دخلت مارچيت، كبيرة خدم الدوقية، بخطوات رزينة كأنها تظن الأرض لا تتحرك إلا بإذنها.

رفعت رأسي عن الكتاب الذي كنت أقرؤه، وألقيت عليها نظرة سريعة... باردة كعادتي معها.

أين أوسكار؟

تجولت عيناي خلفها للحظة، لكن لم أره.

عبستُ بضيق.

"ما الذي تفعلينه هنا؟ أين أوسكار؟"

سألتها دون حتى أن أكلف نفسي عناء تلطيف نبرتي.

ترددت للحظة ثم قالت:

"هل تبحثين عن شيء يا آنسة؟"

"هل أنا من وجهت سؤالاً؟"

رددت ببرود وأنا أغلق الكتاب بين يدي بنقرة حادة.

"ما الذي جاء بك؟ إن لم يكن الأمر مهمًا، اخرجي فورًا."

تصلبت ملامحها قليلًا لكنها انحنت بخضوع.

"الدوق… يدعوك لتناول الإفطار معه. ويأمل حضورك."

اتسعت عيناي لوهلة، وفُتحت شفتاي بجملة كنت على وشك إطلاقها:

"أخبريه أني—"

لكن توقفت.

ربما… هذا عن الكتب.

أو عن الاختبارات في الأكاديمية.

أو عن شيء آخر لا يمكن تجاهله الآن.

أغمضت عيني لثانية أوزن الرد، ثم تنهدت ببطء:

"حسنًا… سآتي."

وقفت من مقعدي بهدوء ورفعت رأسي بفوقية، ثم سرت أمامها وكأنها غير موجودة.

خطواتها خلفي كظلي، بلا صوت، بلا قيمة.

غرفة الطعام تقترب…

ومعي يقين واحد فقط:

هذا الصباح لن يكون عاديًا.

دخلتُ بخطوات واثقة إلى غرفة الطعام، ورائحة الخبز الساخن والمربى الفاخر تعبق في المكان...

لكن لم يكن الطعام ما جذب انتباهي أولاً.

كانت نظراتهم.

أوسكار، جالس قرب الطرف الأيمن من الطاولة، بوجهه المتجهم المعتاد.

فيكتوريا، تتصنع الابتسامة والبراءة، كأنها لم تكن منذ أيام تحيك ضدي الدسائس.

ليونارد، على يمين والده، يلمس كوب الماء دون أن يشرب، وملامحه ساكنة كأنها منحوتة من حجر.

وفي المنتصف... كان يجلس الدوق.

"أوريانا، تفضّلي. اجلسي هنا، بجواري."

قالها الدوق وهو يشير إلى الكرسي بجانب ليونارد.

ابتسمت بخفة لا تخلو من الجفاء، واقتربت لأجلس.

جلست، وكل حواسي مشتعلة. ليس بسبب الجوع… بل التيقظ.

الكرسي المقابل لي كان يشغله أوسكار، وبجانبه فيكتوريا، التي لم تلتفت نحوي سوى لتلقي عليّ نظرة عابرة، أقرب إلى خنجر ملفوف بالحرير.

بدأ تقديم الطعام.

وضعت الملعقة أمامي ببطء، تأملت الطبق المزيّن بعناية… لكني لم ألمسه.

نظرت للخادمة التي قدمته لي، نظرة فاحصة، باردة، زلزلت ثباتها.

"إن وُجد أي شيء غريب في هذا الطعام…"

"لو كان طعمه، لونه، رائحته غريبة…"

"سأجعلها تندم."

يدي لم تتحرك، لكن عيناي كانتا تعملان بحدّة.

وفجأة، قبل أن أفعل شيئًا—

سمعت صوته.

"أوريانا."

نظرتُ إلى ليونارد.

"خذي طبقي، وأعطيني طبقك. أظن أنها ستكون فكرة جيدة، أليس كذلك؟"

رمشت لوهلة، وعقلي يحاول تفسير هذا…

هل هو يشك؟

أم يعرف شيئًا لا أعرفه؟

أم فقط يحاول حمايتي؟

نظرت إليه… نظرة طويلة دون كلمة.

خذت نفسًا عميقًا قبل أن أقول ببرود:

"لا أريد طعامك، ليونارد. هذا طعامي، وُضع هنا، في مكاني. لذا... توقف عن الاهتمام الزائد."

أمسكت الملعقة، وبدأت أتناول الطعام بثبات.

على غير العادة... لم يكن هناك شيء غريب. لا طعم مريب، لا روائح مشبوهة. مجرد طعام.

ولكن… الصمت لم يدم طويلًا.

"يبدو أنك نمتِ جيدًا ليلة البارحة، أليس كذلك يا أوريانا؟"

رفع أوسكار صوته بنبرة خفيفة، لكنها كانت تحمل أكثر مما توحي.

هل كان يلمح؟

توقفت عن الأكل. وضعت الملعقة على حافة الطبق ونظرت إليه.

"لست معتادة على أن يهتم بي الدوق الشاب... إن كنت نمت جيدًا أم لا."

"ألم أكن مجرد فتاة متبناة؟ لا قيمة لها في هذه الدوقية؟"

"لماذا هذا الاهتمام الزائد فجأة؟"

كان كلامي كصفعة على وجه الجميع.

ردّ الدوق بصوت منخفض فيه نبرة استياء:

"أوريانا… ما الذي تقولينه الآن؟"

لكن أوسكار تدخل، بنبرة غليظة:

"يبدو أنك بحاجة إلى معلمة آداب. لا تتحدثي بهذه الطريقة، خاصة وأني أخوك الأكبر."

تدخل الدوق بصوت صارم:

"أوسكار! فلتتوقف. لا تتحدث مع أختك بهذه الطريقة."

لكنني لم أعد أسمعهم... لم أعد أراهم كما هم، بل كما كانوا دائمًا في نظري:

وجوه مزيفة... قلوب مغلقة... كلمات منمقة تخفي احتقارًا متجذرًا.

"آه… ربما أحتاج بالفعل لمعلمة آداب."

قلت وأنا أرفع رأسي نحوه بنظرة جامدة، ثم أضفت:

"لكن هل حصلتُ على واحدة؟ لا."

رد علي ببرود كامل :

"ألست أنت من قال لي سابقًا، دعك مني، أنا لا أريد منك شيئًا؟"

نظرت إلى فيكتوريا، التي كانت تنظر إلى طبقها كأنّ لا شيء يحدث.

الملاك الكاذب. المتفرجة على خراب غيرها بصمت.

"صحيح... أوريانا رفضت كل شيء لأن فتاةً ما أقنعتها بذلك... مقابل؟ آه نعم، مقابل لا شيء سوى الخداع."

ثم التفتُّ مجددًا إلى أوسكار، وببرود حاد قلت:

"أجل، ربما أحتاج إلى من يعلّمني الأدب."

"أما أنت... فأنت بحاجة لمن يعلّمك الرجولة، وكيفية الاعتناء بأختك قبل أن تدّعي كونك أخًا أكبر."

طَــــــــررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررق!

ضرب الدوق الطاولة بقوة حتى اهتزت الصحون، وصرخ بصوت رجّ الغرفة:

"كفى! أنتما الإثنان... كأنكما تقللان من احترامي عمداً!"

"هل أنا ميت بالنسبة لكما؟!"

ساد الصمت…

لكن بداخلي، كانت العاصفة ما تزال تهدر

وضع الدوق كفه فوق الطاولة ببطء، ثم أسند جبينه إلى راحته بتعب ظاهر.

لم يكن في صوته صراخ، ولا في ملامحه غضب، فقط... إنهاك أبٍ لا يعرف كيف يصل إلى أولاده.

قال بصوت منخفض كأنما يتحدث إلى نفسه:

"أوسكار... ألم أقل لك بالأمس أن الأمر قد انتهى؟"

"شددت الحراسة في أنحاء الدوقية، وسأضاعفها إن لزم. لسنا بحاجة لنشر الذعر."

كلماته كانت عقلانية، منطقية، لكنني لم أعد أتحمل هذا الجو، هذه المسرحية.

أحسست بقلبي يخفق كطبول حرب، ليس من الخوف... بل من الضيق، الغضب، الرغبة في تمزيق هذا القناع الذي يرتديه الجميع.

دفعت الكرسي بجسدي بقوة خفيفة، فصرّت الأرض تحته، وقلت بنبرة جافة:

"أيها الدوق، أعتقد أنني أفسدت جلستكم. سأنسحب الآن، استمتعوا بطعامكم."

خطوت خطوة. واحدة فقط.

ثم جاء صوته:

"انتظري، أوريانا."

كان هادئًا... لكنه لم يكن أبًا ينادي ابنته، بل رجلًا يحاول الحفاظ على تماسك الصورة.

"أكملي طعامك... لدي أخبار جيدة لك."

تجمدت مكاني.

أخبار؟

هل… هل يمكن أن تكون عن الأكاديمية؟ عن مستقبلي خارج هذه الجدران؟

ترددت، ثم عدت وجلست بصمت.

لكني لم آكل.

كان الطعام أمامي... ساخنًا، منسقًا بعناية، تنبعث منه رائحة زبدة دافئة وسكر مطهو، لكن طعمه كان مرًّا في فمي حتى قبل أن أضعه.

كل شيء بدا مزيفًا… حتى دفء الأطباق.

استمر الإفطار، لكن لم أعد أحتمل. كل دقيقة تمر كانت تُثقل على صدري أكثر.

نظراتهم، سكوتهم، حتى تنفسهم يبدو لي ثقيلًا.

"أيها الدوق، ما الخبر الذي تريد قوله؟ أريد المغادرة."

شعرت بها... تلك النظرات.

من الخدم... من أوسكار…

احتقار.

كأنهم يقولون: "انظري إلى هذه الفتاة، كيف ترد على سيدهم!"

أنا أعرف... أعلم أن طريقتي ليست لائقة.

لكن...

كيف أُجيد الاحترام مع من شخص يدعي أب كلمة أب بالنسبة لي لا تعني سوي أب عاملني كأنني لا شيء؟

تركني أتآكل بصمت؟

كيف أفتح قلبي لمن يدعى عنه أنه أب، وبالنسبة لي أب هو شخص لم يفعل شيئًا حين تمزق قلبي مرارًا أمام عينيه؟

رغم أن الدوق لم يفعل شيئا ولكن أنا أصبحت أكرهه كل الأباء

ومع ذلك، الدوق لم يصرخ.

لم ينهرني.

قال ببساطة، بصوتٍ خالٍ من الانفعال:

"قدمت لكِ طلبًا للالتحاق بأكاديمية سولفاير."

"وسيختبرونك قريبًا. كما أمرت سيلاس بوضع كل الكتب التي تحتاجينها في غرفتك."

شعرت بأن العالم سكت للحظة.

أكاديمية... سولفاير؟

تلك التي كانت حلم أوريانا الأصلي، والتي سُلب منها بلا رحمة؟

أنا... سأذهب إليها؟

هل هذه بداية استعادة شيء من حقي؟ أم بداية مخطط جديد لسحق كرامتي؟

لكن الفرصة تعني لي الكثير.

ثم، كعادته، لم يترك أوسكار اللحظة تمر بهدوء.

طرق الملعقة على الطاولة وقال باستهزاء ظاهر:

"هل تخبرني حقًا أن فتاة بهذه الشخصية... ستذهب إلى أكاديمية سولفاير؟"

لم ألتفت إليه فورًا.

أخذت نفسًا عميقًا، كان أشبه بابتلاع نار.

هل يسخر مني؟ أم يختبرني؟

ثم نظرت إليه... في عينيه مباشرة.

إنه ليس الأخ الأكبر. إنه الحاكم الصغير الذي اعتاد أن يأمر فيُطاع، وأن يحتقر فيُسكت.

نظرت بعدها إلى فيكتوريا…

وجهها شاحب، عيناها واسعتان، وكأن شيئًا انهار في عالمها فجأة. أمسكت بكوبها بقوة حتى ابيضت أصابعها، كأنها تخشى أن تفقد مكانتها.

أما ليونارد، فكان كما عهدته… جالسًا كأن شيئًا لا يحدث، لكنه يراقب، بدقة مخيفة.

وقبل أن أتكلم، قاطعنا الدوق بصوت حازم هذه المرة:

"أوسكار... هذا تحذيري الثاني. تكلم باحترام مع أختك."

كانت لحظة صمت.

لكني كنت أسمع الكثير فيها.

غليان دمي... دقات قلبي... حنجرتي التي كانت تبتلع الكلمات الثقيلة... وعيناي اللتان لم تعودا تعرفان البكاء إلا صامتًا.

ظلت فيكتوريا تراقبني من بعيد، نظراتها لم تكن عادية…

بل نظرة شخص خائف من خسارة شيء كان يعتبره ملكًا له.

حدقت بي بحدة، وكأنها تريد أن أرفض العرض… أن أتمرد… أن أُقصى.

لكنني لم أعد أهتم.

لم أعد أريد أن أضيع ثانية من وقتي في قراءة نواياهم أو التعامل مع تقلباتهم.

رفعت الكرسي بهدوء، ثم دفعته للخلف بانضباط، دون ضجيج أو دراما.

وقلت بصوت ثابت، دون أن أنظر لأي منهم:

"إذا، سـأغادر. استمتعوا بباقي الجلسة."

خطوت أول خطوة نحو الباب، ولكن قبل أن أصل…

جاء صوت ليونارد، هادئًا كعادته، لكنه هذه المرة كسر الصمت بإحكام.

"أبي."

توقف الجميع. حتى أنا توقفت.

"هل أحضرت لها معلمين يساعدونها في ما ستختبر فيه؟"

لحظة صمت أخرى.

ثم جاء صوت الدوق، بنبرة لا تحمل أي تردد:

"لا. لقد قالت إنها لا تريد أحدًا."

"وهي حرة. لا أريد إجبارها على شيء لا تريده. لذلك… وافقت."

كلماته خرجت وكأنه يعرض موقفًا بسيطًا.

لكن في داخلي، كنت أعلم أن ذلك القرار... هو أول شيء يعيد لي حريتي.

ولكن…

ليست الحرية وحدها ما يهم في هذا المكان.

قال ليونارد بعدها مباشرة، بنفس صوته الهادئ، لكن ابتسامته التي تلت كلماته أخفت شيئًا آخر تمامًا… شيئًا لم أستطع بعد قراءته بالكامل:

"إذا، اسمح لي يا أبي. لقد أنهيت طعامي."

"سأذهب مع أوريانا."

"أنا مُتقن لما يُطلب في هذه الاختبارات، وقد اجتزتها سابقًا، لذا سأساعدها… وأجعل المواد أسهل عليها."

صوت كرسيه يُدفع بهدوء كان مختلفًا عن صوت كرسيّ.

كان خفيفًا، خاليًا من التوتر، كأنما تحركه الريح.

التفت إليّ، وابتسامته التي اعتدت رؤيتها كانت لا تزال كما هي…

هادئة، دافئة، بلا شائبة.

لكني لم أرد عليه. لم أقل شيئًا.

فقط نظرت إليه…

وفي قلبي، كانت العاصفة تهبّ.

ليونارد…

أنت دائمًا لطيف. دائمًا متزن. دائمًا هناك حين لا أطلبك.

لكن هل هذا حقيقي؟

هل تفهم فعلًا من أنا الآن؟ أم أنك فقط تضع وجهًا طيبًا على قناعك؟

لا بأس.

سأنتظر حتى نكون وحدنا.

وهناك…

سأقول لك كل شيء.

سأكشف كل ما استنتجته.

وسأطلب منك أن تتوقف عن التظاهر.

لأنني تعبت.

تعبت من الأقنعة…

ومن الحب الزائف.

أخذ ليونارد سيفه، الذي كان ركنه بهدوء إلى جانب الطاولة، وعلّقه على خصره بحركة رشيقة ثم التفت نحوي قائلاً بصوته المعتاد:

"هيا بنا، أوريانا."

لم أجب.

نهضت بهدوء، وخطونا معًا خارج القاعة.

صمتٌ ثقيل خيّم علينا ونحن نسير بين الممرات الطويلة المضاءة بشعلاتٍ خافتة،

صوت خطواتنا على الأرض الرخامية كان هو الإيقاع الوحيد الذي كسر السكون.

كان يسير أمامي بخطوات واثقة. ظهره مستقيم، وكتفاه مرتاحان، كأنه لا يحمل في داخله شيئًا.

لكنني أعرف... هذا الرجل يحمل الكثير.

وحين وقف أمام باب غرفتي، مد يده لفتحه، وكأنه اعتاد ذلك من قبل، وكأن بيننا ألف لقاء.

"توقف، ليونارد..."

صوتي لم يكن عاليًا، لكنه كان كافيًا ليجعله يتجمد في مكانه.

التفت إليّ، وعيناه البنفسجيتان المضيئتان التقتا بعينيّ مباشرة.

"أريد أن أخبرك بشيء... مهم."

ابتسم كعادته. نفس الابتسامة الهادئة التي لا تتغير.

"هاه؟ الآن؟ حسنًا... فلندخل ونتحدث."

لكنني لم أدخل. نظرت إليه طويلاً. إلى وجهه الهادئ، وعينيه الساحرتين.

إلى الهدوء الذي يُخفي خلفه عاصفة لا أحد يراها... سواي.

"ليونارد إدوارد سيريوس..."

قلت اسمه كاملًا، وكأنني أستدعي الشخص الحقيقي المختبئ خلف القناع.

"توقّف عن التظاهر بأنك تحب الجميع. عن التصرّف وكأن كل شيء بخير.

عن الابتسام كمن يضع قناعًا من الزهور على جرح ينزف."

ارتجف شيء ما في عينيه، لكنه حافظ على ابتسامته.

"لأني أكره هذا النوع من الناس، ليونارد."

فتح فمه ليرد، فرفعت يدي وأوقفته.

"وقبل أن تقول: (هاه؟ أوريانا، ما الذي تقولينه؟)، دعني أوضح."

اقتربت منه خطوة، وقلبي يخفق بثقل. كان هناك شيء داخلي يطالبني أن أكشفه… الآن.

"أتعرف الفرق بينك وبين لوسيان؟

لوسيان... الطيبة تنساب منه دون مجهود، دون أن يحاول.

في كلماته، في نظراته، في سكوته حتى. تشعر بوجوده وكأنه حضن دافئ وسط عاصفة.

أما أنت؟ فأنت ترسم لوحة، ترسم نفسك كالرجل الجيد، المحب، الحنون...

لكن اللوحة لا تنبض. لا تشعرني بشيء."

"أنت تراقب... بصمت. مثل أوسكار، لكن على طريقتك.

تكبت كل شيء. تتظاهر بالهدوء. لكنني رأيت الشرخ… عندما تحدّثت عن والدتي."

خفضت صوتي وهمست وكأنني أصف جرحًا:

"عيناك البنفسجيتان كانتا ترتجفان، وليست يداك."

"أنت لا تبكي، ليونارد. لا تغضب. لا تصرخ. لكنك تنزف من الداخل، وأنت تحاول طلاء النزيف بالابتسامة."

سكتُّ لحظة.

تحدثت الي نفسي:

"أجل ليونارد ربما تستطيع أن تخدع الجميع، أن تقنعهم بأنك بخير... لكن ليس أنا.

لأني كنت مثلك، أجيد التمثيل.

كنت الأولى في مدرستي، حصلت على جائزة أفضل ممثلة.

لكن الفرق بيني وبينك، أنني لم أتعلم كيف أستخدم تمثيلي لأكسب قلوب الناس، كما تفعل أنت... وكما فعلت فيكتوريا، وهيونا، في عالمٍ مضى."

كنت أرى الابتسامة على وجهه تختفي ببطء.

وعيناه البنفسجيتان...

لم تعودا تلمعان.

بل بدتا فجأة... فارغتين، مثقلتين.

كأن كلماتي نزعت عنه عباءة كان يرتديها طويلاً.

ما الذي يحدث له؟

ليونارد... لم يكن كما أعرفه. لم يعد سوى جسدٍ بلا روح، نظراته البنفسجية الساحرة خافتة، كأنها فقدت بريقها تمامًا.

لكني لم أعد أهتم.

بل... أردت أن أُنهي كل شيء.

نظرت إليه بثبات، ونطقت بنبرة حادة:

"هل تعلم ما سبب صعودك إلى غرفتي بعد أن سمعت الأصوات؟"

"لم يكن قلقًا عليّ، أليس كذلك؟"

ابتلع صمته، فتابعت بسخرية لاذعة:

"توء، توء، توء... لا تدّعي البراءة."

"كنت تراقبني. ومساعدتك لي؟ لم تكن بدافع الخير، بل لأنك أردت الاقتراب أكثر. وذهابك لمن آذاني؟ لم يكن لتأخذ حقي، بل لتعرف التفاصيل، لتجمع الخيوط. أليس كذلك؟"

رفعت حاجبي بتحدٍ:

"أجبني... قل إنني مخطئة!"

وضع يده على رأسه، كأن كلماتي تدق على جمجمته كالمطرقة.

"آه... رأسي... حقًا، أنتِ تسببين لي الصداع."

قطبت جبيني، لكنه استدار نحوي وقال بصوت منخفض:

"نعم، راقبتك."

"أتدرين لماذا؟"

"لأني اكتشفت أن أمي... خاضعة لتعويذة."

تجمدت.

"تعويذة تسحب منها المانا... تسحب حياتها ببطء. والشخص الوحيد الذي اقترب منها مؤخرًا... هو أنتِ."

"بحق الجحيم... هل الجميع في هذه الدوقية فقدوا عقولهم؟!"

صرخت بداخلي وأنا أنظر إليه بحدّة.

"كان بإمكاني تقبّل كراهيتكم لو أنني فعلت أمرًا شنيعًا حقًا... لو كنتُ تلك الفتاة الشريرة التي تعامل الجميع باحتقار وتفتعل المشاكل."

"لكن أن أُعامل بهذا القدر من الاستحقار فقط لأنني وُجدت؟ لأنني قريبة من الدوقة؟ لأنكم تتخيلون تهديدًا لا أساس له؟ هذا ما لا أستطيع تحمّله!"

نظري انتقل نحو سيفه المعلّق عند خصره.

دون تفكير، تقدّمت وسحبت يده بقوة، ثم انتزعت السيف ووضعته في راحتيه المرتجفتين.

ورفعت النصل نحو عنقي بثبات.

"هاه؟ ألم تقل إنني السبب في معاناة الدوقة؟!"

"إذن... اقتلني، يا دوق سيريوس الصغير."

"ربما بقتلي تعود إليكم. هيا، اقتلني!"

ارتجف بصره، رأيت البنفسج في عينيه يخفت، ويعود لونه الطبيعي شيئًا فشيئًا.

ثم سحب السيف سريعًا من قرب عنقي وصاح:

"هل فقدتِ صوابك؟! أنتِ مجنونة!"

ضحكت بسخرية مريرة:

"أأنا مجنونة؟ حقًا؟ فتاة متبناة مثلي، لا تحمل اسم العائلة حتى، لن يسبب موتها أي ضجة."

"لكن إن لم تكن قادرًا على قتلي رغم اتهامي بأنني السبب في مرض والدتك، فلا تقترب مني مجددًا."

استدرت لأكمل طريقي نحو غرفتي، لكن صوت خطواته تبعني.

أمسك بيدي فجأة وقال بصوت مكسور:

"أوريانا، انتظري، فقط استمعي لي..."

مشيت بجواره نحو غرفتي، قلبي ينبض بسرعة، وعقلي مشغول بأفكاري. لم أرغب في إضاعة وقتي مع نسخة أخرى من أوسكار، ذاك الأخ الغاضب والمغرور.

فجأة، شعرت بيدٍ تمسك بيدي بقوة. التفتُّ فإذا بليونارد ينظر إليّ بعينين ملؤهما التوسّل. قال بهدوء وكأنها دعوة أخيرة:

"انتظري، أوريانا... اسمحي لي..."

لكن قبل أن يكمل كلامه، لم أتمالك نفسي. رفعت يدي وصفعت وجهه بيدٍ ثابتة، تحمل كل غضبي واحتقاري. كانت الصفعة كأنها تفجير لكل التوتر المختزن داخلي.

همسْتُ بقسوة، وكأنني أُنزِل حكمًا لا رجعة فيه:

"أبعد يديك القذرة عني، ولا تلمسني مجددًا."

ثم أغلقت الباب بقوة خلفي، متجاهلة صوته المتقطع، تاركة إياه واقفًا في صمتٍ بارد، بينما أنا أرتجف من الداخل. حاولت أن أتنفس بعمق، كمن غاص طويلًا في ظلام البحر ويحاول النجاة بشهيق أخير.

أنا المخطئة...

أنا من زرعت الأمل الساذج في أرض ميتة.

أنا من تجرأت على تصديق فكرة أنني قد أحظى يومًا بأخ، أو بشيء دافئ يشبه العائلة... كم كانت فكرة مقززة.

جلست على الأرض، أضم ركبتيّ إلى صدري. عقلي غارق بين "أريد أن أصدق" و"يجب ألا أصدق".

تصرفه أثار شكوكي، لكن قلبي... قلبي اللعين أراد بشدة أن يكذبني، أن يقول إن كل ما قلته مجرد أوهام. أردته أن يضحك، أن ينفي، أن يسخر مني حتى...

لكنه لم يفعل.

وسكوته... دمر كل شيء.

أشعر أنني على وشك الانهيار. لا أريد التفكير، لا أريد الشعور، فقط... أريد أن أهرب.

سأنام.

حتى وإن كنت أعلم أن النوم لن يرحمني، وأن كوابيس حياتي السابقة ستنتظرني هناك، بين طيّات الظلام...

لكن لم يعد هناك مهرب غيره.

خارج غرفة أوريانا، وقف ليونارد في صمتٍ مطبق، والصدمة ما تزال ترنّ في أذنيه كناقوس من الحديد البارد.

"بحق الجحيم... ما هذا الهراء الذي قلته لها؟"

صوت أفكاره كان حادًا كالسكاكين، يضرب رأسه بلا رحمة.

"لماذا؟ لماذا رفعتُ السيف نحو رقبتها؟ لماذا لم أوقف نفسي؟ ولماذا أشعر أن رأسي سينفجر؟!"

رفع يده إلى جبينه، الصداع يتسلل إلى أعماق جمجمته كما لو أن شيئًا ما داخله يحاول التمزق والخروج.

فجأة، جاء صوت مألوف من خلفه، هادئ لكنه يحمل قلقًا مكتومًا:

— "أخي... هل أنت بخير؟"

التفت ليونارد ببطء، وعيناه ما تزالان مضطربتين، ليجد أمامه..

2025/05/18 · 14 مشاهدة · 2647 كلمة
نادي الروايات - 2025