دخل أوسكار بخطى ثابتة، تحركت خطواته فوق الأرض الرخامية وكأنها تصكّ الهواء صكًا. نظر إلى ما يجري في الغرفة، إلى الطبيب المنحني، إلى ليونارد الجاثي، ثم قال بنبرة باردة، متعجرفة، خالية من أي اهتمام:
"ما الذي يجري؟ لماذا تتسبب أوريانا دائمًا بالمشكلات؟ لا أكاد أسمع ضوضاء إلا وأجد مصدرها من غرفتها."
نهض ليونارد من على الأرض، يده لا تزال ممسكة بكفّ أوريانا المتعرق، وجهه مشدود والغضب يتراقص في عينيه مثل شرر مشتعل. صوته خرج عميقًا، مزلزلًا:
"أخي... ما الذي تقوله؟! عليك أن تراها أولًا قبل أن تتفوه بكلامٍ كهذا! لقد فقدت وعيها... ويبدو أن مانتها انفجرت داخل جسدها! هي بحاجة إلى ساحر... فورًا!"
ارتفع حاجبا أوسكار بدهشة ساخرة، اقترب خطوة وقال:
"هذه أول مرة أراك فيها غاضبًا... بل وتصرخ عليّ هكذا. قل لي إذن، يا ليونارد... إن لم تكن هذه فوضى، فمن المسؤول عنها؟ هل انفجرت مانتها من تلقاء نفسها؟"
مرّت لحظة ثقيلة من الصمت، ثم تمتم الطبيب بهدوء، محاولًا تهدئة الأجواء:
"علينا الحفاظ على الهدوء... من فضلكم. لا يجوز الصراخ، خاصة أمام المريضة..."
فكر ليونارد في داخله، لكنه متماسك في الظاهر:
"علي الهدوء أعلم أنه لا يجوز الصراخ... فأين يكن، هو أخي الأكبر، والدوق الشاب لهذه الدوقية..."
وفجأة، دوي صوت جديد في المكان، صوت خطوات خفيفة، تتبعها نبرة فتاة ناعمة، دخلت بسلاسة ونعومة:
"أخواي... ما الذي يجري هنا؟"
كانت فيكتوريا. وجهها الرقيق بدا كقناع من الطمأنينة والبراءة. تقدمت ببطء، ويدها تتشبث بأطراف فستانها، وكأنها جاءت لتفهم، لا لتُدان.
ما إن وقعت عينا ليونارد عليها، حتى تغير وجهه في لحظة. تجعّد، وانكمشت عضلات فكه، وحدّق بها ببرود لم يُخفِ احتقاره.
قال بصوتٍ عميق كالسُمّ:
"يبدو أنكِ تحاولين اختبار مدى صبري... أليس كذلك؟ أو ربما... أنكِ تتوقين للموت بشدة؟ ألم أخبركِ من قبل... ألا تنطقي كلمة 'أخي' لي مجددًا؟!"
ارتجف جسد فيكتوريا، نظرتها تكسرت للحظة، كأنها لم تتوقع هذه المواجهة القاسية. عضّت على شفتها السفلية، تحاول ابتلاع الإهانة، لكن لم تجرؤ على الرد، وكأن الكلمات علقت في حلقها.
وفجأة، صرخ أوسكار، وصوته شقّ الهواء كالسوط:
"ليونارد! ما الذي تقوله لأختك الآن؟!"
لكن صراخهما انقطع بحدة حين دوّى في الغرفة صوت سعالٍ شديد، سعالٌ أجشّ ممتزج بألمٍ مكتوم... ثم تبعه تقيؤ أوريانا للدم.
اتجهت أنظار الجميع نحو السرير، وارتسمت ملامح الصدمة على وجوههم. حتى فيكتوريا التي كانت متجمدة قبل لحظات، وضعت يدها على فمها، وانكمشت ملامحها بتوتر زائف.
كان وجه أوريانا شاحبًا أكثر من الثلج، أنفاسها تتقطع، وعيناها نصف مغمضتين، تغوصان في دوامة من الألم.
ظهر القلق واضحًا، لكن أكثرهم توترًا كان ليونارد. انحنى نحوها بسرعة، وعيناه تمتلئان بوهج الرعب والغضب المكبوت.
ثم رفع رأسه ببطء، ونظر إلى أوسكار نظرة حملت كل الاشمئزاز والاستياء:
"هل... هل هذا أيضًا تمثيلٌ أمامك الآن يا أوسكار؟" قالها بصوت هادئ، لكنه حاد كالسيف.
"لا أهتم لما تقوله، لكن... عليك مراجعة نفسك. وعلينا أن نتحرك فورًا! نحتاج إلى ساحر من برج السحرة، وبسرعة!"
وقبل أن يجيب أحد، انفتح الباب بعنف، ودخل الدوق.
كانت خطواته ثقيلة، وجهه مشدودًا كوتر، وملامحه التي عادة ما تتسم بالهيبة، لم تحمل الآن إلا القلق العميق.
"ما الذي يجري هنا؟!" صوته علا في أرجاء الغرفة، وهو ينظر حوله بسرعة. "أين أوريانا؟!"
تقدم بخطوات مسرعة نحو السرير، ثم انحنى قليلًا قربها، وعيناه تتفحصان وجهها الشاحب.
"أيها الطبيب!" صرخ فجأة، والقلق يملأ صوته. "هل استيقظت؟ هل عالجتها؟ هل أصبحت بخير الآن؟!"
لكن الطبيب هز رأسه بخفوت، وصوته بدا مرهقًا:
"سيدي الدوق... إنها تعاني من انفجار في المانا داخليًا. هذا أمر لا يمكنني معالجته كطبيب عادي. الأمر يتطلب تدخّل ساحر، وسريعًا."
لمع الغضب في عيني الدوق كوميض برقٍ خاطف، واستدار بعنف نحو من حوله، صوته خرج أجشًّا، يقطر انفعالًا جامحًا:
"إذًا... لِمَ لم يتم استدعاء ساحر حتى الآن؟! ما الذي تنتظرونه؟!"
كان صوته كالسوط، ينزل على القلوب ويزرع الرعب في الأرواح.
ثم صرخ بقوة جعلت جدران الغرفة ترتجف معها:
"هيا! أرسِلوا في طلب أحدهم فورًا، لا وقت للتردد!"
تحرك الخدم بسرعة، وكأن الهواء ذاته أصبح لا يُطاق في وجوده.
وبعد دقائق مشحونة بالصمت والقلق، وصل الساحر أخيرًا، وانحنى على جسد أوريانا، يمدّ يديه فوقها، يتلو تعاويذ معقدة وهمسات بالكاد تُسمع، بينما المانا تتراقص حولها كضوء خافت يتغلغل في جلدها.
مرت لحظات مشدودة كوتر، ثم بدأت الهالة المضطربة التي أحاطت بها تتلاشى شيئًا فشيئًا، واختفت آثار انفجار الطاقة الذي كان يهدد حياتها.
نهض الساحر ببطء، ملامحه مرهقة، وقد علا وجهه ظل تردد واضح، لكنه أجبر نفسه على الحديث بصوت ثابت:
"سيدي... لقد أعدتُ الاتزان داخل جسدها. المانا أصبحت مستقرة، وهي بخير الآن."
بالفعل، بدأ وجه أوريانا الشاحب يستعيد بعض الحياة، لون خفيف وردي عاد إلى وجنتيها، وصدرها يرتفع ويهبط بأنفاس هادئة.
لكنها لم تستيقظ.
سادت لحظة من الصمت المشحون، قبل أن يرفع الدوق عينيه نحو الساحر بنظرة جعلت الهواء في الغرفة يثقل فجأة.
كان يحمل في عينيه شيئًا يشبه البركان الخامد، قابلٌ للانفجار في أي لحظة.
قال بصوت منخفض لكنه كالسيف المُسلّط:
"إذا كانت بخير... فلماذا لم تستيقظ؟"
تقدم خطوة واحدة، فقط خطوة، لكنها جعلت الساحر يتراجع لا إراديًا.
"لقد أمرتك بمعالجتها، لا أن تتركها بين الحياة والموت! هل ترغب في أن تدفع الثمن؟"
ارتجف جسد الساحر كما لو أن عاصفة ضربته، وسارع بالكلام، صوته يرتعش رغم محاولته الحفاظ على احترامه:
"سيدي... لقد فعلت ما بوسعي. جسدها الآن بخير، والطاقة لم تعد تشكل خطرًا. لكن... استيقاظ الآنسة لا يعتمد عليّ. الأمر يعود إليها وحدها..."
ظل الدوق يحدّق في الساحر بصمتٍ ثقيل، نظراته أشبه بجدارٍ من الجليد، لا مشاعر فيه… ولا رحمة.
صمتُه كان كافيًا لجعل كل من في الغرفة يتمنى لو يختفي.
لكن حين تكلّم أخيرًا، كان صوته أقرب إلى انفجار.
صرخ بصوتٍ أجشّ يقطر سخطًا:
"خُذوا هذا الساحر من هنا! لا أريد أن أرى وجهه مجددًا!"
ثم أردف، وكأن الكلمات تحترق على لسانه:
"أحضروا لي كبير برج السحرة… أو على الأقل خليفته! لا حاجة لي بساحر ضعيف عاجز مثله!"
كان الغضب يكاد يلتهمه، يصرخ كمن يحارب عجزًا لا يطيقه، بينما ارتجفت أكتاف الساحر، لكنه لم يتكلم، فقط انحنى بارتباك شديد.
تقدّم ليونارد خطوة إلى الأمام، صوته هادئ كعادته، لكن فيه حذر واضح:
"أبي… أنت تعرف أن كبير برج السحرة لا يستجيب لمطالب النبلاء الخاصة، ولا حتى لأوامر القصر الإمبراطوري ذاته."
توقف لحظة، ثم أضاف بنبرة أكثر تحفظًا:
"أما خليفته، لوسيان، فقد غادر منذ أسابيع إلى مملكة رافينيا. لا أحد يملك وسيلة للوصول إليه الآن.
هذا الساحر… هو المرشّح الثاني للبرج. أي أنه الأفضل المتاح حاليًا."
لم يكن في صوت ليونارد تبرير، بل حقائق قاسية لا مهرب منها.
صمت الدوق لوهلة، ثم مرر يديه فوق رأسه بعنف، كأنما يريد تمزيق شيء ما داخله، أو ربما إسكات عاصفة لا تهدأ.
همس بغلٍ مكبوت:
"انقـلع الآن من أمامي… رجاءً."
رفع يده ببطء مشيرًا إلى الساحر، دون أن ينظر إليه، فالتقط الأخير الفرصة، وانسحب من الغرفة بسرعة يكاد يركض بها.
وبينما عاد الصمت إلى المكان، رفع الدوق رأسه من بين يديه، وجهه شاحب وغضبه لم يخمد، لكنه اتخذ شكلاً آخر… عزيمة.
قال الدوق بصوت منخفض، لكنه مشبعٌ بالإصرار والعزم الذي لا يقبل التراجع:
"سأذهب بنفسي إلى مملكة رافينيا."
ساد الصمت للحظة، كأن الجميع لم يستوعبوا ما قاله بعد، ثم قاطعه أوسكار بسرعة، ملامح الدهشة والرفض تتصارع على وجهه:
"أبي… ما الذي تقوله؟! هل تسافر إلى مملكة رافينيا وتترك الدوقية؟! ماذا لو حدث لك شيء؟!"
ثم أضاف بنبرة أشد قلقًا:
"وغير ذلك… كما سمعنا، لا أحد يعلم مكان لوسيان بالتحديد داخل المملكة!"
ابتسم الدوق… لكن لم تكن ابتسامة حقيقية، بل كانت مكسورة، تفيض ألماً ثقيلاً لا يمكن إخفاؤه، وقال بصوتٍ أجشّ:
"أعلم كل هذا، يا أوسكار… أعلم."
ثم تنهد ببطء، وكأن قلبه يئن:
"لكن عليّ أن أحاول… إن لم أعثر على لوسيان، فسأبحث عن أفضل ساحر في مملكة رافينيا. لن أعود خالي الوفاض."
نظر إلى ابنه نظرة رجل خَبِر الحروب والخسائر، وقال:
"ولا تُقلل من شأني… أنت تعرف جيدًا أني كنت أحد أفضل المبارزين في هذا القارة. حتى لو تقدمت في العمر، لم أفقد كل مهاراتي."
ثم استدار الدوق نحو الباب، وصوته يتكسّر في نهايته، كأن كل ما يحمله من ثقلٍ لا يكفيه البقاء:
"أنا لست مستعدًا… لخسارة شخصٍ آخر."
توقف لثوانٍ، ثم قال بنبرة أكثر ثباتًا، دون أن يلتفت:
"سأعتمد عليك، يا أوسكار… في إدارة الدوقية أثناء غيابي."
ومضى، تاركًا خلفه صمتًا أثقل من كل الكلمات، صمتًا خيّم على الغرفة كغطاءٍ ثقيل، لا أحد تجرأ على تمزيقه.
ظل أوسكار واقفًا في مكانه، لم يتحرك حتى انغلقت الأبواب خلف والده.
ثم، ببطء، استدار بعينيه نحو السرير.
نحو جسد أوريانا الذي بدا ساكنًا، هشًّا… كأن الحياة لا تزال مترددة في العودة إليه.
اقترب منها، خطاه ثقيلة، لا تشبه خطوات الوريث البارد الذي اعتاده الجميع.
جلس بجوارها، ومدّ يده ببطء، كمن يخشى أن يوقظ ألمًا.
مسح جبهتها بلطف، ثم مرر كفّه على جانب وجهها، لم يكن يعي ما يفعل… فقط يتبع دافعًا داخليًا أقوى من تفكيره.
همس بصوت خافت، أقرب إلى تنهيدة مكتومة:
"سحقًا… ما الذي يجري؟ لماذا أشعر بكل هذا الحزن؟"
أغمض عينيه بشدة، كأن دموعًا كانت تحاول التسلل:
"أرغب بالبكاء بشدة… وفي الوقت ذاته لا أرغب بذلك… هذا الشعور ينهش صدري."
صمت للحظة، ثم تمتم كأنه يعترف لنفسه:
"أشعر وكأن الحزن يسيطر عليّ تمامًا."
في زاوية الغرفة، كان ليونارد يراقبه بصمت، لم يقاطع اللحظة، فقط اكتفى بالتأمل.
ظل ليونارد واقفًا في الظل، ينظر إلى أخيه بصمت طويل… ثم أطلق تنهيدة ثقيلة، ترافقت مع ضحكة خافتة، مريرة.
"هاه… تبدو مثيرًا للشفقة الآن، أوسكار."
رفع أوسكار رأسه ببطء، ملامحه منطفئة، عيناه متسعتان كأنهما تتشبثان بأي معنى.
تابع ليونارد، بابتسامة حزينة بالكاد ارتسمت على شفتيه:
"انظر إلى وجهك… لم أرَ تلك الملامح منك تجاه أوريانا من قبل…
إلا في آخر مرة… قبل أن تنهار أمي."
"ل… ليونارد…"
قاطعه ليونارد بصوته الهادئ لكنه حادّ كحد السكين:
"هل بدأت تندم الآن؟ أم أنك فقط تخاف من أن تفقدها دون أن تحصل على فرصة لتُكفر عن كل ما قلته؟
أتذكُر؟ كنت قبل أيام فقط، تلقي عليها كلمات قاسية… دون أن تلتفت إلى ما تشعر به."
اقترب منه خطوة، ونظر في عينيه مباشرة:
"لم تعتقد للحظة أنها قد تختفي… أليس كذلك؟
كنت تتعامل معها وكأنها موجودة دائمًا، كأنك تملك الوقت… لكنك لا تملكه يا أوسكار. لا أحد يملكه."
سكت لبرهة، ثم أضاف بصوت منخفض، لكنه حمل طعنته الخاصة:
"حتى لو كنت تشك أنها تسببت في أذى والدتنا، كما قلت لي سابقًا…
هل كان ذلك مبررًا لطريقة معاملتك لها؟ لطريقة الجميع؟
أتعتقد أن العدالة تُطبق قبل أن تُعرف الحقيقة؟"
ثم تنهد بعمق، وكأن الكلام أثقل عليه أكثر مما توقع، وتراجع خطوة.
"كنت أنت أكثر من يهتم بها في السابق… أتعلم؟
لهذا السبب… عليك أن تراجع نفسك."
استدار، وترك خلفه صمتًا آخر، مختلفًا هذه المرة.
وغادر.
بينما ظل أوسكار واقفًا في مكانه، عيناه معلّقتان في الفراغ، وملامحه منطفئة…
كأن جسده ما زال هنا، لكن روحه رحلت إلى مكانٍ لا يمكن لأحد الوصول إليه.
لحظات مرت… قبل أن تخترق الصمت خطوات خفيفة.
كانت فيكتوريا، تقف خلفه بتردد، نظراتها مترددة، وكأنها تقيس حجم الألم الذي يمكنها اختراقه بصوتها الناعم.
"أخي…" قالت، بصوت رقيق مزيّف، "لا تكترث لما قاله ليونارد… أنت لم ترتكب أي خطأ، أنا أعرف ذلك جيدًا…"
لكنها لم تكمل.
استدار أوسكار بعنف، وعيناه تقدحان شررًا.
"اخرجي."
صوته كان منخفضًا… لكنه حمل كل الغضب والقهر والانهيار المكبوت.
تقدّمت خطوة صغيرة، محاولة التبرير:
"أخي، أنا فقط—"
"قلتُ اخرجي!!" صرخ، صوته ارتطم بالجدران، ويده امتدت إلى مزهرية على الطاولة القريبة، رفعها وألقاها بقوة نحو الأرض. تحطّمت القطع الزجاجية في صخب حاد، وكأنها شظايا غضبه الداخلي.
"الم تسمعي؟! قلتُ لك اخرجي! ألا تفهمين لغة البشر أم ماذا؟!"
تجمدت فيكتوريا للحظة، عيناها اتسعتا من الصدمة، لكنها سرعان ما تمالكت نفسها، وانحنت بخفة مصطنعة.
"…كما تريد، أخي."
ثم خرجت من الغرفة بخطى مرتبكة، لكن وجهها… لم يكن يحمل سوى استياء خفي.
وبمجرد أن أغلقت الباب خلفها، زمّت شفتيها بغيظ، وتمتمت في سرّها:
"سحقًا… ما الذي جرى لك يا أوسكار؟ كيف تجرؤ على معاملتي بهذا الشكل؟ هذا لم يحدث من قبل!"
سارت في الرواق، تنفث الغضب كمن تتوعد بالانتقام، ثم ابتسمت ابتسامة خافتة:
"لكن لا بأس… سيهدأ قريبًا. سيعود لطبيعته… وسيعاملني كما اعتاد. كما يجب."
وغابت في أعماق القصر، تاركة وراءها غرفة مشبعة بالصمت… وكأنها تنتظر أنفاسًا لم تأتِ بعد.
في طريق العودة من غرفة أوريانا، كان ليونارد يسير بصمت، خطواته متثاقلة كأنها تحمل أثقالًا من الندم.
وعندما وصل إلى ممرٍ خالٍ، توقف فجأة. قبضته انغلقت بقوة، وعضّ على شفتيه بقهرٍ متصاعد، قبل أن يرفع ذراعه ويضرب الجدار بقوة.
"سحقًا…"
أسند ساعده إلى الجدار، ورأسه تدلى إلى الأسفل، يتنفس بصعوبة كمن يغرق في بحر من مشاعره.
"أنا من قلت إنه مثير للشفقة… لكن الحقيقة؟ أنا أكثر إثارة للشفقة منه."
ارتجف صوته وهو يهمس:
"قبل يومٍ فقط… كان سيفي على رقبتها. كنت مستعدًا لإنهاء حياتها…"
ارتجف جسده.
"وحين صفعتني وقالت لي… (لا تلمسني بيدك القذرة)… كانت نظرتها مكسورة، مليئة بالخذلان. رغم أن ذاكرتي مشوشة… لا أذكر كل التفاصيل… لكن ما أتذكره يكفي."
رفع يده المرتجفة ومسح بها وجهه، لكن الدموع بدأت بالانهمار، بصمت لا يحتاج إلى شهود.
"أنا المخطئ… المخطئ الوحيد."
غصّة علقت في صدره.
"أكره نفسي… في كل مرة أنظر إليها، أكره نفسي أكثر."
صمت لوهلة، ثم همس بشيء يشبه الرجاء:
"هل… هل ستكون هي الأخرى مثل أمي؟ ستختفي… دون أن أتمكن من إصلاح شيء؟"
شد على قبضته مجددًا، وأغمض عينيه بقهر:
"أنا لا أريد ذلك… لكن… لا أعرف… لا أعرف ماذا أفعل."
بقي واقفًا هناك، في الرواق الصامت، كمن يحاول التمسك بخيط وهمي من الخلاص، لكن كل شيء من حوله ينزلق من بين أصابعه… تمامًا كما فعل في الماضي.
ثم عاد إلى غرفته وهو يمسح وجهه، كأنّ تلك الدموع قد فضحته، كأنّه يخجل من ضعفه… من نفسه.
دخل وأغلق الباب خلفه بهدوء، لكن أنفاسه لم تكن هادئة.
الغرفة كانت مظلمة، سوى من وهجٍ باهت يتسلل عبر الستائر، ينعكس على أرضها كظلّ حزنٍ عالقٍ بها منذ زمن.
جلس على حافة سريره، يحدق في اللاشيء… عيناه متورمتان، ووجهه متعب، كما لو أنه مرَّ بعاصفة لم تترك فيه شيئًا ثابتًا.
مد يده إلى درج جانبي وسحب منه شيئًا صغيرًا…
قلادة ذهبية صغيرة، تحمل حجرًا أزرق باهت.
تردد للحظة وهو ينظر إليها، قبل أن يهمس بصوتٍ منكسر:
"أعطيتها لي في طفولتنا… عندما كنت أظن أن العالم مكان بسيط… وأنك ستكونين دائمًا هناك."
أغمض عينيه بقوة، قبض على القلادة كأنها طوق نجاة، ثم همس:
"استيقظي… فقط استيقظي يا أوريانا… لا أريد أن أراكِ تختفين مثل أمي. لا أريد أن أعيش هذا الندم مرةً أخرى."
في تلك اللحظة، كان صوته صادقًا إلى حد الألم. لم يكن هناك أحد ليسمعه، لكن لو كانت أوريانا تسمع… لربما شعرت لأول مرة بثقل ذلك الندم الذي يسكن قلوبهم جميعًا.
في ذلك الوقت في اعماق اوريانا
المكان…
بارد.
بارد للغاية.
كأن الهواء نفسه تجمّد داخلي.
كأنني أغرق في لا شيء، في ظلمة لا ملامح لها…
لا ضوء، لا صوت، لا جسد.
فقط إحساس ثقيل بالاختناق.
"ما الذي يحدث؟ أين أنا…؟"
أحاول تذكّر آخر شيء…
شيءٌ ثقيل في صدري، مذاق معدني لاذع، وحرارة الدم تصعد إلى فمي.
ثم السقوط…
والصمت.
"آه… الآن أتذكّر. لقد تقيأت دمًا… ثم فقدت الوعي."
إذن…
هل متُّ أخيرًا؟
هل هذه النهاية التي طالما انتظرتها؟
هل سأتحرر أخيرًا من هذا الجسد الذي عُلّق كدمية أمام الجميع؟
من نظراتهم، من إيذائهم، من ذلك الألم الصامت الذي لا يراه أحد؟
"لست نادمة على شيء… لا على الكراهية، ولا على الغضب، ولا على ضعفي."
سوى شيء واحد فقط…
شيء لم يتركني يومًا.
"الدوقة… لم أستطع إنقاذك."
رغم كل محاولاتي، رغم مقاومتي لكل شيء…
خسرتك.
الشخص الوحيد الذي شعرت معه بشيء يشبه الطمأنينة.
لكن…
هناك شخص آخر.
"أمي…"
من عالمي القديم.
تلك التي احتضنتني ذات يوم وأنا أبكي في زاوية غرفتي، دون أن تسأل.
الوحيدة التي شعرت معها بالأمان الحقيقي…
حتى عندما خذلتني الحياة، لم تتخلَّ عني.
"أمي… أنا قادمة. أخيرًا… سأراكِ."
وابتسمت، أو هكذا خُيّل لي، في وسط هذا الفراغ.
لكن الهدوء لم يدم.
صوتٌ شقّ الظلمة…
حادّ، مشبع بالضيق.
"سحقًا، هل ستبقى في غيبوبتها طويلًا؟"
"كان عليها على الأقل أن تعطينا حق الشركة، ثم تموت."
"لا أحد يريدها على أي حال."
"بين سوه… تلك اللعينة."
تجمّدت ابتسامتي.
ذلك الصوت…
أنا أعرفه جيدًا.
"أبي…"
ثم لحقه صوتان آخران، أكثر لؤمًا، أكثر بُعدًا عن الرحمة.
"أخواي…؟"
"حقًا؟ حتى وأنا بين الحياة والموت، تلاحقونني بكراهيتكم؟"
كل ما أردته…
نهاية هادئة.
رحيلًا بلا ضجيج.
لكن حتى موتي، تحوّل إلى فرصة لهم للنهش فيّ.
أردت أن أصرخ، أن أقول:
"اصمتوا… دعوني أرحل بسلام."
لكنني لا أملك فمًا في هذا الفراغ…
فقط وعيًا غارقًا، وروحًا تمزّقها الكلمات.
لكن الصوت الذي اقتلع قلبي، وجعل دمي يغلي،
كان صوت هيونا… أختي الصغيرة، التي كرهتها بعمق،
التي قتلتيني ذات يوم في حياتي السابقة،
تلك التي لا تنسى ولا تغفر.
صوتها يخترق ظلامي كالسهم،
"أبي، اهدأ، ستتعب نفسك أكثر منّا،
هي ليست من ستعاني، بل هو نحن."
ضحكتها المرة تلتف حول روحي مثل الحبل،
تذكرني بكل جرحي الذي تسببت به.
أشعر بغضب يتصاعد في داخلي،
يدي ترتعشان،
قلبي ينبض بعنف،
أريد أن أصرخ، أن ألعنهم جميعًا،
لكن ليس هناك صوت يخرج مني،
فقط صدى الألم داخل صدري.
"لماذا؟
لماذا أسمع أصواتهم حتى في لحظة موتي؟
لماذا لا يتركوني أرحل بسلام؟"
أغمضت عينيّ بقوة، محاوِلة دفن تلك الأصوات المزعجة في أعماق قلبي،
لكنها كانت كسمٍّ ينساب في عروقي، يملأ كل جزء مني، يقتلني ببطء من الداخل.
شعرت فجأة أنني أغرق، يتصاعد في صدري ثقل لا يُطاق،
تنفسي صار صعبًا، كأن الهواء اختفى من حولي.
أغلقت عينيّ محاولَة الصمود،
لكنّ الاختناق والعتمة استولى عليّ بلا رحمة.
عندما فتحت عينيّ، وجدت نفسي أنظر إلى السقف…
سحقًا، ما الذي يجري؟
جسدي وكأنه سحق وعظامي تؤلمني بشدة ممزق، قلبي يرفرف كطائر أسير،
وكأن الألم الذي شعرت به سابقًا لم يكن إلا بداية لعاصفة أكبر.
نظرت حولي بدهشة متزايدة،
لا أستطيع أن أفسر ما حدث لي.
همست لنفسي، بصوت متلعثم:
"أليس المفترض أني فقط تقيأت دمًا واغمضت؟
فكيف أنا هنا الآن؟
لماذا أنا في هذا المكان؟
ماذا يحدث لي؟"
أعزائي الغامضين 👁️🗨️
بسحب على الرواية في الموقع ده بسبب قلّة التفاعل.
لما الكلام ما يوصل، ما في داعي ينقال.
شكرًا لكل من مر. 🕯️