الليل انسحب ببطء… تاركًا خلفه جسدًا ساكنًا على الأرض.
أوريانا لم تتحرك.
لم يسمع أحد سقوطها.
لم يشعر أحد بغيابها.
حتى أنفاسها… بدأت تتلاشى،
واحدة تلو الأخرى.
مرّ الوقت، بصمتٍ قاتل.
غرفتها بقيت مغلقة…
لا خادمة طرقت الباب.
لا أحد تساءل.
وكأن وجودها… لا يعني شيئًا.
شمس الصباح تسللت عبر الستائر،
عانقت جدران الغرفة الباردة، لكنها لم تُلامس جسدها المرتجف.
كانت الحياة تُسحب منها… ببطء، بإصرار.
وحين انتصف النهار…
دوت خطوات هادئة في الممرات الرخامية.
ليونارد.
بدا متأملًا، متوترًا.
"سحقًا…" تمتم لنفسه وهو يمرر يده في شعره،
"كنت أظن أنها ستحضر معنا الإفطار اليوم…"
عيناه ارتفعتا نحو أحد الأروقة، باتجاه جناح أوريانا.
"وكنت… كنت أنوي الاعتذار."
توقف لوهلة، كأن شيئًا في قلبه اختلّ.
"أنا… لا أدري حقًا ما الذي جرى لي في ذلك الوقت."
صمته استمر للحظات، ثم تنهد، وكأنه يدفع ترددًا أثقل من صدره.
"هل… عليّ الذهاب لرؤيتها؟ لا، ربما ما زالت غاضبة…"
لكنه لم يكن يدري،
أن الوقت… لم يعد في صفه.
وأن خلف ذلك الباب المغلق،
كانت الفتاة التي ظن الجميع أنها "مجرد عالة"…
تحتضر في صمت.
ليونارد وقف في الممر للحظات، شاردًا،
كأن شيئًا في صدره يؤلمه… لكنه لا يعرف موضعه.
"قالت لي… ألا أقترب منها مجددًا."
"ألا ألمسها بيدي القذرتين."
زفر بضيق، وهو يضغط على قبضته.
"لو كنتُ مكانها… كنت سأقول أكثر من ذلك.
رفعتُ السيف في وجهها، وهي… كانت تنظر إليّ وكأنها…"
سكت.
"وكأنها لا تخشى الموت، بل ترحّب به."
ابتلع ريقه بمرارة، وعيناه تهربان إلى الأرض.
"سحقًا… ما الذي فعلناه؟
لنجعل من تلك الفتاة التي كانت تبتسم بخجل، وتشع دفئًا…
إلى هذا الجليد البارد الذي ينظر إلينا وكأننا لا نستحق شيئًا؟"
مشاعر الذنب بدأت تتسلل بقوة.
"نعم، لقد شككتُ بها…
منذ أن دخلت حياتنا فجأة، منذ أن مرضت أمي.
كنت أظن أن الأمر ليس مصادفة."
طأطأ رأسه، وهمس:
"لكنها… كانت دائمًا بجانب والدتي.
كانت الوحيدة التي لم تتخلَّ عنها."
مرّت صور من الماضي في ذهنه—
ضحكاتها الخفيفة، نظراتها المرتبكة، محاولاتها الصغيرة للاندماج…
وألمه يتسع.
"أفكار كانت تحذرني منها… وأنا أصدّها كل مرة.
لأني لم أرد أن أُشكك بأحد من عائلتي.
ومنذ دخلت أوريانا إلى الدوقية… كنت أعتبرها أختي الوحيدة.
وأحبها… نعم، لازلت أحبها، ولو أنني لا أعترف بذلك بصوتٍ عالٍ."
تنهد بعمق، ثم استدار بعزم.
"سأطمئن عليها.
سأسأل الخادمات إن كانت قد تناولت طعامها على الأقل…
وسأذهب… سأذهب إليها لاحقًا."
لكن الوقت لا ينتظر ندم أحد.
وفي الجانب الآخر من الباب المغلق…
كانت أوريانا تنزف الحياة بهدوء، وكأنها تعتذر عن وجودها دون صوت.
**
خطوات ليونارد كانت بطيئة، مثقلة بتردد لم يفهم سببه.
شيء داخله كان يضرب صدره بإصرار، كأن قلبه يرفض هذا التباطؤ.
اقترب من باب غرفتها، توقف أمامه، نظر إليه دون أن يمد يده ليفتحه…
تنهّد، واستدار يبحث عن خادمة.
رأى ثلاث خادمات يتمشين بهدوء في الممر،
فصرخ بصوت واضح حاد:
"أنتم هناك، تعالين فورًا!"
توقفن في مكانهن بانحناءة سريعة، وأعين خائفة.
اقترب منهن، ونظر إليهن مباشرةً:
"أريد أن أعرف… ماذا تناولت الآنسة أوريانا على الإفطار؟ ومتى؟"
نظرة ارتباك سريعة تبادلنها بين بعضهن.
ثم تقدّمت إحداهن خطوة صغيرة، وهمست بتردد:
"نحن… لسنا المسؤولات عنها، سيدي. كما تعلم… الآنسة أوريانا قامت بطرد خادمتها الشخصية."
أدار ليونارد وجهه ببطء نحوها، وعيناه ضاقتا بشكّ يتصاعد.
"وماذا بعد؟ لا تخبريني أن أحدًا لم يدخل إليها على الإطلاق!"
تلعثمت خادمة أخرى، وأجابت بعد تردد طويل:
"في الواقع… لم تطلب العشاء بالأمس…
ولا الإفطار هذا الصباح. لم ترسل في طلب أي شيء."
ساد صمت ثقيل.
عينا ليونارد ارتجفتا.
وفكّه شدّ على نفسه بقوة، حتى سُمعت حركة أسنانه وهو يضغط عليها.
ارتفع صدره وهبط بعنف،
ثم قبض على كفه بشدة، وكأن جلده نفسه يؤلمه من فرط الغضب والذنب.
"حتى وإن رفضت الطعام… أكان عليكم أن تتركوها؟"
"حتى وإن غضبت منكم… انها لتزال بشرًا؟ جزءًا من هذه العائلة…!"
استدار فجأة، هرول باتجاه الباب، خطواته كانت ثقيلة وسريعة في آنٍ،
كل شعور داخله كان يتصادم مع الآخر.
"أوريانا…"
"أنتِ قلتِ لي… لا تلمسني… بيديك القذرتين، أليس كذلك؟"
"فلنقل أنك محقّة…"
"لكن… هل ستموتي من الجوع وستكونين أول نبيلة تموت والسبب هو الجوع ماذا سيقول الناس عنا."
وصل إلى الباب.
رفع يده، ودون تفكير فتحه بعنف، ودفعه إلى الداخل صارخًا:
"أوريانا!! أنتِ لماذا—"
ثم تجمّد.
كأن العالم توقف.
كل الأصوات تلاشت. حتى أنفاسه… كأنها اختفت.
عيناه اتسعتا.
وجسده تجمّد في وضعية منتصف الحركة.
كانت الأرضية مظلمة ببقع داكنة من الدم،
تناثرت بالقرب من الجسد الممدد على الأرضية الباردة.
أوريانا كانت هناك،
مستلقية بلا حراك،
شعرها مفروش كستائر الليل حولها،
وجهها شاحب إلى حد الرعب، شفتيها مائلتان إلى الزرقة،
وجانب من فمها ما زال يحمل آثار الدم الجاف.
"…أوريانا؟"
خرج صوت ليونارد هامسًا، مكسورًا، كأن قلبه نفسه تصدّع.
اقترب منها ببطء… ثم أسرع فجأة، وركع إلى جانبها.
مدّ يده بارتعاش نحو رقبتها…
توقف قبل أن يلمسها، ثم همس لنفسه:
"لا… لا… لا تكوني…"
أخيرًا، لمسها…
جلدها بارد.
ضغط بإصبعيه عند عنقها، باحثًا عن نبض…
نبض خافت… بطيء… كأن الحياة تتشبث بها بأطراف أناملها الأخيرة.
اتسعت عيناه أكثر، وارتجف فكه، ثم صرخ بأعلى صوته:
"أحدهم! نادوا الطبيب حالًا! أسرعوا، إنها تحتضر!!"
صرخة ليونارد هزّت جدران القصر
ارتبك الخدم، تجمدوا للحظة كأنهم تلقوا صفعة، إحداهن غطت فمها بدموع، بينما همست أخرى بسخرية: 'هل بدأت مسرحيتها مجددًا؟
ثم بدأوا بالتحرك كخلايا نحل مذعورة.
أحدهم ركض إلى الخارج، والآخر انطلق عبر الممرات ينادي بأعلى صوته، بينما وقفت إحدى الخادمات تغطي فمها برعب وهي تهمس:
"لا… هذا مستحيل…"
لكن ليونارد لم يرَ أحدًا.
لم يسمع شيئًا.
كل تركيزه كان على الجسد البارد بين ذراعيه.
أوريانا…
وجهها الشاحب مائل إلى الرماد،
ورموشها المرتجفة بالكاد تتحرك.
ضمّها إليه بقوة، يده المرتعشة تمسح شعرها بلطف متوتر:
"أوريانا… استيقظي… هل هذه مزحة؟"
"هل… هل تنتقمين مني؟ لأني لم أصدقك؟ لأني صرختُ في وجهك؟"
"أنا آسف… أنا نادم، بحق السماء، فقط استيقظي!"
لكن الجسد بين ذراعيه لم يرد.
حتى أنفاسها أصبحت أضعف من أن تُرى.
نهض بصعوبة، وكأن الأرض تمسك بقدميه،
ووضعها على السرير ببطء، كما لو أن لمسة واحدة زائدة قد تُنهي ما تبقى منها.
نظر إلى ملامحها، تلك التي كانت يومًا دافئة ومليئة بالحياة.
اقترب منها، وضع يده على جبينها، ثم أخذ نفسًا عميقًا.
"لا أستطيع انتظار الطبيب… عليّ أن أفعل شيئًا."
أغلق عينيه ورفع كفيه فوق صدرها، وبدأ يتمتم بتعويذة شفاء قديمة تعلمها في صغره.
دوامة ضوء خافتة تشكلت بين يديه،
كان السحر يرتجف كما كان هو يرتجف،
المانا داخله لم تكن كافية…
ولم يكن متقنًا لهذا النوع من السحر…
لكن لا يهم.
كل ما يهم هو إنقاذها.
"أرجوكِ… أرجوكِ لا ترحلي…"
فجأة، اهتز جسد أوريانا، وارتفع صدرها بكحة حادة:
"كح… كح… كح!"
ثم تبع الكحة تدفق مفاجئ للدم من فمها.
كثير من الدم.
وجه ليونارد شحب،
انحنى نحوها بسرعة، وصوته امتلأ رعبًا:
"أوريانا! هل أنت بخير؟! أجيبي!"
لكن عينيها بقيتا مغمضتين، وأنفاسها واهنة متقطعة.
"لا… لا لا لا…" همس وكأن العالم ينهار حوله.
نظر إلى الباب:
"أين الطبيب؟! لماذا لم يأتِ بعد؟!"
ركض ليونارد بعصبية نحو الباب، خطواته كانت سريعة ومتعجلة كأن الأرض تحته تحترق. أمسك بمقبض الباب وفتحه بعنف، حتى ارتطم بالحائط خلفه، وصرخ بأعلى صوته، صوته مليء بالغضب واليأس:
"أين الطبيب بحق الجحيم؟!! إنها تموت!!"
ثم عاد راكضًا بخطوات متعثرة إلى السرير، قلبه يخفق بعنف لا يُطاق، وجثا على ركبتيه بجانب أوريانا، يمسك بيدها الباردة المرتخية، يضغط عليها بقوة كأن يحاول دفع الحياة إليها من خلاله. كانت يدها خفيفة، خالية من أي مقاومة، مثل زهرة ذابلة في نهاية الخريف.
انحنى أكثر، وضع جبينه على يدها، تنفسه كان ثقيلاً، وكأن صدره لا يتسع لما فيه من ألم.
لم تمر ثوانٍ حتى ظهرت خادمة شابة تلهث، وعلى وجهها ملامح ذعر حقيقي. كانت رينا.
وخلفها، دخل رجل في منتصف العمر يرتدي معطفًا داكنًا يحمل حقيبة طبية.
"سيدي… لقد أحضرت طبيب الدوقية… ها هو!"
تبعها الطبيب بخطوات حثيثة، وجهه جاد، وعيناه تقيّمان الموقف بسرعة.
اقترب من أوريانا، أخرج أدواته الطبية، وبدأ بفحصها بعناية وهو يقول:
"دعني أراها أولاً…"
ليونارد لم يتحرك من مكانه، يده لا تزال تشدّ على يد أوريانا، رأسه منحنٍ، كأن قلبه قد علق هناك، وكأن مجرد فقدان الاتصال بها يعني فقدان آخر قطعة من روحه.
في تلك اللحظة، انفتحت أبواب الغرفة بهدوء، وخرجت رينا — الخادمة ذات الشعر الأسود كالليل والعيون الزرقاء الشاحبة — بخطوات مترددة، وكأن الأرض تحت قدميها لم تعد مألوفة.
كان وجهها أفتح من المعتاد، كأن الدم فرّ منه، وملامحها متوترة، مشدودة إلى حد مؤلم. نظرتها الزائغة تبحث عن شيء ما... ربما شجاعة، أو ربما مجرد تبرير لما تنوي فعله.
همست، بشفاه مرتجفة:
"يجب أن أخبر الدوق... لا أحد سواه يستطيع فعل شيء الآن."
لكن الصوت بالكاد خرج من حلقها، خافتًا، كأنها تخشى أن يسمعه أحد ويمنعها.
كانت الممرات طويلة، ممتدة كأنها لا تنتهي، تتراقص فيها ظلال الشعلات المعلقة على الجدران، تهزّ قلبها مع كل حركة نار وكأن القصر كله يراقب خطواتها.
"الآنسة أوريانا..."
اسمها وحده كان كافيًا ليثير الهمس والشك في أروقة القصر.
"الكل يقول إنها شريرة، متكبرة، لا تهتم إلا بنفسها... لكن، ما رأيته أنا..."
تسارعت خطواتها قليلاً، كأن الذكرى تؤلمها.
في تلك المرة، حين ساعدتها... لم تكن مخيفة. لم تكن متغطرسة. بل مدت يدها نحوها بلطف، شكرًا خافتًا خرج من شفتيها المرهقتين.
رينا لم تكن تتوقع ذلك. لم يعلّمها أحد أن السوء المزعوم قد يحمل في طيّاته بشرًا منكسرًا فقط.
رفعت يديها إلى وجهها ومسحت دموعًا ساخنة قبل أن تسقط، وهي تهمس لنفسها، كأنها تقنع طفلة مذعورة داخلها:
"أعلم أنني سأُوبَّخ من رئيسة الخدم... لكن... لا أستطيع أن أقف مكتوفة اليدين. لا أريدها أن تموت."
أخذت نفسًا عميقًا، ثم أسرعت نحو مكتب الدوق، تنفسها صار متسارعًا، وأنفاسها تخرج ساخنة من فمها كأنها قد ركضت مسافة طويلة.
وصلت إلى المكتب، وكان حارسان يقفان على الباب.
"أرجوكما! أريد التحدث إلى الدوق، هناك أمر عاجل!"
التفت أحد الحارسين إليها، نظر إليها من أعلى إلى أسفل بنظرة متفحصة، قبل أن يقول ببرود:
"المعذرة، أنتِ خادمة، أليس كذلك؟ الدوق أمر ألا يزعجه أحد، هو مشغول."
رفعت رينا صوتها، صوتها يرتجف لكنه يحمل إصرارًا:
"لكنها أوريانا! الآنسة أوريانا سقطت! أُغمي عليها وتتقيأ دمًا!!"
تبادل الحارسان نظرة سريعة، ثم قال أحدهما، وهو يعقد ذراعيه بتعجرف:
"آه… لم تنتهِ تلك الآنسة من حيلها القديمة؟"
تجمدت رينا في مكانها، وجهها تحوّل تدريجيًا من القلق إلى الغضب.
"ماذا… ماذا قلت؟"
رفع أحد الحراس حاجبه ساخرًا:
"قلت إن الآنسة أوريانا تحب لفت الانتباه… كما تعرفين. الجميع يعلم أنها تستخدم أساليب مؤثرة لتكسب تعاطف الناس. وربما أنتِ أيضًا متورطة معها، أليس كذلك؟"
كادت رينا أن تصرخ، لكن قبضت على نفسها، وارتجف جسدها وهي تردّ:
"أنا لا أكذب! لقد رأيت بعينيّ… كانت شاحبة جدًا… تتنفس بصعوبة، ودماء خرجت من فمها… إنها تموت!"
لكن الحارس الآخر تدخل وهو يلوّح بيده:
"كفى! الدوق ليس متفرغًا لتفاهات فتاة مدللة. انصرفي."
شدّت رينا على كفيها حتى بيضت مفاصلها، كانت يداها ترتجفان من الغضب والقلق، وعيناها الزرقاوان امتلأتا بالدموع المكبوتة، متلألئتين تحت ضوء الشموع الضعيف، لكنها قاومت انهمارها بقوة. صرّت على أسنانها، وأجبرت صوتها على الثبات وهي تهمس بانكسار:
"أرجوكما… أنا أقول الحقيقة… فقط أريد مقابلة الدوق."
في تلك اللحظة، وعلى بعد أمتار قليلة، داخل مكتب الدوق…
كان الدوق إدوارد جالسًا خلف مكتبه العريض، أوراق كثيرة مبعثرة أمامه، وبين أصابعه كوب شاي قد برد منذ وقت طويل. لكن أذنه التقطت تلك الضوضاء القادمة من الرواق، صوت لم يكن معتادًا في هذه الساعة.
التفت ببطء إلى نيكولاس، خادمه المخلص، ونبرته جافة، صارمة كعادته:
"ما هذه الضوضاء في الخارج؟ اذهب وتحقق من الأمر، ومرهم بالهدوء. لا وقت لدي للفوضى."
انحنى نيكولاس باحترام وأجاب:
"حاضر، سيدي."
دفع الباب بهدوء وخرج، خطواته واثقة. وما إن فتحه، حتى وقعت عيناه على المشهد: رينا واقفة بشدة، وعيناها متوسلتان، وبينما كان الحارسان يهمّان بطردها، نظرت رينا من فوق كتف نيكولاس، فالتقت عيناها بعيني الدوق الواقفتين خلفه مباشرة، وقد خرج من مكتبه ليرى ما يحدث بنفسه.
"سيدي الدوق!" صرخت فجأة، صوتها متوتر، يلهث بأنفاس متسارعة، "الآنسة أوريانا… الآنسة…!"
قطبت ملامح الدوق على الفور، ونزل ظل ثقيل على ملامحه، صوته صار أكثر حدة:
"ماذا بها أوريانا؟"
قبل أن تنطق، تحرك الحارسان، واقترب أحدهما بخطوة وقال باستخفاف:
"الم نخبركِ أن الدوق ليس لديه وقت لأشياء تافهة؟"
والآخر رفع حاجبه وغمغم باستياء:
"أنتِ من أذن لكِ بالتحدث من الأساس؟"
لكن قبل أن يكمل، ارتفعت نبرة الدوق فجأة، كالرعد، عميقة وباردة:
"كفى."
نظر إليهما ببطء، وعيناه الحمراوان — الناريتان كجمرتين مشتعِلتين — تحدقان بهما بحدة، حتى أن الهواء حوله بدا وكأنه ثقل فجأة. كل من في الممر شعر بذلك الضغط الساحق، وكأن جدران القصر انحنت احترامًا لغضب الرجل الذي يقف أمامهم.
قال الدوق بصوت واثق يقطر غضبًا متجمّدًا:
"نيكولاس، تصرّف مع هذين الاثنين… واجعلهما يعرفان مكانتهما جيدًا."
أجاب نيكولاس دون تردد، وعيناه تقدحان برغبة في التنفيذ:
"أمرك يا دوق."
تقدّم بخطوات ثابتة نحو الحارسين المرتبكين، أمسكهما من ملابسهما عند رقبتيهما من الخلف بقبضتين فولاذيتين، فارتفعت أجسادهما قليلًا عن الأرض، وتبدلت ملامح وجهيهما من التكبر إلى الذعر.
"ارجوك… أيها الدوق… نحن آسفون!"
"لم نقصد الإساءة! رجاءً اغفر لنا!"
لكن توسلاتهما لم تلقَ سوى صمت ثقيل. سحبهم نيكولاس بخطى ثابتة، وهما يصرخان ويتوسلان، حتى تلاشت أصواتهم مع خطواتهم داخل ممر طويل مظلم… وكأن ظلامه قرر ابتلاعهم للأبد.
"الآن أخبريني،" قال الدوق بنبرة خافتة لكنها محمّلة بحدة تحت الجلد، وكأن صبره يتآكل، "ما الذي جرى لأوريانا؟"
ابتلعت رينا ريقها بصعوبة، صوتها خرج مرتعشًا رغم محاولتها للتماسك:
"سيدي… لقد وجدها السيد ليونارد في غرفتها… مغشيًّا عليها، وكانت تتقيأ دمًا… الكثير من الدم."
صمتٌ ثقيل خيّم على الرواق.
تغيّرت ملامح الدوق في لحظة… تجمّد مكانه، وكأن الكلمات أصابته في مقتل. اتسعت عيناه الحمراوان قليلًا، وانسحب كل لون من وجهه.
لم يقل شيئًا.
لكن جسده تحرك.
باندفاع مفاجئ، التفت واستدار بجسده ، واندفع عبر الممرات بخطى سريعة، كأن الأرض نفسها كانت تمهد له الطريق. عباءته الطويلة السوداء ذات الحواف الذهبية كانت تتطاير خلفه، ومع كل خطوة، كان الهواء المحيط به يزداد ثقلًا.
كل خادم رآه في طريقه، تنحى جانبًا بسرعة، يطأطئ رأسه من رهبة ظهرت في وجه سيد القصر… وجه لم يُرَ عليه الذعر من قبل.
كان الهواء حول الدوق يزداد برودة، وعباءته ترفرف مع خطواته السريعة، كأن الظلال تسير خلفه بخضوع. الخدم لم يجرؤوا حتى على التنفس بصوت مسموع… إذ بدا وكأن شيئًا رهيبًا قادم خلفه.
في هذه الأثناء، داخل غرفة أوريانا، خفّ ضوء النهار المتسلل عبر النافذة، وامتدت الظلال فوق وجهها الشاحب، وكأن الوقت ذاته يوشك على التوقف.
جثا الطبيب بجانب السرير، يضغط بأصابعه على نقاط معينة في عنقها ثم على معصمها، عينيه تراقبان ارتعاش جفنها الخافت، لكن لا أثر للحياة سوى نفس ضعيف بالكاد يُسمع.
همس الطبيب دون أن يرفع رأسه:
"نبضها ضعيف… لكنها ما زالت على قيد الحياة."
تعلّق ليونارد بالكلمات كما يتعلّق الغريق بخشبة في محيط هائج، وانحنى أكثر نحو أوريانا، ثم قال بصوت متشنج، وكأن صبره على وشك الانفجار:
"إذاً، ما الذي يجري؟ ما الذي يجعل نبضها بهذا الضعف؟! عالجها فورًا!"
رفع الطبيب عينيه بتردد، نظر إلى ليونارد نظرة فيها مرارة وعجز، ثم قال بصوت متوتر:
"سيد ليونارد… جسد الآنسة لا يُظهر علامات مرض عادي… لا جروح، لا حمى، لا تسمم… لا شيء يمكن علاجه بالطب."
قطب ليونارد حاجبيه في غضب وصدم قبضته على السرير، صرخ:
"ما الذي تعنيه بلا شيء؟! إنها تتقيأ دمًا، تنهار أمام أعيننا، وأنت تقول لا شيء؟!"
تنفّس الطبيب بصعوبة، وكأن الهواء من حوله أصبح ثقيلاً، ثم قال بتلعثم:
"إنها تعاني من انفجار مانا، ربما بسبب تعويذة قوية أثرت على توازن طاقتها الداخلية."
سكت لثوانٍ ثقيلة ثم أضاف:
"وهذا شيء… لا أقدر على علاجه أنا، لأنه ليس مرضًا جسديًا، بل سحرًا داخليًا. توازن ماناها قد تحطم من الداخل."
شهق ليونارد، وتراجع قليلاً، وكأن الأرض اهتزت تحته.
"انفجار مانا؟… ولكن…"
قاطعه الطبيب بسرعة:
"وبسبب نبضها الضعيف، فإن المانا تنهش جسدها من الداخل، إن لم يتم التدخل في أقرب وقت… فسيتوقف قلبها. أعضاءها الداخلية لن تصمد أكثر من ساعة… ربما أقل."
تحركت عينا ليونارد بسرعة، يمينًا ويسارًا، كأنما يبحث عن خيط نجاة بين الظلال المتساقطة على وجه أوريانا الشاحب. نظر إلى الدم الجاف العالق بشفتيها، إلى أنفاسها التي بالكاد تُسمع، ثم إلى يدها المرتخية في يده… فقبض عليها بقوة، أصابعه ترتجف، كما لو أن قوة يده وحدها قادرة على إعادتِها من حافة الموت.
فجأة…
دوى صوت خطوات ثقيلة في الممر الحجري، سبقها همس خافت كأن أحدهم يتحدث بسخرية بعيدة.
تتابعت بثقة مزعجة كأن صاحبها يعلن عن حضوره بلا أدنى شعور بجدية الموقف.
تبع الخطوات صوتٌ أجش، رنان، اخترق جو التوتر في الغرفة كطعنة في صدر الصمت:
"ما الذي يحدث هنا؟ يبدو أن الآنسة أوريانا تستمر في التسبب بالمشكلات… مجددًا."
تجمدت الأجواء. توقف الجميع عن الحركة، وكأن الكلمات ألقت بسُمّها في الهواء. التفتت الرؤوس نحو مصدر الصوت.
وفي لحظة، ارتفع صوت ليونارد، حادًا، غاضبًا، كالسيف حين يُسحب من غمده:
"أنت… ما الذي قلته للتو؟!"