مرت ثوانٍ.

ثوانٍ ثقيلة، ممتدة، وكأنها تتعمد السخرية من قلبي الذي كاد يتوقف عن الخفقان.

أنفاسي كانت حبيسة بين ضلوعي، يديّ ترتجفان دون وعي، وعيني معلّقتان على ذلك الوجه البارد الذي انحنى أمام الثقب.

ثم...

أوسكار أدار وجهه، بهدوء تام، كما لو أنه لم يرَ شيئًا... كما لو أن عينيّ لم تلتقِ بعينيه للحظة كاملة.

سحب يده عن سيفه دون عجلة، ووقف مستقيمًا، ثم قال بنبرة عادية خالية من أي انفعال:

"لا يبدو أن في هذا الثقب شيئًا يذكر... سأغادر."

ماذا؟!

تجمّدت.

شفتاي فتحتا قليلاً، لكن الصوت اختنق داخلي.

هل... هل تجاهلني؟ هل رأى ولم يرد؟ أم... لم يرَني فعلًا؟ لكن لا! نظراتنا تلاقت! كان مستحيلًا ألا يراني!

كان قريبًا بما يكفي لسماع تنفسي المرتجف... مستحيل، مستحيل...

ثم، كأن الواقع يرفض منحي فرصة لفهم ما حدث، جاء صوتي المرتجف في داخلي يصرخ:

"ولكن... ليونارد... هل فعلًا فعلت هذا الثقب باستخدام السحر؟!"

نظرت إليه، بانتظار توتر أو ردة فعل تعكس الدهشة، لكن ليونارد...

كان واقفًا بثبات، ذراعيه متشابكتان، ووجهه خالٍ من أي انفعال حقيقي، وكأن ما جرى متوقع تمامًا.

أجاب بصوت بارد وهادئ:

"أجل. هل من الغريب أن أتسبب بثقب أثناء التدريب؟"

لم يكن في نبرته أي اضطراب. لا دفاع، لا قلق، فقط... ثقة.

لكن أوسكار لم يبدُ مقتنعًا، رفع حاجبه قليلاً وقال:

"لا، ليس غريبًا... لكن، أولاً-أين سيفك الذي تسبب في هذا الثقب؟"

تراجع ليونارد خطوة إلى الوراء، كأن السؤال لم يلمسه، وقال بلامبالاة:

"قد لا يكون سيفًا. ربما استخدمت تعويذة هجومية بسيطة."

لكن أوسكار لم يتراجع، بل عبس قليلًا وأضاف بنبرة أكثر جدية:

"حقًا؟ وماذا عن المصادفة؟ هذا الثقب... تمامًا في نفس مكان الثقب السابق الذي أغلقناه من قبل ، أليس كذلك؟"

تبادلنا النظر، وأنا خلف الحشائش كنت أكتم أنفاسي، أشعر بدمي يغلي من الخوف.

"ثم، ثالثًا..."

أوسكار انحنى قليلًا، داس على الأرض بطرف حذائه، أزاح بعض التراب، ثم نظر مجددًا لليونارد:

"أين الحطام؟ الصخور؟ الشظايا؟ حتى تعويذة التلاشي تترك رمادًا أو أثر حرارة... لكن هنا، لا شيء. وكأن الثقب... لم يُفتح إلا لاستقبال شيء، لا لإحداث ضرر."

كانت تلك الجملة الأخيرة... كالسكين.

عيني ليونارد تجمدت لثانية، لكن ملامحه لم تهتز، بل اكتفى بابتسامة صغيرة وهمس:

"أنت تبالغ كعادتك... أحيانًا، لا تترك التعويذات أثرًا إن كانت محكمة بما فيه الكفاية."

نظر إليه أوسكار طويلًا. لم يُجبه، ولم يبتسم. فقط...ثبت نظره عليه كما لو أنه يحاول اختراق جدران عقله.

ثم استدار وقال ببرود:

"حسنًا... لكن لا تفتح ممرات سرية في قصرنا دون إخطار أحد. سأغادر."

وبالفعل، رحل.

صوت خطواته تلاشى تدريجيًا، وأنا بقيت هناك... متصلبة، منهكة، وعقلي يئنّ تحت سيل من الأسئلة:

"هل رأى ولم يتكلم؟ هل كان يعرف منذ البداية أنني مختبئة هنا؟ أم أنه يخطط لمراقبتي لاحقًا، كعادته في نصب الفخاخ لمن يشك بهم؟"

بدأ يسير مبتعدًا.

تركني خلفه...

كما لو لم ير شيئًا.

كما لو كنت... شبحًا.

أوشكت على الانهيار.

كل شيء بدا غير منطقي.

"مهلًا... لحظة..."

لماذا؟

لماذا لم يقل شيئًا؟

لماذا تصرف وكأنه لم يرني؟

هل حقًا... لم يرَني؟

أم أنه... رآني وتجاهلني؟

كانت الأسئلة تنفجر في عقلي كأمواج متلاحقة، لا تمنحني وقتً لأفكر أو ألتقط أنفاسي.

"ما الذي يحدث...؟"

تنهد ليونارد بعمق، وكأن ثقلًا كان جاثمًا على صدره قد انزاح أخيرًا.

ثم، بصوت هادئ يحمل نفحة من الارتياح، نادى:

"أوريانا، هل أنت بخير؟"

كانت عيناه ثابتتين على الشجيرات... مباشرة حيث أختبئ.

اتسعت عيناي، وانفجرت مشاعري دفعة واحدة. شعرت بالدم يغلي تحت جلدي، وبقلبي ينبض من الغضب أكثر من الخوف.

خرج صوتي حادًا، مهتزًا من الانفعال:

"ليونارد! أنا لن أعود إلى غرفتي! أريد شرحًا مفصّلًا لما يحدث هنا! الآن! حالًا!"

رفع يده بسرعة مشيرًا لي أن أخفض صوتي، وهمس بنبرة صارمة:

"هشش، أوريانا، صوتك مسموع. صحيح أنك مختفية، لكن هذا لا يعني أن الناس لا يستطيعون سماعك."

تراجعت قليلًا، مشوشة.

"ماذا تقصد... بـ'مختفية'؟"

اقترب خطوة، وانخفض صوته أكثر حتى أصبح بالكاد مسموعًا:

"أنتِ غير مرئية، نعم. لكنك لستِ بلا جسد. لو اصطدمتِ بأحدهم، سيشعر بك، وربما حتى يسقط. لا تزالين كيانًا موجودًا فيزيائيًا."

صمتُّ، أتأمل كلماته في ذهول.

"غير مرئية؟... أنا؟"

همست كمن فقدت عقلها:

"انتظر... ماذا؟ ليونارد، افهمني كل شيء! أنا سأجن! أولًا، كيف عرفت أن الخادمة كنت أنا؟! ثانيًا، منذ متى أصبحتُ... غير مرئية؟! ومتى استخدمت سحرًا علي دون علمي؟!"

تنفس ليونارد بعمق، وصوته بدا أثقل من المعتاد:

"أوريانا، أرجوكِ... اهدئي. سنذهب إلى غرفتك الآن وسأشرح لكِ كل شيء، لكن إن سمعنا أوسكار أو أحد الحراس المتجولين... كل ما فعلته سينهار في لحظة."

صوته كان جادًا، مضغوطًا بقلق حقيقي. ثم مدّ يده في الهواء، يبحث بعينيه عن لا شيء:

"أنا لا أراك، لكنك ترينني. هل يمكنك الاقتراب؟ أمسكي بيدي."

ترددت. كانت عيناي تحدقان فيه بريبة، لكنه بدا صادقًا هذه المرة، كأنه حقًا يحاول مساعدتي.

تمتمت وأنا أقترب:

"سأجرب... وأثق بك، للمرة الثانية اليوم. لكنك مَدين لي بشرح مفصّل، ليونارد، كل شيء، مفهوم؟"

ما إن وضعت يدي في كفه، حتى جذبني فجأة إليه. وجدت نفسي بين ذراعيه، محاطة بصدره القوي، وهو يشدّ قبضته حولي.

صرخت بهمسة غاضبة:

"هــي! هل أنت غبي؟! لماذا تمسكني بهذه الطريقة؟!"

رد بصوت منخفض، لكنه حازم:

"اهدئي، أوريانا. أنت غير مرئية، لكن جسدك موجود. لا أراك، ولا أستطيع أن أتركك تتعثّرين وتسقطين في منتصف الطريق. فقط تمسكي بي جيدًا."

زممت شفتيّ، أنفاسي تتسارع:

"لكننا فقط سنسير إلى غرفتي، أليس كذلك؟ لماذا كل هذه الدراما؟!"

ابتسم ابتسامة جانبية، فيها شيء من السخرية:

"أحقًا تظنين أن الأمر بهذه البساطة؟ إذا رآني أي شخص أدخل غرفتك، دونك، سيفترضون مليون سيناريو، معظمها لن يعجبكِ. نحن لا نحتاج مزيدًا من المشاكل."

قطبت جبيني:

"أجل، الجميع سيستغرب دخولك لغرفتي، لكن هذه مشكلتك، أنت ادخل بطريقتك.أنا غير مرئية. أنت من سيبدو مشبوهًا أنا سأتسلل بطريقة عادية دون أن يلحظني أحد."

هز رأسه وهو يتمتم:

"ممتاز، هذا ما كنت أحتاجه... جدال وأنا أحاول تهريبك خفية."

رفع حاجبه، رغم أنه لا يراني، وكأن تعبير وجهي واضح له:

"حسنًا، اتفقنا. الآن، تمسكي جيدًا. سنصعد."

ضغطت على ذراعه وأنا أقول بضيق:

"هيه! ألم تسمع ما قلته؟!"

ضحك بخفة مجددًا، وهمس:

"سمعتك... لكني لا أملك رفاهية الجدال مع فتاة غير مرئية تتصرف كأنها مرئية تمامًا."

نفخت بانزعاج واضح، وحدقت فيه بنظرة حادة:

"أنت حقًا لا تُطاق، يا هذا."

رد بصوت هادئ دون أن يتوقف عن السير:

"لقد سمعتك."

رفعت حاجبي بتحدٍ وقلت بنبرة باردة:

"أجل، لم أتعمد خفض صوتي كي لا تسمعني. وبصراحة؟ لا يهمني إن كنت سمعت أو لا."

توقف للحظة، ثم ألقى نظرة جانبية مليئة بالسخرية:

"بهذه الطريقة... لن تحصلي على أصدقاء، يا أوريانا."

كتمت شهقة غيظ، وقلبي يشتعل:

"هل يُلقي عليّ محاضرات اجتماعية الآن؟!"

نظرت إليه في صدمة حقيقية، ثم تمتمت بنبرة مكتومة:

"هذا الرجل مزعج بشكل لا يُطاق... كيف يمكن للكاتب في الرواية الأصلية أن يصفه بالشخص اللطيف والمرح؟"

شعرت بحرارة في وجهي من الغضب وأنا أكمل بتهكم مرير:

"لا بد أن الكاتب في حياتي السابقة تلقّى ضربة على رأسه قبل أن يكتب شخصية ليونارد... وإلا فكيف وصف هذا الشيء بالأخ المحبوب؟!"

ضحك ليونارد بخفة وكأنه سمعني رغم أنني همست، وقال دون أن يلتفت:

"عزيزتي، هذا الشيء ما زال أخاك، لذا احترمي نفسك قليلًا."

زمجمت في سري، وأنا أعض شفتي لأمنع نفسي من الانفجار.

أخي؟ نعم. لكن مزاجه مثل السم... وتصرفاته لا تمتّ للّطف بصلة.

لكن الحمدلله لا يبدوا انه سمع ما قلته عنه أنا شخصية روائية

وصلنا دون أن أشعر، وفجأة وجدت نفسي واقفة أسفل شرفة غرفتي.

رفعت حاجبيَّ، مستغربة.

"ما الذي نفعله هنا؟"

ليونارد لم يجب، بل اكتفى بالنظر إلى الأعلى للحظة، ثم عاد بنظره إليّ، وعيناه تشعان بعزم غريب.

وفجأة... شدّني إليه بقوة.

"تمسّكي بي جيدًا."

"هاه؟ لماذا؟ ما الذي تنوي-"

وفجأة... الأرض اختفت من تحتي.

جسدي ارتفع في الهواء. لا... بل نُزع! الرياح صرخت حولي، وثوبي ارتفع كأن العالم كله يُصفق بي!

"آااااااه! مـ-ماذا تفعل؟! نحن نطير؟!! ليونااارد!!"

صرخت بكل ما أوتيت من رعب، بينما أطرافي ترتجف ويدي تتشبث بقميصه كالغريق.

"أوريانا! اصمتي، تمسّكي بي!"

قالها وهو يحاول وضع يده على فمي لإسكاتي... لكنه-كعادته-أخطأ الهدف ووضع يده على عيني.

"هاه! أين تضع يدك؟! لا أرى شيئًا الآن، يا أعمى!"

ضحكت رغم فزعي، والهواء يضرب وجهي كصفعات خفيفة.

"كنتُ أظنّك ذكية، لكن يبدو أن الصراخ هو وسيلتك الوحيدة للتأقلم مع المواقف الجديدة."

"ذكية بما يكفي لأدرك أني على وشك الموت سقوطًا!"

صحتُ، بينما صدري يعلو ويهبط من الخوف.

"اطمئني، لن أدعك تسقطين. فقط... انظري."

أزاح يده عن عيني بهدوء، وهمس:

"افتحي عينيك."

وفتحتها...

والعالم، كلّه، توقف.

كانت المدينة هناك، تحتنا، ممتدة مثل حلم.

البيوت تلمع بأنوار خافتة دافئة، والشوارع تتلوى كأشرطة ذهبية وسط العتمة، وأصوات بعيدة متداخلة تأتي من أعماق الحياة. رأيت الساحة التي زرتها مرة، والسوق القديم، والبرج الذي كنت أتخيله دائمًا من بعيد... الآن أنا أعلى منه.

الهواء كان باردًا، يداعب وجهي بلطف مختلف، وكأن السماء نفسها تُغني من حولي.

همست دون وعي:

"إنها... مذهلة."

لم أكن أعرف إن كانت دمعة خرجت من عيني بسبب الريح... أم بسبب هذا الجمال الساحر.

ليونارد ظلّ صامتًا للحظة، كأنه هو أيضًا يرى المدينة بعينين مختلفتين.

"أعلم."

قالها بصوت خافت، أقرب للهمس، لكنني شعرت بها تهتز داخلي.

أوسكار كان يسير وحده في الممرات الصامتة، والصدى يرافق خطواته.

رغم أن القصر ينام، كان هو يقظًا… متوترًا، كأن في داخله عاصفة لا تهدأ.

توقف فجأة، أسند ظهره للحائط، ثم همس لنفسه بنبرة متعبة:

"بجدية… أنا لا أعرف لماذا أكرهها هكذا."

كان صوته بالكاد مسموعًا، أقرب لاعتراف يهرب من قلبه قبل أن يدركه عقله.

"رغم أنها أختي بالتبني… رغم أني أعلم تمامًا أنها ليست مذنبة.

يوم دخلت أمي في الغيبوبة، كانت تبكي أكثر مني… أكثر من أي أحد.

ومع ذلك… كلما رأيتها… أشعر أن شيئًا داخلي يريد الانفجار."

شدّ على صدغه بأصابعه وكأن الألم يهاجمه من الداخل:

"أشعر أني أريد قتلها… سحقها… فقط لأُسكت هذا الألم."

توقف… تنفس ببطء كأنه يخشى أن تنهار جدران عقله، ثم همس بحزن:

"لكن لماذا…؟ لماذا الآن؟ أوريانا ليست قريبة مني، أنا متأكد من ذلك."

مرت لحظة صمت، ثم بدأ الصداع يشتد. وضع يده على رأسه، يضغط بقوة، والأسى في عينيه يتسلل.

"آخخ… رأسي…! لا، ليس الآن… ليس مرة أخرى."

حاول أن يواصل سيره، لكن خطواته تعثرت قليلًا، كأن شيئًا يشدّه للخلف.

"لا أصدق أني سأستيقظ في الصباح لأبتسم في وجهها…

لأقبلها كما أفعل كل مرة… هذا مزعج…"

توقف، نظر إلى الفراغ أمامه وكأن صوتًا خفيًا يتمتم في أذنه.

"فقط… لو أنها لم تأتِ.

لو أنها اختفت.

يكفيني أن لدي أخت واحدة… وهي فيكتوريا."

في تلك اللحظة، كنت جالسة داخل غرفتي، لا زلت أستعيد أنفاسي بعد كل ما مررت به في هذا اليوم الطويل، عندما التفتُّ إليه وسألته بنبرة غاضبة بعض الشيء:

"إذًا، أنت تخبرني أنّك عندما رأيت الحبل الذي خبأته بين الأشجار، ووجدت نافذتي مفتوحة، شعرت بالقلق من أن يكون أحدهم قد تسلل إليّ وأذاني، فصعدت إلى غرفتي لتتأكد... ولم تجدني؟ وبعدها، أثناء بحثك، رأيت الحبل وسمعت من أوسكار قصة الخادمة؟"

كان جالسًا على سريري، وابتسامة هادئة على وجهه وكأن شيئًا لم يحدث، ثم قال:

"أجل، هذا صحيح."

تجمدت ملامحي، وصرخت بصوت خافت، أحاول كتم الغضب الذي بدأ يتصاعد داخلي:

"لكن كيف تجرؤ على الصعود إلى غرفتي من دون إذني؟! وكيف تدخلها بهذا الشكل؟! هذا ليس من اللياقة يا حضرة الدوق الشاب!"

ضحك بخفة وأمال رأسه قليلًا وهو يرد:

"آه صحيح، أنت محقة. ربما كان من الأفضل أن أخبر والدي بما حدث، أليس كذلك؟"

شعرت بقشعريرة تسري في ظهري. حدقت فيه بتوتر، وما إن بدأت أفتح فمي للاعتراض حتى تابع ببرود مزعج:

"اطمئني، لن أخبره. ولكن... بما أنني شرحت لك ما الذي حدث، أعتقد أن دورك قد حان. لماذا خرجتِ في هذا الوقت، وبدون أي حراسة؟"

شعرت بأن قلبي بدأ يخفق أسرع. فتحت فمي باندفاع:

"ماذا؟ ألم تقل إنك لن تسألني؟!"

ابتسم بتلك الطريقة المستفزة مجددًا وقال:

"قلت هذا لأن الوقت حينها لم يكن يسمح. أما الآن... فعليكِ الشرح، وإلا سأخبر والدي بما فعلته، وسأجعله يشدد الحراسة عليكِ."

أخذت نفسًا عميقًا، مرهقة، مرهقة حقًا...

أشعر بأن ساقي بالكاد تحملاني، وقلبي مثقل بكل ما مررت به.

"انتظر لحظة... أنا متعبة جدًا من هذا اليوم. الخروج، والتخفي، وكل شيء.

أريد فقط أن أرتاح... أرجوك، أعدني إلى مكاني وأزل اختبائي الآن، وسأشرح لك كل شيء غدًا في الصباح."

أجابني وهو يبتسم ابتسامة بلهاء، جعلتني أشعر برغبة عارمة في ضربه:

"لا أعرف طريقة إزالته، للأسف."

حدقت فيه للحظة، غير مصدقة ما سمعته للتو.

رفعت حاجبيّ وأنا أكرر ببطء:

"مهلًا... ماذا قلت الآن؟"

هز كتفيه بخفة وأعاد الجواب بنفس اللامبالاة:

"قلت إنني لا أعرف لأنه...."

في لحظة خاطفة، امتدت يدي إلى مزهرية الموضوعة بجانبي، وأمسكت بها بكل غضب، ثم ألقيتها عليه بكل ما أوتيت من قوة!

صرخت وأنا أشعر بالغليان يتفجر داخلي:

"تبًّا لك! سحقًا! اذهب إلى الجحيم أيها المغفّل!"

تراجع للخلف قليلًا محاولًا تجنّب الضربة، ثم قال بصوت متذمر كأنني أنا المخطئة:

"هيا، احترميني قليلًا، أنا أخوكِ الأكبر، ولا تنسي... لولا ما فعلته، لكنتِ الآن مكشوفة أمام أوسكار!"

زمجرتُ في وجهه:

"وما الفرق! سأظلّ مختفية، وغدًا حين يأتي أوسكار لن يجدني، ثم... بالله عليك! كيف تلقي عليّ تعويذة إخفاء... ولا تعرف كيف تبطلها؟!"

رفع يده خلف رأسه، يحكّ شعره بخجل طفولي وقال:

"إنها فقط... تعويذة تعلمتُها في أحد دروس السحر، وكنتُ حينها لا أعلم إن كانت ستنجح أصلًا، لكن جربتها، لأنها كانت الشيء الوحيد المتبقي في ذاكرتي. أنتِ تعرفين أنني لا أجيد سوى نوع السحر المرتبط بالسيف، ولستُ مثل بقية السحرة الذين يتقنون التعويذات."

أغمضت عينيَّ بيأس، أتنفس ببطء... هل هذا هو أخي؟

إنه يتصرف وكأنه قام بإنقاذي من مصيبة، بينما في الواقع... زاد الطين بلّة

قال ليونارد بثقة وهو يعقد ذراعيه:

"لكن لا تقلقي، لقد أرسلتُ إلى ساحر أعرفه. إنه من أمهر السحرة في المملكة وسيأتي حالًا. صديق مقرب، وهو في عمرك تقريبًا."

نظرت إليه بحدّة، وقلبي ينبض بخوف خافت، "ماذا؟! ألم تفكر أنه عندما يأتي… قد يكتشف كل شيء؟! وقد يخبر والدك؟"

لوّح ليونارد بيده باستهانة قائلاً:

"لا داعي للقلق، إنه شخص هادئ، كتوم، وطيب القلب. ثم إننا لن نخبره بما حدث بالتفصيل. سنختلق قصة بسيطة. كل شيء سيكون على ما يرام، أعدكِ."

صمتُّ لبرهة وأنا أحدق فيه بريبة، قبل أن أهمس:

"تبدو واثقًا من مجيئه السريع."

ابتسم ليونارد ابتسامة صغيرة وهو يربت على المكان بجانبه على السرير، "اجلسي، سيصل في أي لحظة."

كنت أتحرك نحوه لأجلس، لكن قبل أن أصل إلى السرير، حدث شيء جعلني أتجمد في مكاني...

فراشة.

فراشة خضراء ناعمة ظهرت على حافة النافذة، وكأنها خرجت من عالم آخر. أجنحتها الشفافة كانت تلمع كما لو أن فيها شظايا نجم. سحرها كان آسرًا… لا يشبه شيئًا رأيته من قبل.

ثم فجأة—وكأن أحدهم فتح بوابة للضوء—انفجر وهج أخضر في الغرفة، غمر كل شيء بنور ساطع جعل عيني تؤلمانني.

أغمضت جفنيّ على الفور وهمست لنفسي:

"ما هذا الضوء...؟!"

في تلك اللحظة، وسط السكون الذي تبع الانفجار، سُمِع صوت ناعم، هادئ، وواثق. كان يحمل نبرة لطيفة لكنها قوية، كأنها صوت شخص يعرف تمامًا ما يفعل:

"أعتذر على تأخري... سيد ليونارد."

فتحت عينيّ ببطء، بينما كنت لا أزال مخفية بفعل تعويذة ليونارد. لم أجرؤ على الحركة، شعرت بأن أنفاسي نفسها صارت ثقيلة، كأنني مراقبة.

الشخص الذي دخل... لم أره بعد بوضوح، لكنه بدا مختلفًا، وكأن حضوره نفسه يُشعرني بالرهبة. شعرت بقشعريرة خفيفة تسري على ظهري دون سبب.

هل يمكن… أن يكون هذا هو الساحر؟ هل سيشعر بي؟ هل تعويذة الإخفاء قوية بما يكفي؟

كان ليونارد قد وقف بالفعل، وبدأ يرحب به كأن اللقاء عادي… لكن أنا؟ كنت أختبئ في قلب الصمت، أرقب القادم وأنا أتشبث بالخوف.

فتحتُ عيني ببطء، ما زال الضوء الأخضر يتلاشى في أرجاء الغرفة، كأنه بقايا حلم ساحر. نظرتُ نحو النافذة، ثم إلى مركز الغرفة حيث وقف الفتى الجديد، وأقسم… أن الهواء نفسه بدا وكأنه انحنى لحضوره.

ورأيته.

رأيته جيدًا، كما وُصف تمامًا في الرواية التي كنتُ أظنها مجرد خيال...

لكن… ما الذي يفعله شخصٌ مثله هنا؟

في هذا الوقت، في هذا المكان، وداخل غرفتي تحديدًا… بل والأسوأ… في صحبة ليونارد، وكأنه استُدعي لطلب صغير كاستبدال مصباح محترق!

2025/05/16 · 15 مشاهدة · 2463 كلمة
نادي الروايات - 2025