وقفت لاريس في المطبخ، ملطخة بآثار الطحين والكاكاو من رأسها لأطراف أصابعها، لكنها ما كانت تهتم. ابتسامة مرحة ارتسمت على وجهها وهي تخلط المكونات بحماس، تتطاير منها ذرات الطحين هنا وهناك. صوت خفقها العفوي للمزيج ملأ المكان، ومع كل حركة كانت تشعر بفرحة طفولية، كأنها تصنع شيئاً يخصها وحدها. نظرت إلى يديها الملطختين، وضحكت بصوت خافت، مستمتعة بلحظات الصباح السعيدة.
عندما اقتربت روفيلا، كانت لاريس تتوهج بابتسامة لطيفة، عيناها الزرقاوان تلمعان ببراءة. شعرها الأسود الناعم الطويل كان يتساقط على كتفيها، بينما خدودها الوردية تعكس إشراقة الصباح. تعبيرها كان مليئاً بالدهشة والسعادة، وكأن لحظة العناية من روفيلا زادت من جمالها.
بعد أن أنهت لاريس إعداد الكعكة، ابتعدت عنها خطوات قليلة ووقفت تتأملها بفخر. نظرت إلى الكعكة، ثم قالت:
لاريس: أعتقد أنها رائعة! ماذا برأيك؟
روفيلا: تبدو لذيذة جداً، لكن دعيني أرى كيف ستحصلين على تزيينها!
بينما كانت لاريس تفكر، بدأت تلعب بشعرها الطويل الناعم وتلفه حول أصبعها، وهي عادة لطالما قامت بها عندما تشعر بالتفكير.
روفيلا: (تضحك) لماذا تلعبين بشعرك هكذا؟ وكأنك صغيرة!
لاريس: (تستدير بغضب لطيف) لا تضحكي علي! إنه مجرد عادة!
تغيرت ملامح لاريس، وبدا غضبها طفوليًا مع خدودها الوردية وابتسامة خفيفة على شفتيها.
روفيلا: (تضحك أكثر) عذراً، لكن تعبير وجهك يشبه تعبير الأطفال عندما يغضبون!
لاريس: (تتظاهر بالجدية) لا، أنا جادة! ليس من اللطيف أن تضحكي علي!
روفيلا: لكنك تبدين adorable! (تضحك بشدة)
استمرت لاريس في التظاهر بالغضب، بينما كانت تلعب بشعرها حول أصبعها، مما جعل روفيلا تضحك أكثر على تعابيرها الطريفة.
لاريس: (تبتسم قليلاً) حسنًا، ربما قليلاً. لكن فقط إذا كانت الكعكة لذيذة!
كان قصر عائلة رودريك شامخًا في هدوء مهيب، أعمدته الرخامية الشاهقة وجدرانه المزينة بلوحات قديمة تروي قصصًا مكتومة. بدا القصر كأنه يحتضن أسرارًا ثقيلةً بين جدرانه، ممراته الواسعة، وثرياته التي تتلألأ على الجدران، تغمر المكان بهيبة تخنق الأنفاس.
في أعماق هذا الصرح الفخم، كانت ماري جالسة على حافة سريرها الفاخر، تهز قدميها بتوتر وتعضّ أطراف أظافرها بقلق. خلف الباب، وقفت الخادمات بصمتٍ مفعمٍ بالقلق، يتبادلن نظرات مضطربة حتى بادرت إحداهن، تهمس وهي تطرق الباب برفق:
"سيدتي الصغيرة، الجميع قلق عليك... هل أفتح الباب ليدخلن الأخريات؟"
جاء صوت ماري حادًّا وقويًّا رغم ما يعتمرها من اضطراب،
"لا، اتركوني وحدي."
تراجعت الخادمات في صمتٍ مطيع، لكن القلق ظلّ عالقًا في أعينهن، غير قادرات على طرد خوفهن على سيدتهن الصغيرة.
جلست ماري تحدّق في الفراغ، وأفكارها تتصادم في ذهنها كأمواج قلقة، فتمتمت بصوت خافت،
"ما الذي قصدته لاريس حين قالت إن الثمن سيكون باهظًا؟ ولماذا دعتني إلى القصر الآن؟ لم يصلني أيّ إشعارٍ بموعد اللقاء..." زفرت بعمق،
تسترجع ذكريات من الماضي أثقلت قلبها. رغم قوتها وذكائها، لم تستطع أن تمحو أثرًا قديمًا من الخوف الدفين الذي زرعته لاريس في أعماقها.
بالهدوء والصمت اللذان يغلفان ذهن ماري، تلوح ذكريات مشوشة لوقت مضى، وكأنها شظايا زجاج مكسور. تتذكر ذلك اليوم الجميل في الغابة، حيث كانت هي ولاريس تسابقان تحت أشعة الشمس المتسللة عبر أوراق الأشجار. ضحكاتهن تملأ المكان، وكان الشعر الأحمر لماري يتطاير خلفها، وعينيها الذهبيتان يشتعلان بالحماسه و بشرتها البيضاء ذات البياض الناصع و مضيئًا بوهج من السعادة، بينما كان شعر لاريس الأسود يتمايل مع كل حركة، كالسواد الذي يحاكي الليل و عيونها الزرقاء كالسماء الصافيه في ذالك اليوم المشرق و بشرتها البيضاء التي تشبه الغيوم البيضاء .
ركضتا معًا، تجتازان الجذور والأغصان، وتتعثران أحيانًا، لكنهما يضحكان بلا توقف. بينما تتقارب المسافات، تتشابك أيديهما في لحظة عفوية، يلتقطان أنفاسهما من شدة الضحك، وتعلو أصواتهن مع كل تعثر وكل قفزة، وكأنهما لا يعرفان حدود الفرح.
تسقط ماري أولاً، وتنهض بسرعة، ولكنها تتعثر مجددًا وتسقط بجوار لاريس، حيث تتعانقان وتضحكان في تلك اللحظة، وكانتا كطفلتين في عالم خيالي. كانتا ترتديان نفس اللباس، بنطال وسترة متطابقة، مما جعلهما تبدوان كأنهما توأمان في مغامرتهما.
لكن في لحظة من اللحظات، انقلبت السعادة إلى صدمة. تذكرت ماري تلك الصورة المروعة التي تلاشت فيها الضحكات، وكأن كل شيء من حولها تجمد.
تراجعت ماري بخطوات مرتجفه الى الوراء، قلبها ينبض بسرعه و رعب يسيطر على عقلها. كانت عيناها الذهبيتان تتسعان بذهول، موجهتين نحو لاريس التي كانت تقف امامها في مشهد مروع. شعرت بان العالم حولها انقلب رأساً على عقب.
كانت ملابس لاريس مغطاه بالدماء. اللون الاحمر القاني يتباين بشكل صارخ مع بشرتها البيضاء، التي كانت خاليه من اي تعابير، وكأنها لوحه مرعبه رسمت في لحضه، وجهه لاريس الذي كان يوماً مضيء بالفرح، بات الان مغطا بقطرات من الدماء، وعينيها الزرقاوتين اصبحتا غامضتبن، تفتقران الى الحياه.
في يدها كان السيف مرفوعاً مغطا أيضاً بالدماء، كأنه قد خرج من كابوس لايُنسى. نضره لاريس الباردة الخاليه من اي تعابير، كانت كالسيف الذي يخترق قلب ماري مما جعلها تشعر بان كل شيء من حولها قد توقف.
صدمتها هذه الرؤيه بشده فتعثرت و سقطت على الارض، يدها يرتجف و هي تنظر الى لاريس تعبر عن الخوف الذي يملاء قلبها تمنت لو كانت قادره على الهروب من هذا المشهد لكنها كانت محاصره برعبها و كأن الزمن قد تجمد تاركاً إياها في تلك اللحضه المرعبه.
في سكون الغرفة، وبينما كانت ماري غارقة في موجة من الذكريات، انكسر الصمت على وقع طرقات برفق على الباب، تلاها صوتٌ يقول بنبرة حنونه :
"ماري، افتحي الباب... أريد أن أتحدث معكِ."
توقف ذهنها عن التفكير للحظة، ثم نهضت بسرعة واتجهت نحو الباب. فتحت الباب بلهفة، وما إن رأت الشخص الواقف أمامها حتى قالت بفرح:
"دانيال!"
دون تردد، احتضنته ماري دانيال لكنها لم تستطع طرد صورة لاريس الملطخه بالدماء من ذهنها.
"هل كان هذه مجرد ذكرى، ام ان الماضي على وشك ان يعود؟"