دخل رجل بهدوء غير بشري، كأن الأرض نفسها لا تصدر صوتًا تحت قدميه.
شعره الأسود انسدل بنعومة فوق جبينه، وعيناه الخضراوان...
يا إلهي.
كانت أشبه بزمردتين حيّتين، تلمعان في الضوء الخافت كما لو أنهما تحتفظان بأسرار الليل والنجوم معًا.
كان وسيمًا، لا، بل ساحرًا... بطريقة لا تُصدَّق.
ملامحه هادئة، رصينة، لكن في ذلك الهدوء شيء خطير. شيء يُشعرك أن هذا الشخص، مهما بدا ساكنًا الآن، يمكنه أن يُحيل العالم إلى رماد إن أراد.
و... من وصفه هذا فقط، لم أحتج لأي دليل آخر.
عرفته.
عرفته كما أعرف اسمي الآن.
إنه لوسيان جوليوس إيفرين.
البطل الفرعي في الرواية الأصلية.
الساحر الذي لا ينتمي لأحد، والوريث المحروم لإرث الظلام.
مهلًا… مهلًا… مهلًا!
ما الذي أتى به إلى هنا؟!
ما الذي يحدث بحق الجحيم؟!
بدأ قلبي ينبض بعنف، وأنا أنظر إليه في ذهول، رغم أنني ما زلت مختبئة تحت تأثير تعويذة الإخفاء.
لم أستطع التوقف عن التفكير.
"هل من الممكن… أن يكون هذا مجرد شبه؟ ربما... مجرد شخص يشبهه قليلًا؟ لا يعقل أن يُقحم الكاتب الأصلي هذا المشهد هكذا، لم يظهر لوسيان في القصر إلا بعد عشرات الفصول…"
لكن كل شكوكي، وكل أوهامي الجميلة، سقطت دفعة واحدة حينما قال ليونارد، بنبرة مزاح لطيفة وهو يتقدم نحوه:
"لوسيان، لقد تأخرت. كنت سأرسل فراشة أخرى في طلبك."
...وانهار كل شيء بداخلي.
إنه هو. حقًا هو.
لوسيان بنفسه… أمامي… في غرفتي… واللعنة، أنا غير مرئية الآن، لكن لا أحد يضمن أنه لن يشعر بي.
ساحر الظلام لا يُخدع بسهولة… أليس كذلك؟
سحقًا، سحقًا لي ليونارد!
في كل مرة يحاول أن يصلح أخطاءه، لا يفعل سوى أن يزيد الطين بلة، كأنما يشتت كل شيء أكثر مما يصلحه.
صحيح أن الكاتب وصف لوسيان بأنه هادئ، طيب، ولطيف، لكن ماذا يعني وجوده هنا؟ ما الذي يفعله بطل الرواية الفرعي وسط كل هذا الاضطراب؟
لا أريد الاختلاط بهؤلاء الأبطال، كل تواجدهم فقط يجعل الخطر يلتف حولي أكثر فأكثر، أشعر بأن موتي صار وشيكًا، أسرع مما توقعت.
لكن الموت بالنسبة لي ليس خوفًا، ولا اعتراضًا، بل قبولًا حزينًا. أنا أصلاً ميتة في داخلي منذ زمن بعيد، لا أنبض إلا بأمل واحد: أن أنقذ الدوقة قبل أن تغرق في الظلام.
يرتفع صوت غاضب داخلي كبركان جاهز للانفجار، أريد أن أصرخ في وجه ليونارد، أن أقول له: “لماذا تفعل هذا؟ لماذا تزيد جراحي بدلاً من شفائي؟”
يتملكني إحساس كالحريق، نار في صدري تحترق بحقد دفين، أريد أن أمسك بيده، ليس كأخت بل كعدو، أريد أن أقبض عليها بقوة وأهزمها قبل أن أهزم أنا.
لكنني أعي أن القوة ليست في يدي الآن، وأن كل خطوة أخطوها هي مجرد بداية لمعركة طويلة، قاسية، لا مفر منها.
أتسائل في سكون الليل: هل ليونارد يعلم حقًا حجم الألم الذي يسببه لي؟ أم هو غارق في نفسه، لا يدري كيف أن أفعاله تضاعف أوجاعي؟
تتسارع دقات قلبي، يتصاعد صوت الصمت داخلي، صمت يصرخ أكثر من أي كلمة، أكثر من أي دمعة.
أنا هنا، في وسط هذا الاضطراب، أحاول أن أكون قوية، لكن داخلي منكسر، متفتت، كحطام سفينة تقاوم عاصفة لا تنتهي.
في تلك اللحظة، تحدث لوسيان بصوته الهادئ، الذي بدا وكأنه ينساب بهدوء كالنسيم في ليلة صيفية:
"سيد ليونارد، أنت تعلم كم من المهام المتراكمة لدي، وما إن وصلتني رسالتك حتى أسرعت بإنهاء ما بيدي وجئت فورًا."
كان صوته دافئًا، لا يحمل أي عتاب، بل اتسم بالهدوء والجدية التي تميّز شخصيته الرزينة.
ابتسم ليونارد بخفة، في محاولة لتخفيف توتر الأجواء، وقال وهو يلوح بيده:
"أعلم، أنا فقط أمازحك، لوسيان. لا داعي لأن تكون دائمًا رسميًا هكذا."
ثم اقترب منه قليلًا، وتغيرت نبرة صوته إلى الجدية وهو يضيف:
"على أي حال، قرأت رسالتي جيدًا، أليس كذلك؟"
أومأ لوسيان برأسه، وعيناه الخضراوان – اللتان تشبهان الزمرد في نقائه – لمعتا قليلًا بينما قال:
"أجل، قرأتها. وحسب ما فهمت، أنت استخدمت تعويذة إخفاء على أختك غير الشقيقة عن طريق الخطأ… لكن، الغريب أنني لا أشعر بأي أثر لسحر على فيكتوريا."
في تلك اللحظة، تغيرت ملامح ليونارد بوضوح، وكأن لسانه تعثر للحظة قبل أن يصحح الأمر بسرعة:
"لا، لا... لم أكن أقصد فيكتوريا. من ألقيت عليها التعويذة هي أوريانا، أختي الثانية."
توقف الزمن لثانية قصيرة، بدا فيها لوسيان وكأنه أعاد ترتيب الأفكار في ذهنه، ثم قال بنبرة اعتذار خفيفة:
"آه، فهمت الآن. أعتذر، ظننت أنك تقصد فيكتوريا."
مد يده بهدوء أمامه، وأغلق عينيه للحظات. بدأ يتمتم بتعويذة سحرية بلغة خافتة، كأنها تخرج من أعماق الغابة نفسها. ما إن انتهى، حتى بدأ الضوء يتجمع من حولي ببطء.
كان ضوءًا أخضر ناعمًا، لا يُشبه أضواء السحر الأخرى التي عرفتها في القصص أو في ماضٍ بعيد.
بل كان دافئًا، ناعمًا، كأنّه ضوء ينبض بالحياة… ضوء لا يُخيف، بل يحتويني.
شعرت به يلامس بشرتي بلطف، كما لو كان الغطاء الذي اختبأت تحته طويلًا يُسحب الآن ببطء.
شيء في داخلي أخبرني أنني على وشك أن أُكشف.
وكنت أعلم أن اللحظة التالية ستكون فاصلة… فحين تتلاشى تلك الهالة، لن أكون مجرد فتاة مختفية عن الأنظار، بل أوريانا… واقفة أمام أحد أبطال هذه الرواية.
ما إن تلاشى الضوء الأخضر وتبخرت آخر خيوطه في الهواء، حتى بدأت الرؤية تعود تدريجيًا إلى وضوحها.
أمام ناظري، كان ليونارد واقفًا بجانب لوسيان، وعيناه تتفحصاني بقلق ظاهر.
تقدم خطوة نحوي، ونبرته تفيض بالاهتمام:
"أوريانا... هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بأي آثار للسحر؟ هل هناك شيء غريب؟ هل أنتِ متعبة؟"
كان يتكلم بسرعة، كأنه يهرع للكلمات قبل أن تهرب منه، وعيناه تتحركان بسرعة من وجهي إلى أطرافي.
رفعت يدي بلطف لأوقفه، ثم تنهدت:
"لا، ليونارد، أنا بخير تمامًا. أنت تُحدث جلبة بلا داعٍ، كأنك أحرقت القصر."
عقد حاجبيه، وظهرت ابتسامة خفيفة على وجهه، لكنها كانت تحمل بعض الجرح:
"هل أنا مخطئ لأني أقلق عليكِ؟ حسنًا، في المرة القادمة لن أُعبّر عن اهتمامي، فقط قولي لي أن أذهب للجحيم."
أردت أن أرد عليه، لكن شيئًا آخر شتّت انتباهي...
نظرة.
شعرت بها كنسمة باردة تسير على جلدي.
التفتُ، وإذا بي أجد لوسيان جوليوس إيفرين، واقفًا بهدوئه المعتاد، يُحدق بي بعينيه الخضراوين العميقتين، وكأنه يقرأ شيئًا مخفيًا خلف وجهي.
ثم، ببساطة، ابتسم.
كانت ابتسامته هادئة، لا تحمل أي سخرية أو فضول فاضح، بل شيء يشبه الدفء الهادئ.
"إذاً... أنتِ الآنسة أوريانا التي يتحدث عنها السيد ليونارد دائمًا؟"
قالها بنبرة ناعمة، ثم أضاف وهو يميل قليلًا:
"أنتِ جميلة حقًا... عكس ما يُقال عنك."
تجمدت في مكاني.
...ماذا؟
هل هذا وقت مدح؟!
هذا غريب... مزعج حتى.
أي نوع من الأبطال يوزع المجاملات على الشريرات هكذا؟! هل هذا جزء من شخصيته الطيبة؟
لكن لم أتمكن من الرد، لأنه تابع بنبرة أكثر لطفًا، وهو يخطو نحوي ببطء:
"صحيح، آنسة أوريانا، هل لي أن أسألك؟… هل التقينا من قبل؟"
كانت نبرته منخفضة، فيها شيء غامض، كأنه يُفتّش عن ذكرى ضائعة.
تسمرت في مكاني.
...ما هذا؟!
لماذا يسألني ذلك؟!
هل يشعر بشيء؟ لا، هذا مستحيل. لوسيان، حسب الرواية الأصلية، لم يلتقِ أبدًا بأوريانا.
هي لم تكن تخرج أصلًا من القصر، كانت دائمًا محبوسة بين الجدران، حتى انتهت نهايتها البائسة باتهامها بتسميم الأميرة.
خطا خطوة أخرى، لكن قبل أن يقترب أكثر، امتدت يد ليونارد بسرعة أمامه، كحاجز بينه وبيني.
كان تعبيره هذه المرة أكثر جدية، وملامحه حملت توترًا لم أره من قبل.
"لوسيان، من الأفضل أن تبقي مسافتك."
قالها بنبرة هادئة لكنها قاطعة.
صوت لوسيان انخفض قليلًا، وملامحه باتت أكثر هدوءًا، وربما قليلًا من الحرج تسلل إلى عينيه الخضراوين وهو يقول:
"أنا آسف... لم أقصد أن أزعج الآنسة. فقط... شعرت أننا التقينا من قبل."
نظر نحوي مجددًا، لكن هذه المرة كان في عينيه شيء يشبه الحنين الغامض، وكأنه يحاول أن يسترجع ملامح من حلم قديم.
ثم التفت فجأة نحو ليونارد، وقال بنبرة فيها شيء من الحيرة:
"لكن، سيد ليونارد... كيف ألقيت تعويذة إخفاء على الآنسة؟ حسب علمي، أنت لا تميل لاستخدام هذا النوع من التعاويذ عادة. ما الذي حدث بالضبط؟"
ظهر على وجه ليونارد القليل من الضيق، وحدق في لوسيان نظرة طويلة قبل أن يرد بلهجة ممزوجة بالانزعاج والسخرية:
"هل أصبحت فضوليًا مؤخرًا، لوسيان؟ لم أرك تسأل عن شيء أو تتدخل هكذا من قبل."
لوسيان ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنه بدت باهتة قليلًا:
"أعلم… آسف، فقط… مجرد فضول لا أكثر."
لكن قبل أن يتمكن أحدنا من الرد، تسللت إلى الغرفة فراشة خضراء مجددًا.
رفرفت أجنحتها بهدوء وهي تطير باتجاه لوسيان، ثم حطّت برقة على يده الممدودة كأنها كانت تعرفه جيدًا.
نظر إليها، وعيناه تعكسان فهمًا عميقًا للرسالة التي تحملها.
"أُعذروني..." قال وهو يرفع عينيه نحونا، "يبدو أنهم بحاجة لي في الدوقية، أُستدعيت للتو."
رد عليه ليونارد وهو يُلوّح بيده بكسل:
"أجل، اذهب، ولا تعُد إلى هنا مجددًا إلا إذا احتجتك. فهمت؟"
ضحك لوسيان بخفة، وهز رأسه قائلاً:
"أنت قاسٍ حقًا يا سيد ليونارد."
رد عليه ليونارد بصوت ساخر، "شكراً على المجاملة."
ثم، وقبل أن يختفي، نظر إليّ مجددًا. هذه المرة نظرته كانت أهدأ، وأكثر لطفًا، وكأن فيها شيء يُقال دون كلمات.
ابتسم وقال:
"إلى أن نلتقي قريبًا... آنسة أوريانا."
وما إن انتهى من كلماته، حتى بدأ جسده يتوهج بنور خافت، ثم تحوّل تدريجيًا إلى فراشات خضراء لامعة.
راحت تتناثر في الغرفة بهدوء، كما لو أنها لا تنتمي لهذا العالم.
كان المشهد أشبه بسحر من الحكايات... صامت، مدهش، وله تأثير لا يزول بسهولة.
ما إن اختفى لوسيان وسط تلك الفراشات اللامعة، حتى بقيت واقفة في مكاني، شاردة.
نظراته... كلماته الأخيرة... نبرة صوته الهادئة، وطريقة نظره إليّ...
ما الذي يقصده؟ ولماذا نظر إليّ بتلك الطريقة؟
لم تكن نظرته كراهية، ولا استحقارًا كما اعتدت من الآخرين... بل كانت هادئة، دافئة، وربما... مهتمة؟
لا، لا يمكن. هذا مجرد ارتباك مؤقت. ربما توهمت ذلك بفعل المفاجأة، أو بسبب أني كنت مختبئة للتو عن الأنظار، ثم ظهرت فجأة أمامه.
وبينما أنا غارقة في تلك الأفكار، شعرت بيد تسحبني بخفة ولكن بحزم.
التفت سريعًا، لأرى ليونارد يقف بجانبي، عينيه موجهتان للأسفل.
نظرت بدوري لأفهم ما يحدّق فيه، فأدركت أنه ينظر إلى يدي... أو بالأحرى، إلى معصمي.
كان رأسه منخفضًا، يغطي وجهه قليلاً، فلم أستطع أن أقرأ ملامحه، لكن صوته خرج منخفضًا، أقرب إلى الهمس:
"ما هذا...؟"
ارتبكت، وقلت بسرعة:
"ماذا؟ ماذا تقصد؟"
لكن فجأة، رفع رأسه إليّ.
ويا إلهي...
وجهه كان غاضبًا بشكل لا يُصدق، يكاد الغضب ينفجر من قسماته المتوترة، أما عينيه البنفسجيتين فكانتا تشعّان بوميض غريب، يكاد يُحرق الهواء حوله.
"لـ... ليونارد؟ ما الذي يحدث؟"
قال بصوت حاد، يقطّع الصمت من حولنا:
"أنت... ما الذي حدث لمعصمك؟"
نظرت بسرعة إلى معصميّ، وهناك... أدركت.
الجلد كان أحمر، متورمًا، بعض الآثار الزرقاء تظهر تحت البشرة، تمامًا حيث أمسكت بي تلك العصابة بقوة وهم يسحبونني.
كيف لم أنتبه لهذا من قبل؟!
لكن طبعًا... في وسط كل ما حدث، وسط اختفائي، وظهور لوسيان، وقلقي من اكتشاف أمري، نسيت تمامًا الألم.
همس ليونارد، لكن نبرته كانت مشبعة بالغضب المحتبس:
"أوريانا... سأقول شيئًا واحدًا فقط."
نظرت إليه، أحاول تمالك نفسي.
"أعلم أنك متعبة... وترغبين في الراحة. ولا تريدين مني أن أسأل عن ما حدث اليوم."
ثم اقترب، ونظر في عينيّ نظرة حادة، لكن خلفها كان شيء آخر... قلق. حزن؟ ربما حتى ندم.
"لكن... ستجيبينني على سؤال واحد فقط."
توقف لحظة، قبل أن ينطق ببطء:
"ما الذي حدث لمعصمك؟ الآن؟"
"هيا، أجيبيني، من فعل هذا؟!"
صوته اخترق أذني بحدة، كأن الهواء من حولي قد توقّف عن التنفس.
لكني بقيت صامتة. مجرد نظرة إلى عينيه كانت كافية لتدفعني للوراء، ليس خوفًا منه، بل من ردة فعله التالية.
حدّق بي للحظات، ثم ابتعد خطوة للخلف، وقال بصوت منخفض لكن يحمل في نبرته الغليان:
"انتظري... أنتِ... لن تخبريني، أليس كذلك؟"
أخفضت بصري، لا أدري إن كان ذلك اعترافًا أم تهربًا.
"لا بأس..." صوته أصبح أكثر برودًا، لكنه لم يكن هدوءًا مطمئنًا، بل صقيعًا يسبق العاصفة.
"...فأنتِ معتادة على أن تكوني كتومة."
ثم، دون أي تحذير، استدار واندفع نحو النافذة.
"سأذهب بنفسي الآن... وسأعرف من هم. وعندها... لن يروا النور مرة أخرى. لأنهم تجرأوا على العبث مع أحد من دوقية سيريوس!"
"ماذا؟ انتظر!" صرخت، لكن... فات الأوان.
قفز من النافذة دون أن يلتفت، تاركًا إيّاي في دوامة من الذهول والقلق... والكثير من الصداع.
"م-مهلًا... ماذا؟" همست لنفسي، عاجزة عن اللحاق.
رفعت يدي ببطء إلى رأسي، وضغطت على صدغيّ.
ما الذي يحدث بحق الجحيم؟
ليونارد... أكان دومًا بهذا الشكل؟ كنت أظنه هادئًا، غير مبالٍ، باردًا أحيانًا، لكنه لم يكن أبدًا مخيفًا كما بدا الآن.
وتذكرت... لوسيان.
ولماذا البطل الفرعي كلّمني بهذه الطريقة؟
ولماذا شعرت لوهلة أن نظراته تعرفني؟ بل تشعر بي؟
كل شيء غير منطقي، غريب، يربك قلبي وعقلي معًا.
جلست على السرير بثقل، تنفست بعمق، ثم مسحت على وجهي بيديّ، وكأنني أحاول مسح كل هذه المشاعر المختلطة دفعة واحدة.
"آه، بجدية..." تمتمت، وأنا أتحسس جبهتي المنهكة.
"أشعر بصداع، وبرغبة شديدة في النوم... لقد تعبت، حقًا تعبت."
قمت ببطء، خلعت ملابسي وارتديت ثوب النوم، ثم انزلقت إلى الفراش كما لو أن جسدي قد تحوّل إلى حجر.
وما إن لامست رأسي الوسادة، حتى سقطت في النوم.
لكن راحتي لم تدم...
كالعادة، الكوابيس لم تتأخر.
وجوه من الماضي، أصوات مؤلمة، صراخ، وخذلان...
أمي، أبي، أختي... دموع، صمت، نظرات باردة...
هيونا وهي تضحك... وأنا أُسحب... يُتّهمونني... وانا أموت...
استيقظت فجأة، ووجدت دموعي تنساب بهدوء على خدي.
جلست على السرير، أنفاسي متقطعة، قلبي ينبض في أذني.
مددت يدي، ومسحت الدموع التي بلّلت وجهي.
"لماذا؟" همست لنفسي.
"لماذا ما زلت أبكي؟"
أنا التي حاولت، قاتلت، سجدت ألف مرة كي أحظى بحبهم، بحنّيتهم، برضىً لم يكن لي منذ البداية.
أنا الغبية.
لماذا تدمع عيناي إذًا؟
أبكي على ماذا؟
على حطام قلبٍ لم يُلتقط يومًا؟
أم على لبن مسكوب، لم يكن لي من الأصل؟
الأمر لم يعد يُضايقني حقًا...
أو هكذا كنت أظن.
لكن، كلما استيقظت لأجد الدموع تجف على وجنتي، شعرت بتلك الغرابة الصامتة في صدري.
لماذا تبكي عيناي دون إذني؟
كأن قلبي ينهار بصمت، بينما أنا... ما زلت أُصرّ على الوقوف.
تنفست بعمق، وغمغمت بنبرة شبه هامسة:
"عليّ أن أستيقظ الآن..."
مررت يدي على وجهي، كأنني أُزيح بقايا الحلم، أو الذكرى، أو الألم.
"أوسكار سيزورني بالتأكيد ليستفسر عما حدث البارحة... من الأفضل أن أستعد قبل أن يأتي."
رغم الإرهاق، دفعت جسدي من الفراش ببطء، وذهبت لأبدّل ملابسي.
اخترت ثوبًا هادئًا، بسيطًا لكنه أنيق، ورفعت شعري بطريقة مرتبة. نظرت إلى انعكاسي في المرآة للحظة.
وجه شاحب، عينان خافتتان، وابتسامة مصطنعة.
"هذا يكفي..." تمتمت، ثم التفتُّ نحو النافذة.
لكن الوقت مرّ... ولم يطرق أحد باب غرفتي.
لا خادمة... لا خبط على الباب... ولا أوسكار.
شعرت بشيء من التوتر، لا بسبب غيابه، بل بسبب الهدوء الغريب الذي خيّم على المكان.
جلست على المكتب الخاص بي، أطلقت تنهيدة ثقيلة، ثم سحبت بعض الكتب التي كنت قد أخذتها سابقًا من مكتبة الدوقية.
كانت الروايات القديمة تشغلني أحيانًا، تبعدني عن الحقيقة... وعن نفسي.
مرّت الدقائق... ثم الساعات.
قلّبت الصفحات ببطء، لكن نظري لم يكن مركزًا. كنت أقرأ، دون أن أعي ما أقرأه.
كل كلمة كانت تمرّ كنسيم باهت لا يلامسني، لا يهزني.
رأسي يميل قليلاً، ويدي تستند إلى الطاولة...
وفكري؟ في مكانٍ آخر تمامًا.
"ما الذي يحدث حولي؟"
كل شيء بدأ يتغير منذ دخول تلك القصة اللعينة...
منذ أن أصبحت "أوريانا"...
لكن...
"طَرق الباب" المفاجئ قطع حبل أفكاري بعنف.
رفعت رأسي ببطء، وكأن الواقع يسحبني من أعماقي دون رحمة.
"أخيرًا، حضر!"
همست بسخرية وأنا أضع إشارة داخل الكتاب:
"شرفنا أوسكار... حضرة الأستاذ المتشكك شرفنا بحضوره."
لم أجهد نفسي حتى بسؤاله من خلف الباب، فقط قلت بنبرة باردة:
"تفضل."
عدت بنظري للكتاب، أُقلب الصفحة ببطء... لكن الخطوات القادمة لم تكن كما توقعتها.
كانت أخف، أكثر نعومة، أقل حدّة من خطوات أوسكار المعتادة.
رفعت عيني تلقائيًا—
وتجمّدت للحظة.
"مهلًا..."
ما الذي... تفعله هنا؟
تقلّصت ملامحي لا إراديًا، وشعرت بشيء ينكمش في صدري.
"هذه...؟!"
هذه ليست أوسكار.
ما الذي جاء بها و أين أوسكار