بـ'الدوق الشاب'... هي أوريانا."
شعرت بالدم ينسحب من وجهي.
ما الذي يقصده؟
ألم يكن الجميع يناديه هكذا؟
تابع بنبرة أكثر هدوءًا... ولكنها حملت شيئًا يشبه الابتسامة الباردة:
"الجميع ينادون أوسكار بهذا اللقب، فهو الوريث الشرعي... أما أنا، فلا أحد يناديني بالدوق الشاب. الجميع يقولون لي: 'السيد ليونارد'. حتى الخادمات يعرفن هذا... فكيف تخطئين أنتِ؟"
لم أتحرك.
لم أجب.
كنت أشعر بقلب بين سوه - أو ربما قلب أوريانا - يقرع بقوة تحت ضلوعي.
اقترب أكثر.
أكثر مما ينبغي.
حتى شعرت بأنفاسه الحارة تلامس عنقي... كأنها لهيب خفيف، يحرق دون أن يترك أثرًا.
لم أستطع الالتفات. لم أستطع حتى أن أتنفس بحرية.
صوته أصبح أكثر هدوءًا، لكن كلماته كانت كالسكاكين:
"لماذا لا تردين، يا أوريانا؟ ألستُ محقًا؟"
ثم...
قبل أن أتمكن من التفكير، قبل أن تجهز أي كذبة على لساني، امتدت يده فجأة-
وشد الشعر المستعار عن رأسي.
في لحظة واحدة... كل شيء انكشف.
لم أستطع أن أنطق.
الكلمات علِقت في حلقي، بل كأنها اختفت تمامًا من رأسي.
ماذا سأقول؟
لقد كُشف أمري.
كل شيء انهار في لحظة.
وقفت مكانـي، مشلولة، عاجزة حتى عن التنفس بطريقة طبيعية.
حينها، سمعت ليونارد يتنهد.
نظرت إليه ببطء، فوجدته يقف بهدوء. يده اليمنى مستندة إلى خاصرته، واليسرى تمر بين خصلات شعره كما لو أنه يحاول ترتيب أفكاره... أو ربما إخفاء ابتسامة خفية.
قال بصوت هادئ، خالٍ من أي انفعال:
"هاه... أنا لا أطلب منكِ شرح سبب خروجك في هذا الوقت. ليس الآن."
ثم نظر إلى البوابة، وأضاف بنبرة جادة:
"على أي حال، لا يمكنكِ الدخول من هناك. أوسكار لن يسمح لكِ."
شعرت بقلبي يهتز من جديد.
ماذا؟
سألته بصوت خافت، يكاد لا يُسمع:
"ماذا تقصد؟"
استدار وهو يخطو بعيدًا وقال:
"سأخبرك بما حدث أثناء العودة... لدي طريق مختصر. هيا بنا الآن."
حدّقت في ظهره للحظات.
مهلًا... هذا كل شيء؟
لن يصرخ؟ لن يوبخني؟ لن يسألني حتى عن سبب تنكّري؟
أسرعت بخطاي خلفه، والفضول يتصارع داخلي مع القلق.
سألته وأنا أمشي وراءه:
"ألست ساحرًا ماهرًا؟ لماذا لا تستخدم النقل الفوري؟ أليس ذلك أسهل؟"
رد دون أن يلتفت إلي:
"سحري مختلف عن باقي السحرة. لستُ بارعًا في كل أنواع السحر التي يتقنونها. أنا أفضل باستخدام السحر مع السيف."
توقف لثانية، ثم أكمل:
"صحيح أنني أستطيع استخدام بعض أنواع السحر الأخرى، لكن ليس بنفس مهارة السحرة المختصين. ثم... الدوقية محاطة بدرع واقٍ. الانتقال الفوري ممنوع داخله، وسيكتشفون أي محاولة للتسلل فورًا."
هززت رأسي ببطء وأنا أفكر.
حتى بعد كل ما حدث... يتحدث وكأن شيئًا لم يتغير.
مشينا في صمت، خطواتنا تلتهم الممرات الحجرية الطويلة.
أقدامي كانت تتحرك، لكن عقلي لم يتوقف.
كل لحظة بجانبه كانت تطرح سؤالًا جديدًا. كل خطوة تقربني من الحقيقة... أو من نهايتي.
توقف فجأة أمام جدار حجري عادي، لا يميّزه شيء عن باقي جدران القلعة.
رفعت حاجبيّ بتساؤل، لكن قبل أن أنطق، قال بهدوء:
"سندخل من هنا، أوريانا."
رمقته بصدمة:
"ماذا؟ لحظة، ما الذي تعنيه؟ هذا... جدار."
نظرت إلى السطح الحجري الصلب، وضربات قلبي تسارعت.
"هل تمزح؟ هل سنخترق الجدار مثل الأشباح؟"
التفت لي أخيرًا، وابتسم ابتسامة خافتة لا تحمل سخرية بل شيئًا أشبه بالذكريات.
"لا. لكن... انظري."
ثم انحنى نحو الأرض، ووضع كفه على البلاط القديم أمام الحائط.
تمتم ببضع كلمات لم أفهمها... وفجأة، ارتجّ الجدار أمامي.
في لحظة خاطفة، تشكّل ثقب دائري، بالكاد يتسع لمرور شخص .
حدّقت فيه بذهول، فأكمل ليونارد بنبرة خفيفة، كأنه يُحدّث طفلة مشاكسة:
"هذا الثقب صنعته عندما كنت أتعلم السحر لأول مرة. لم أكن أتحكم في طاقتي... ففجّرته دون قصد."
ضحك بخفة، بنبرة لم أسمعها منه من قبل، فيها شيء من الحنين:
"ظلّ الثقب موجودًا. إلى أن... خرجتِ منه ذات مرة، حين كنتِ صغيرة."
رفعت رأسي إليه ببطء، ونظراتي تتسع...
هو يتحدث كأنّه يتذكرني. لا، بل كأنه كان هناك. معي.
تابع بصوت أكثر دفئًا، لكنه لم يلتفت نحوي:
"وقتها... استعمل والدي سحر الوهم لإخفائه.
قال إنه يجب ألا يراكِ أحد تتسللين خارجًا بهذه الطريقة بعد الآن."
ثم التفت إليّ، وعيناه تتأملان وجهي بصمت:
"أتتذكرين؟"
شعرت بشيء يتحرك في صدري، شيء دافئ، لكنه مؤلم. تلك الذكريات جعلتني أشعر أن عليّ الوثوق بليونارد، ولو مؤقتًا.
ذاكرة باهتة، صورة مشوشة لطفلٍ يضحك وأنا أزحف عبر جدار.
ظلٌ يمد يده نحوي... وصوت يقول "أسرعي، قبل أن يرونا."
تاهت الكلمات في حلقي.
لم أعرف ماذا أقول.
أنا... لستُ تلك الطفلة، لكن في تلك اللحظة، شعرت كأنني كنتها.
تقدّم ليونارد خطوة للأمام، ثم التفت إليّ بنظرة هادئة، لكن عينيه كانتا تحملان شيئًا مختلفًا... اهتمامًا خفيًا، أو ربما قلقًا لا يريد أن يعترف به.
قال بصوت منخفض، كأنه يطلب شيئًا بسيطًا لكنه يعني أكثر من ذلك:
"أوريانا، الآن سأعبر الممر. رجاءً... تعالي خلفي."
رمشت بتردد، فتابع بنبرة جدية أكثر:
"أمسكي بي، من قميصي أو أي شيء... فقط لأشعر أنك خلفي. الممر طويل قليلًا، وأحيانًا قد تظهر حشرات أو شيء آخر."
توقف لحظة، كأنه يختبر رد فعلي، ثم سأل وهو يرفع حاجبه بخفة:
"هل تخافين منهم؟"
هززت رأسي بسرعة، أخفي توتري خلف إجابة قصيرة:
"لا... لست كذلك."
ابتسم من دون أن يعلّق، ثم أدار ظهره لي، وهمس:
"حسنًا. ولكن... إن قرصكِ شيء ما، أخبريني فورًا.
حين نخرج من هنا، سأستخدم سحر الشفاء... لا نعلم نوع تأثير هذه المخلوقات عليك."
ترددتُ، ثم همست:
"حاضر... أيها الدوق الشاب."
في اللحظة التي تقدّم فيها، رفعت يدي بخجل، وترددت للحظة.
هل أمسك به حقًا؟
لكنني فعلت. أمسكت بطرف قميصه الخلفي، بخفة بالكاد تُرى.
شعرت بارتعاشة صغيرة تمر عبر أصابعي، وكنت متأكدة أنني وحدي من لاحظها... أو هكذا أردت أن أصدق.
تقدّم بخطى ثابتة، وأنا خلفه، أتنفس ببطء.
"المكان ضيق، والهواء بارد يحمل رائحة التراب العتيق، والرطوبة تعبث بجلدي بينما يتردد صوت تقطير الماء في الأعماق...
لكنه، بطريقة غريبة، كان يشعرني بالأمان.
ما إن خرجنا من الممر، حتى انحنى ليونارد قليلًا ومد يده نحوي، وقال بهدوء:
"أعطني يدك."
لم أتردد.
وضعت يدي في يده... كانت دافئة رغم برودة الليل، قبضته ثابتة كمن اعتاد الإمساك بالضعف دون أن يسحقه.
شدّني برفق نحو الأعلى، وخلال لحظة عابرة، وجدت نفسي واقفة بجانبه، لا شيء يفصلنا سوى نفس لم ألتقطه بعد.
خرجت الكلمات من فمي دون تفكير، أو ربما كانت من الماضي... من زمن آخر، من وجع لم أعد أذكر متى بدأ:
"شكرًا... يا أخي."
جفّ لساني فورًا.
ماذا قلت؟!
لماذا؟!
رفعت رأسي نحوه، ووجدته ينظر إليّ...
ابتسامة صغيرة، دافئة، مكسورة...
ابتسامة لا تُرى كثيرًا على وجهه، وكأنها جاءت من زمن بعيد... قبل أن يُكسر شيء فيه.
لم يقل شيئًا.
لم يعلّق.
فقط قال بعدها بصوت منخفض:
"الآن... علينا أن نُسرع.
قبل أن يأتي أوسكار ويراكِ."
تجمدت قدماي في الأرض.
بحق الجحيم، ما الذي يحدث؟
لماذا لا يريد أن يراني أوسكار؟
ولماذا لا يخبرني... فقط يخبرني؟!
نظرت إليه، أردت سؤاله... أردت أن أصرخ "قل لي!"
لكن لم أتمكن.
وفجأة، بينما كنّا على وشك أن نبدأ بالتحرك، دوّى صوت خطوات قادمة... خطوات ثقيلة وثابتة، تُعلن عن وجود شخص يعرف جيدًا إلى أين يسير.
تبادلت النظرات مع ليونارد.
عينيه اتسعت قليلاً، وجسده توتر للحظة واحدة فقط، ثم عاد إلى هدوئه.
"اختبئي بسرعة بين الشجيرات هناك.
أنا سأتولى الأمر.
هيا، أسرعي!"
صوته كان هادئًا، لكن هناك شيء في نبرته جعلني أتحرك دون تفكير.
اختبأت بين الشجيرات، جسدي يتسارع في التنفس، وأذناي تستمعان إلى كل شيء. كانت الليلة مظلمة، والهواء الثقيل يمتلئ برائحة الطين بعد المطر. أشعر بأن العالم حولي يتنفس بصوت عالٍ، بينما قلبي يكاد يخرج من صدري من شدة الارتباك.
من خلف الشجيرات، كل شيء بدا بعيدًا عني، كأنني أختبئ في فراغ، محاطة بتلك الظلال التي تزداد كثافة مع كل لحظة. هناك شيء في داخلي كان يضغط عليَّ، كأنني كنت محاصرة في تلك اللحظة بين ما لا أريد مواجهته وما لا أستطيع فهمه.
ثم جاء الصوت.
ذلك الصوت الذي كنت أعلمه جيدًا. كان يحمل نغمة الجدية التي يخبئها أوسكار في كل مرة يظهر فيها.
"ليونارد، ما الذي تفعله هنا؟"
كان السؤال ثقيلًا، وكان فيه ذلك الشك الذي لا يخطئ. لكن ليونارد، الذي كان يجيب دائمًا بنفس الطمأنينة والهدوء، أجاب دون تردد:
"كنت أتمشى، فقط أردت أن أشم بعض الهواء النقي."
هكذا ببساطة.
لكن أوسكار، الذي لم يقنعه هذا الرد، كرر:
"هل الهواء في الدوقية غير نقي؟"
كأن الشك في قلبه قد أصبح طوفانًا، وكان يقف أمام ليونارد، يراقب كل حركة وكأن كل كلمة كانت تحاول إخفاء شيء أكبر.
ليونارد، كعادته، لم يهتز.
ابتسامة ظهرت على شفتيه، ابتسامة جعلت الجو حوله يهدأ، وكأن لا شيء غريب يحدث.
"غير صحيح يا أخي... فقط أردت أن أكون وحدي قليلًا."
كنت انظر لي ليونارد بدهشة
ما هذا؟
سحقًا لذلك الليونارد...
لماذا يتحدث مع الجميع بلطف وهدوء كما وصف في الرواية؟ كأنه لا يعرف إلا الابتسامة الهادئة والنظرات الرزينة... بينما أنا، أنا فقط، كانت كلماته دائمًا تخرج نحوي كالسكاكين. لا زلت أذكر جيدًا ما قاله لي في السابق عندما كنت أزور الدوقة-لم يكن مجرد برود، بل كأن وجودي يزعجه. كأنني غبار عالق على قميصه النظيف.
واليوم...
تحدث بلطف. صحيح، كان هناك شيء من البرود، لكنه لم يكن قاسيًا. لم يكن لاذعًا كعادته. بل حتى لم يسألني أين كنت! هل تغير شيء؟ أم أنه فقط... يؤجل انفعاله حتى نكون وحدنا في غرفتي؟
أشعر بقلب صغير في داخلي يخبط بخفة، خوفًا من ما قد يأتي لاحقًا.
ثم تنهد أوسكار.
كان صوته منخفضًا، كأنه يتحدث لنفسه، لكنني التقطته بوضوح من مكاني بين الشجيرات، أراقبهما بصمت وقلق متزايد.
"لا أعرف من أين لك براحة البال هذه والاسترخاء،"
"أخبرتك أنه كان هناك فتاة تسللت إلى القصر. قالت لي إنها خادمة... وعندما تحققت في الأمر، لم أجد أي خادمة تُدعى إيرين."
تجمد الدم في عروقي.
مهلًا... هل يتحدث عني؟!
إيرين؟ نعم... هذا الاسم الذي اختبأت خلفه.
الآن كل شيء يبدأ بالاتضاح. هذا يفسر لماذا أصر ليونارد على ألا أدخل من البوابة. ولكن...
كيف عرف أنني أوريانا؟
لم أتكلم، لم أقل له من أنا. هل كان يعرف منذ اللحظة التي رآني فيها؟ أم أن هناك شيئًا آخر لا أفهمه بعد؟
عقلي كاد ينفجر من تدفق الأسئلة.
كل لحظة تمرّ تفتح بابًا جديدًا في متاهة لا نهاية لها.
ابتسم ليونارد فجأة، ابتسامة هادئة بلا قلق، كما لو أن الأمور تحت سيطرته الكاملة، وقال:
"آه، تلك الخادمة التي قلت إنك تريد أن تسأل أوريانا عنها؟"
صوت أوسكار احتد قليلًا، كأن نارًا خفية بدأت تشتعل في صدره:
"أجل، لأنها ذكرت أن أوريانا هي من أرسلتها، ولكنك منعتني من دخول غرفتها بحجة أنها نائمة ومتعبة!"
هنا تغير وجه ليونارد قليلًا. لم يعد يبتسم، بل اتخذت ملامحه جدية هادئة، وقال:
"بجدية يا أخي... ألا تفهم الذوق مع الفتيات؟ لا يجوز أن توقظ فتاة من نومها لسؤالها عن شيء تافه كهذا."
تسللت ابتسامة باهتة إلى وجهي، رغماً عن القلق في صدري.
هل... هل كان يحاول حمايتي؟
لكن لماذا؟ لماذا الآن؟ وما الذي يعنيه كل هذا حقًا؟
صرخ أوسكار فجأة، واهتز صداه في الهواء الهادئ:
"هاه؟ هل تمزح معي؟! مجرد سبب بسيط؟!"
صوته كان حادًا، حارقًا، كأن الغضب الذي كبحه طوال الحديث انفجر دفعة واحدة.
"شخص غريب يتسلل إلى الدوقية، ولا نعرف من هو أو ما هدفه، وتقول لي إنه مجرد سبب بسيط؟!"
كز على أسنانه، ورفع يده في الهواء بغيظ ثم أنزلها بقوة على فخذه:
"ماذا لو آذى فيكتوريا؟ أو أبي؟ أو حتى... أنت؟ أو أمي؟!"
كلماته الأخيرة خرجت كطلقات نارية، مدفوعة بالقلق والغضب والخوف في آنٍ واحد.
كان يبدو بالفعل كمن يحمل العالم على كتفيه.
ذلك الوجه الصارم، النبرة الجادة، وتلك العينان المتقدتان بشعور حقيقي بالمسؤولية.
لكن...
ابتسمت بسخرية مريرة من خلف الشجيرات، وارتجف شيء صغير في داخلي.
يا له من مشهد.
كان يبدو كشخص يهتم... يهتم بعائلته، بجميع أفرادها، يحمل عبء الحماية والحرص، وكأنه جدار يحتمي الجميع خلفه.
الجميع...
عداي.
"لكنه لم يذكرني."
لا اسمي، لا حتى إشارة عابرة.
أنا... التي كنت على بعد خطوات منهم، أختبئ، أتنفس معهم نفس الهواء، أسمع صوته يخترقني.
لكنه لم يتذكرني. لم يخطر في باله أن أكون أنا أيضًا عرضة للخطر.
ضغطت على فمي بكفّي، أخشى أن يسمعوا صوت ابتسامتي الباهتة، تلك التي ظهرت رغم كل شيء.
لم يكن الأمر جديدًا. لم يكن مفاجئًا.
"هذا لا يزعجني... أو يضايقني."
أقنعت نفسي بتلك الكلمات، كررتها داخلي مرارًا كتعويذة قديمة.
"لقد اعتدت على ذلك."
نعم، اعتدت على أن أكون ظلًا في الخلفية.
الفتاة التي لا تُذكر.
الغائبة رغم حضورها.
الصامتة رغم الضجيج في داخلها.
راقبت ليونارد وهو يتنهد بهدوء، وكأنه يحاول تهدئة شقيقه، بينما قلبي كان يخفق بقوة، ليس بسبب الخطر... بل لأنني للمرة الأولى منذ زمن، أشعر بمرارة النسيان وأنا أراها بأم عيني.
تنهد ليونارد ببطء، ثم صمت، كأن كلمات أوسكار كانت حجارة أثقلت كاهله.
رفع يده إلى رأسه ودفع خصلات شعره إلى الوراء بإرهاق واضح، قبل أن يقول بنبرة هادئة تحمل شيئًا من الملل:
"سنتحدث معها عندما تستيقظ، ليس وكأن العالم سينتهي. ثم... أنت شددت الحراسة، هذا يكفي. يمكنك الدخول."
كان صوته متزنًا، لكنه بدا وكأنه يغلق الباب أمام أي جدال جديد.
لكن أوسكار، كعادته، لم يُغلق فمه سريعًا.
"انتظر يا ليونارد... لحظة."
استدار إليه ليونارد بتعب ظاهر:
"هاه؟ ماذا الآن يا أخي؟"
أشار أوسكار فجأة إلى الجهة التي كنت أختبئ خلفها، وتحديدًا نحو ذلك الثقب الصغير بجانب الحشائش، ذاك الذي خرجت منه لتوي برفقة ليونارد.
"ذلك الثقب... لماذا هو مفتوح؟"
تسمرت مكاني. الهواء حولي تجمد، وكأن الكون توقف عن التنفس.
يا إلهي...
رد ليونارد سريعًا، لكن صوته كان محكومًا، كمن يحاول إخفاء توتره:
"آه، فقط كنت أتمرن بالسحر، وانفجر جزء من الجدار... لا شيء مهم، سأعيد إصلاحه لاحقًا."
ابتسم أوسكار ابتسامة باهتة، لكن عينيه بقيتا شاكتين، ثم قال:
"حقًا؟"
بدأ يتحرك... نحو الثقب.
خطوة... اثنتان... ويده ترتفع ببطء نحو سيفه.
اللعنة! إنه يقترب.
إنه يقترب مني... أنا خلف الحشائش مباشرة.
لو نظر فقط... فقط بزاوية ضيقة إلى اليمين...
سيراني.
شعرت بالعرق يتصبب من جبيني، أنفاسي تعالت، ويدي تشنجت فوق فمي كي لا يسمع شهقة الرعب التي تملأ صدري.
هل هذه نهايتي؟
هل سيكشفني؟ هل سيسحبني من هنا كخائنة متسللة؟
كل شيء داخلي كان يصرخ هربًا، لكن جسدي لم يتحرك. تجمدت تمامًا.
ثم... حدث ما لم أتوقعه.
أوسكار انحنى، اقترب أكثر من فتحة الثقب، نظر داخله بتفحص.
ثم... أدار رأسه نحوي.
عينانا التقتا.
عيناه الباردتان، الزرقاوان كالثلج القاسي، جمدت قلبي للحظة.
لقد رآني. رأى عينيّ. رأى وجهي. رأى كل شيء.
توقفت أنفاسي.
شعرت وكأن الدم خرج من وجهي.
هذه النهاية.