مع حلول الصباح، وبعد أن أرسل سيلاس طعام العشاء الليلة الماضية، تناولته دون شهية ثم خلدت إلى النوم. لكن النوم لم يكن راحة، بل مجرد انتقال من كابوس الواقع إلى كوابيس الذاكرة. أحلامي لم تهدأ... دائمًا تعود لتذكرني بحياتي السابقة، بكل ما حملته من ندم وخيبة.
لكن، لم يعد يهمني ذلك الآن.
هناك شيء واحد فقط يهمني في هذه الحياة: إنقاذ الدوقة كاميلا.
وبعدها... الموت سيكون راحةً مرحبًا بها.
طرقات خفيفة على الباب قطعت أفكاري.
"تفضلي."
فُتح الباب ببطء، لتدخل فتاة ذات ملامح هادئة، بشعر أسود وعيون زرقاء تشبه صفحة ماءٍ ساكنة. بدا عليها التردد، كأنها تخشى رد فعلي، وكأنها تتوقع أن أنهال عليها غضبًا دون سبب.
تحدثت بصوت خافت متردد: "أ-أنستي... لقد أرسلني كبير الخدم سيلاس. الماركيز رولين مارلو سيصل بعد ساعتين، لذا... إذا كنتِ ترغبين في الاستعداد أو تحتاجين إلى أي شيء، فأرجو أن تخبريني."
"كما ترين، لا أفقه كثيرًا في اختيار الملابس وما شابه، لذا آمل أن يكون لديكِ ذوقٌ جيد. هل يمكنكِ اختيار فستان مناسب لي والقيام بعملكِ على أكمل وجه؟"
تجمدت الخادمة في مكانها للحظة، وكأنها لم تصدق ما سمعت. بدا الخوف واضحًا في عينيها، لكنها سرعان ما أجبرت نفسها على الابتسام، محاولة إخفاء ارتجافها. "ح-حسنًا، سأقوم بإعداد كل شيء لكِ، آنستي."
أشرتُ نحو الخزانة بلا مبالاة، "لديكِ الحرية في الاختيار، فقط احرصي على ألا يكون مزعجًا."
تحركت ببطء نحو الخزانة، كأنها تتقدم نحو مصير مجهول. أفكارها كانت تتلاطم داخل رأسها بجنون—هل هذا اختبار؟ ماذا لو اخترتُ شيئًا لم يعجبها؟ هل ستغضب؟ هل سيتم طردي كما حدث مع الخادمات السابقات اللاتي أغضبنها؟ لا يمكنني الرفض، لكن ماذا لو...
وقفتُ عند باب الخزانة، أراقب الخادمة وهي تفتش بين الملابس بقلق واضح، بينما كنت أتكئ على راحة يدي، مغلقة عيني بإرهاق. لم يكن لدي اهتمام كبير بما سترتديه أوريانا، أو بالأحرى، بما كنت سأرتديه أنا الآن.
كانت الملابس كلها جديدة، غير ملبوسة تقريبًا، وهذا لم يكن مفاجئًا. أوريانا لم تكن تحضر الاجتماعات أو المناسبات المهمة، ومن الواضح أن أحدًا لم يكترث لأمرها بما يكفي ليهتم بتجهيز ملابس تليق بها. كان كل شيء هنا يحمل لمسة طفولية واضحة، وهذا لم يكن سوى دليل آخر على يد فيكتوريا المتحكمة في كل شيء، حتى في تصميم ملابس الدوقية.
تنهدتُ بهدوء، متأكدة أن الخادمة لن تجد شيئًا مناسبًا. ربما سيكون عليّ مقابلة ذلك الماركيز بملابس رسمية من ملابس الدوقية، فلا سبيل لي لارتداء شيء من هذا.
لكن فجأة، قطعت الخادمة أفكاري بصوت متردد:
"ما رأيكِ بهذا يا آنستي؟"
فتحتُ عيني ببطء، مستعدة لرؤية خيار سيئ آخر، لكن ما رأيته جعلني أرفع حاجبيّ بدهشة.
في يدها كان هناك فستان أحمر... كان مذهلًا بحق، مصنوعًا من قماش فاخر ينساب بسلاسة، وتزينه تطريزات دقيقة عند أطرافه. لكن الأمر لم يكن في جماله فقط، بل في الإحساس الغريب الذي راودني حين وقعت عيناي عليه.
هذا الفستان... لماذا أشعر أنني أعرفه؟
تقدمتُ خطوة للأمام، تأملتُه بعناية، ثم رفعت نظري إلى الخادمة وسألت بحدة لم أقصدها:
"أنتِ، أين وجدته؟!"
حين نطقتُ بسؤالي، لاحظتُ كيف تجمدت الخادمة فجأة، ثم ارتجفت قبل أن تركع أمامي بخوفٍ واضح، وكأنها ارتكبت جريمة لا تُغتفر.
"أ-أنا آسفة، آنستي!" كان صوتها مهتزًا، وعيناها تلمعان بالقلق. "لقد وجدته في ذلك الصندوق... لم يكن عليَّ فتحه دون إذن، لكن... لكن..."
تنهدتُ داخليًا. آه، يا لي من غبية. يبدو أن نبرتي كانت حادة دون أن أدرك ذلك. لم أقصد تخويفها، لكن... يبدو أنني أصبحتُ أكثر صرامة دون وعي بسبب كل ما مررتُ به. عليّ إصلاح ذلك.
خفضتُ صوتي وجعلته أكثر هدوءًا وطمأنةً، "ليس عليكِ الركوع، لم أكن أوبّخكِ، فقط كنت أتساءل عنه."
رفعت رأسها ببطء، ما زالت ملامحها متوترة، لكن شيئًا من الراحة بدأ يظهر في عينيها.
"إذاً... هل يمكنكِ تجهيز المكياج والمجوهرات بينما أرتدي هذا الفستان؟"
في لحظة، تغيرت ملامحها بالكامل، تحولت نظرتها الخائفة إلى بريق حماسي، ثم انحنت بحماس قائلة، "بالطبع، آنستي! دعي هذا لي! سأجعلكِ تبدين ساحرة لدرجة أن الجميع سيفتن بجمالك!"
ثم توقفت فجأة، كأنها أدركت أنها تحمست أكثر من اللازم، وخفضت رأسها مجددًا بخجل. "آه... آسفة، لقد تحمستُ قليلاً... إنها أول مرة يُطلب مني شيء كهذا، لذا..."
ابتسمتُ بخفة. "لا بأس."
في النهاية، كان من الجيد رؤية أحدهم متحمسًا لأمر بسيط كهذا.
بعد أن ارتديتُ الفستان وخرجت، التفتت إليّ الخادمة، لكن سرعان ما اتسعت عيناها بدهشة، وتجمدت في مكانها وكأنها رأت شيئًا غير متوقع. لم أفهم في البداية سبب نظرتها تلك، لكنها وضعت يدها على خدها وهمست بانبهار:
"آنستي... أنتِ جميلة جدًا حتى بدون مكياج أو مجوهرات!"
بدا وكأنها غير قادرة على استيعاب الأمر، وكأنها ترى شيئًا يفوق خيالها.
وقفتُ للحظة أحدق في وجهها المتحمس، ثم تقدمتُ نحو المرآة وجلستُ على الكرسي أمامها. انعكاس صورتي في المرآة كان واضحًا الآن... صحيح، أوريانا تبدو جميلة للغاية.
كيف لم ألحظ هذا من قبل؟
شعري الطويل ينسدل بانسيابية على كتفي، وعيناي الواسعتان تلمعان تحت ضوء الغرفة الخافت. ملامحي متناسقة، هادئة لكنها حادة في الوقت ذاته. لم يكن هذا الجمال الصارخ الذي يجذب الأنظار فورًا، لكنه يحمل سحرًا خفيًا، جاذبية هادئة لكنها لا تُقاوَم.
رغم ذلك، لم أشعر بحاجة إلى الاحتفال بهذا الاكتشاف، فالجمال لم يكن يومًا سلاحي. تنهدتُ بصمت، ثم التفتت إلى الخادمة التي لا تزال واقفة في مكانها مذهولة، وقلتُ بنبرة هادئة لكن حازمة:
"لا حاجة للإطراء، فقط ضعي القليل من المكياج، لا أريد لفت الانتباه."
اهتزت الفتاة كما لو أنها استعادت وعيها أخيرًا، ثم أومأت بحماس واقتربت مني بخطوات سريعة. بدأت بوضع المكياج بحرص شديد، واختيار المجوهرات المناسبة، وكأنها تضع لمستها الأخيرة على لوحة فنية.
"آنستي، لقد انتهيتُ."
فتحتُ عيني لأجد انعكاسي في المرآة مختلفًا قليلًا عن السابق. لم تضع الخادمة الكثير من المكياج، لكنه كان كافيًا لإبراز ملامحي وإضفاء لمسة من الأناقة الهادئة. المجوهرات التي اختارتها بدت متناسقة تمامًا مع الفستان الأحمر، مما أضاف لمظهري لمسة من الفخامة الممزوجة بالرزانة.
ابتسمتُ قليلًا وقلتُ لها:
"أحسنتِ، لقد كنتِ جيدة في اختيارك."
ارتسمت على وجهها ابتسامة سعيدة، لكن لم يكن هناك وقتٌ لإطالة الحديث.
"كم تبقى حتى يصل الماركيز؟"
نظرتْ إلى الساعة قبل أن تجيبني:
"تبقّى عشر دقائق، آنستي. هل آمر الخدم بإعداد طعام خفيف لكِ قبل أن يصل؟"
"لا حاجة لذلك، سأتجول قليلًا في القصر إلى أن يأتي."
نهضتُ من الكرسي، لكن قبل أن أخطو أي خطوة، سمعتُ صوت عجلات عربة تقترب. التفتُّ إلى النافذة لأرى عربة بلون ذهبي تتوقف عند مدخل القصر. الباب انفتح، ونزل منه رجل بشعر أخضر وعيون رمادية مألوفة...
إنه هو... الماركيز رولين مارلو.
سمعتُ صوت الخادمة وهي تقول بحماس:
"آنستي، انظري! الماركيز قد وصل!"
لكنني لم أردّ على الفور. تأملته لوهلة قبل أن أقرر بهدوء:
"لن أذهب لاستقباله، سأتجول قليلًا في الحديقة. إذا سأل عني، أخبريه بمكاني."
"كما تشائين، آنستي."
خرجتُ من القصر متجهة إلى الحديقة، كنت بحاجة لبعض الهواء قبل لقائه.
هناك، وجدتُ جناحًا خشبيًا مزينًا بالورود، بسقفٍ دائري تلتفّ حوله نباتات متسلقة، وطاولة خشبية صغيرة تحيط بها عدة مقاعد. جلستُ على أحدها، أغمضتُ عيني للحظة، واستنشقتُ رائحة الأزهار العطرة التي يحملها النسيم الهادئ...
كنتُ بحاجة إلى لحظة راحة قبل أن يبدأ هذا اللقاء.
بعد نصف ساعة، لاحظت اقتراب الماركيز رولين مارلو نحوي. خطواته الواثقة كانت بطيئة، وكأنه يتعمد التمعن فيّ. وعندما أصبحت ملامحي في مرمى بصره، رأيت الدهشة تعبر وجهه للحظة وجيزة قبل أن يخفيها تحت قناع الهدوء المعتاد.
لم يعجبني ذلك. نظراته الطويلة تلك... كانت مزعجة. مقززة.
وضعت كوب الشاي على الطاولة برفق، ثم رفعت عيني إليه قائلة بنبرة هادئة ولكن جافة:
"أيها الماركيز، هل ستظل واقفًا هناك تحدق بي أم أن لديك ما تقوله؟"
رمش بعينيه، وكأن كلماتي أعادته إلى الواقع، ثم تنحنح قليلاً قبل أن يقول بصوت سلس:
"لا، كنت فقط... مندهشًا. تبدين جميلة جدًا اليوم، يا أوريانا. كالعادة."
كالعادة؟ هه. يا له من كاذب بارع.
أمسكت فنجان الشاي بين أصابعي مجددًا، ورسمت ابتسامة مجاملة على شفتي، رغم أنني لم أكن أشعر بأي امتنان حقيقي لكلماته.
"أشكرك على الإطراء، الماركيز."
توقّف. حدّق بي بنظرة غريبة قبل أن يكرر ببطء:
"الماركيز؟"
"أجل، هل هناك مشكلة؟"
قطب حاجبيه، وكأن شيئًا أزعجه، ثم تنهد قائلاً بنبرة غير معتادة:
"أوريانا، هذه أول مرة تنادينني هكذا..."
صمَتَ للحظة قبل أن يضيف، وكأنه يذكرني بشيء غفلت عنه:
"ثم، أنا وأنتِ مخطوبان. لماذا تتحدثين معي بهذه الرسمية؟"
ربما لأن الماركيز لا يحمل أي مشاعر تجاهي، أليس كذلك؟
قلت ذلك بينما شبكت أصابعي معًا، وضعت يديّ فوق الطاولة، وأسندت رأسي عليهما، ناظرة إليه بنظرة غير مبالية.
"كما أنني أيضًا... لا أحب الماركيز."
توقف للحظة قبل أن ينفجر ضاحكًا، وكأنه سمع للتو نكتة سخيفة. "هاه؟ أوريانا، أنتِ تمزحين، أليس كذلك؟ يا لها من مزحة!"
أمال رأسه للخلف، وكأن كلماتي لم تكن سوى شيء عبثي لا يستحق حتى التفكير فيه.
تجاهلت ضحكته البغيضة، وقلت ببرود، "إذن، ماركيز... أنت تحبني، أليس كذلك؟"
"بالطبع."
في تلك اللحظة، رغبت بشدة في رمي كوب الشاي المغلي في وجهه، أن أرى رد فعله وهو يتلوى من الألم، لكني تمالكت نفسي. لا فائدة من ذلك، على الأقل الآن.
بدلًا من ذلك، تذكرت الرسالة التي وصلتني منه بالأمس، الرسالة التي أحرقت يدي قبل أن تلامس النار.
"إلى محبوبتي ذات الجمال المتوهج، أوريانا.
أتراكِ تدركين كم أفتقدكِ؟ كل ليلة، حين أرفع بصري إلى السماء، أجد النجوم تعكس بريق عينيكِ، فتأسرني الذكريات وأتساءل: هل أنتِ بخير؟ هل تتناولين طعامكِ كما ينبغي؟ آه، لو تعلمين كم يرهقني الشوق إليكِ!
أيامي تمضي بطيئة دون رؤيتكِ، وقاعات القصر تبدو فارغة مهما ازدحمت بالضيوف، فكيف للبهجة أن تزهر دون وجودكِ؟ أيمكنني الأمل في أنكِ تبادلينني ذات المشاعر، ولو قليلاً؟
لهذا، لا أستطيع البقاء بعيدًا أكثر... سأزوركِ غدًا، فلا تجعلي قلبي يذبل بالانتظار.
لكِ خالص احترامي وشوقي،
رولين مارلو."
كم هو مقزز.
كم هو زائف.
لقد كان يكتب تلك الكلمات وكأنه عاشق متيم، وكأنه رجل يذوب حبًا في خطيبته، بينما الحقيقة... الحقيقة كانت بعيدة تمامًا عن ذلك.
سرت ببطء نحو المدفأة، أصابعي تشد الورقة كأنني أريد تمزيقها قبل أن تسقط بين ألسنة اللهب. راقبتها وهي تتآكل، تلتهمها النيران حتى تحولت إلى رماد، كما يجب أن يكون مصير كل الأكاذيب.
لكن، ما هو أكثر إثارة للاشمئزاز؟
ليس فقط كلماته الزائفة، بل كونه لم يحب أوريانا يومًا، لم يكن يرى فيها سوى وسيلة... وسيلة للتقرب من فيكتوريا.
رولين مارلو... الرجل الذي منحته أوريانا حبها، الرجل الذي وثقت به بعمى، الرجل الذي كان يمسك بيدها حين تلاشت آخر أنفاسها، ليس ليواسها، بل ليكون اليد التي دفعتها إلى الموت.
كان هو الشخص الذي نفّذ عليها حكم الإعدام دون ذرة رحمة.
والآن، يرسل لي رسالة حبّ؟
سخيف. مثير للشفقة.
لكنني أعرف السبب الحقيقي لهذه الرسالة، أعلم لماذا يزعم أنه لا يستطيع الانتظار أكثر.
هو لا يريد رؤيتي.
إنها مجرد ذريعة لرؤية فيكتوريا.
كلماته أعادتني للواقع، كانت ابتسامته الواثقة ونظرته الثابتة توحيان بأنه معتاد على التأثير في من حوله، كأن كلماته وحدها كافية لإيقاع أي فتاة في شباكه.
"هل قرأتِ رسالتي التي أرسلتها لكِ بالأمس؟" سأل بصوت هادئ، وكأنه متأكد من جوابي مسبقًا.
وضعتُ كوب الشاي برفق على الطاولة، ثم رفعتُ نظري إليه ورددت ببرود: "أجل، فعلتُ ذلك."
تألقت عيناه الرماديتان بدهشة مصطنعة، قبل أن يتابع، وكأنه يلقي خطابًا معدًا مسبقًا:
"أتدرين؟ عندما كتبتُ تلك الرسالة، كنتُ أرغب في المجيء فورًا... أردتُ رؤية أميرتي، لكن للأسف، تأخر الوقت ولم يكن ذلك ممكنًا." توقف للحظة، ثم أضاف بابتسامة مغرورة: "ولكنكِ جميلة للغاية، تستحقين كل العناء لرؤيتك."
أغمضتُ عيني للحظة، محاولًة استيعاب الموقف.
أحقًا؟ كيف وقعت أوريانا في حب هذا الأحمق؟ هل كانت عمياء عن حقيقته؟ أم أنها ببساطة أرادت تصديق أكاذيبه؟
شعرتُ بالغثيان من هذا النوع من التلاعب الرخيص... هل يظن أن بضع كلمات منمقة ستجعلني أذوب بين يديه؟
حسنًا إذن... إن كانت هذه لعبتكَ، يا ماركيز، فسأجاريك فيها، ولنرَ من سيفوز في النهاية.
رسمتُ على شفتي ابتسامة ساحرة، ثم قلت بصوت ناعم ومدروس: "ماركيز... أنت لطيف للغاية."
ثم، وأنا أنظر إليه مباشرة، أضفت في داخلي: لكنني لن أكون دُميتَك، رولين مارلو.