"عزيزي المستشار، أدعى ألبرت أينشتاين، لا أرى حاجة لتعريفك بنفسي، ولعلك قد تجد ذلك متغطرسًا، والحقيقة عكس ذلك فالغرض الوحيد لهذه الرسالة ما هو إلا إيصال الحقيقة إلى مسامعك، وأرجو منك أن تقبلها برحابة صدر.

دماء يهودية تتدفق في داخلي، ولا علم لي إن كنت ملم بذلك.

الأكيد أنني أعد نفسي ألمانيًا أبًا عن جد في هذه الأرض، ولا يمكن لسمتي كيهودي أن تقارع هويتي كألماني.

لكن ذلك لا يبدو للأخرين.

قد تعد ذلك غريبًا، لكني أود أن أقص عليك قصة قديمة يا سيدي.

في أيامي كطالب إبتدائية إلتقطت مسمارًا صدأ من الملعب وذهبت به إلى أستاذي، كان إلتقاطي المسمار هو خشية أن يأذي أحد الطلبة، في حين كان أخذه للأستاذ أملًا مني أني فعلت فعلًا أمدح عليه من أستاذي، فيصبح أقل قنوطًا من كوني يهوديًا.

لكن ذلك لم يحدث إذ نكل بي أمام الجميع وعرض المسمار الذي قدمته إليه أمام الصف قائلًا :"صلب اليهود يسوع بمسمار كهذا".

كنت حديث السن فأحزنتني هذه الواقعة كثيرًا، ولو كنت قادرًا لأثرت القفز من النافذة أو الإختباء في جحر عوضًا عن تحمل نظرات الطلبة ناحيتي.

وأتقي قول أني لا زلت أذكر هذا الحادث كشخص بالغ.

ولعل ليهود آخرين قصص أخرى ليرووها، نحن لم نختر أن نولد يهودًا، لكننا نتعرض للتميز بسبب هذا الأصل الذي كان عليه أجدادنا.

وعلى غرار عيشنا بمفخر كألمان يدينون بالولاء للعلم الألماني.

ما يستحق الملاحظة هو أني وجدت أن التمييز العلني ناحيتي قد إختفا بمجرد أن إكتسبت لنفسي بعض النجاح، لكن هذا التمييز لا زال يمارس على غيري في كل نواحي البلاد.

وحتى الساسة اللذين لم يسعو لتأجيج القضية تعامو عنها طويلًا، وبذلك فإني أشير إلى القيصر والحزب الديموقراطي الإجتماعي.

لعل علينا أن نكون ممنونين لأنهم لم يحولو معادات السامية إلى شيء آخر، مع ذلك، ماذا يجب أن نقول للأطفال من أصول يهودية الذين ولدو في هذه الأرض حين يواجهون التمييز على أيدي من إعتبروهم أبناء الوطن ذاته؟ هل سيعيشون كما عشنا نحن؟

وفي هذه الناحية فإني ألتمسها من سيادتكم، فالمقدرة على تغيير هذا الوضع في أيديكم..

ثمت أكثر مما أود قوله، لكني أعي مدا إنشغالك، لذا فإني سأستوقف حدثي هنا.

ليكن الرب معك.

مع تحيات ألبيرت أينشتاين".

.

"اهاا.. إذ فهذه هي القضية".

لم أفكر قط في أن يأتي يوم يحدثني فيه أينشتاين عن هذه القضية، إذ لم يحدث ذلك في الماضي.

بدا أن التاريخ قد أخذ منحنى مختلفًا تماما، علمًا أن الحرب لم تبدأ بعد.

أما الآن، فلم يسعني إلا أن أتساءل عن ما علي فعله تاليًا.

إن ألقيت بالرسالة في الموقد كأن لم يحدث شيء فإن بدني سيرتاح، لكن عقلي سيظل مرهقًا.

لكن الخروج وفعل ما يطلبه مني لا يختلف عن نكز عش الدبابير، ومالذي قد يضمن لي أن أحد لن يطعنني في ظهري إتان ذلك؟

في وسعي أيضًا الإحتفاظ بالوضع الراهن من خلال التعامي عن الأمر برمته، مكتفيًا بوتوجيه إنتقادات بسيطة.

لكن حينها لن تحل القضية اليهودة ولن يتغير حال ألمانيا - ولابد أن تنزح منها العقول النيرة، وهو ما سيكون خسارة كبيرة.

وفوقها العالم بأسره قد لا يتغير.

كان لابد أن أصل إلى هذه النقطة في وقت ما، فأنا وحدي من يستطيع حل هذه المشكلة.

بما أني وصلت إلى هذا الحد، فلم لا أفعل شيئًا حيال ذلك؟

***

السادس من يونيو، عام 1933

خطبت بالأمة من القصر الإمبراطوري.

قبل ذلك كنت قد أعلمت وسائل الأعلام بأن لدي إعلانًا هام لأدلي به في هذه الساعة.

وأما الآن، فقد ترقبت كل منصات الأنباء في ألمانيا - ولربما في أوروبا كلها الكلمات التي سأتفوه بها.

"أيه الشعب الألماني المجيد، إني هنا اليوم وثمت ما أريد قوله لكم".

وقد تعمدت أن يوضع في طليعة الصفوف أشخاص من كل أنحاء ألمانيا، وقد أخبرو أن يردو على أسئلتي.

بيد أنهم لم يعرفو بشيء عن ما أنا موشك على قوله.

كمل لم يعلم أحد من أعواني المقربين بما فيهم جورينج وجوبلز وهيس وهيملر وهايدريش بشيء عن ما دفعني لحشد كل هذه الأذان.

لعل فضولهم فاق الجميع خلال هذه اللحظات.

لكني لن أصل إلى صلب الموضوع دون بعض البناء الدرامي.

"بداية، أود أطرح على الحضور الأفاضل هنا سؤلًا، أيه الشبان من أي الأرض أنتم؟".

"إني من بافاريا".

"أنا من مدينة كولونيا".

"أنا من ولاية ساكسونيا".

"هامبورغ..."

بعد أن توقفت الأجوبة، جاء الوقت لأسطع.

"ولد كل منا في مكان مختلف، كما تختلف وجوهنا وأعمارنا ولهجاتنا، وكل منا يعيش حياة مختلفة عن الآخر، لكن ثمت هوية أكبر تجمعنا.

أننا ألمان.

ولدت في مدينة صغيرة تدعى براوناو آم إن بالنمسا، مسقط رأسي هو النمسا، لكني ألماني، وذلك آتي من قناعتي.

كلنا ألمان، كلنا نحب هذه الأرض، لم تجمعنا اللغة والثقافة وحدها، أن تكون ألمانيًا يعني أن تفكر بالألمانية، أن تخلص لألمانيا، أن تبر الأرض التي بلغت أشدك عليها، فلم نسمح لجذور الكراهية أن تتجذر بيننا نحن الذين يحملون هذه الأفكار؟"

زفرت وقد كان جمهوري هادئًا.

حُبست أنفاسهم منتظرين ما أنا موشك على قوله.

"الألمان من الشرق إلى الغرب، يهودًا وآريين أو غير ذلك يعيشون في هذه البلاد، كلنا نحب هذه الأرض.

نحن جميعًا نتمنى السعادة، فلا يجب أن نسعى لسحق بعضنا، لا حاجة لنا بالكراهية وإحتقار الغير.

أتعرفون جميعًا ماهي ألمانيا؟ إنها أمة عظيمة، الأمة التي أنجبت بيتهوفن في الموسيقى، ونيتشيه في الفلسفة، وبيسمارك في السياسة، وفريدريش في الحرب.

لكن الكراهية ستفسد كل تلك الأمجاد، والجهل سيطمس كل ما عملنا بجد لبنائه، إن إستمر الحال فكل ما نسير نحوه هو البؤس والدمار، وسيكون دمارً صنته أيدينا.

وكيف لا وقد سقطنا مرة بفعل هذه الحماقة؟

إن لم نغير الوضع ونتآزر ونصلح ذات بيننا فإن التاريخ الألماني لن يتزحزح عن عام ١٩١٨، أهذا هو المستقبل الذي نطمح إليه؟

بفضل التطور التقني الذي بلغناه يستمع إلي في هذه اللحظات عشرات ملايين الألمان من كل أنحاء بلادنا الغظيمة وإن لم يكونو حاضرين هنا، لذا فإني أقول هذه الكلمات لكل من يستمع إلي: علينا أن نتحد كجسد واحد، إن الكراهية والعنصرية بذور حرثها من لا يرد نجاحنا.

ولك أن تدرك ذلك بمجرد التدبر فيه، أليس خيرًا لأعدائنا أن نكون منشغلين بالإقتتال في ما بيننا؟

هؤلاء هم من تخيفهم نهضة ألمانيا، إنهم العدو الذي يجب أن نواجهه حقًا، بما فيهم الشيوعيون ومن يتبعون إديولوجياتهم التي تدعو إلى تدمير الأمة، فلا تغرنك أكاذيبهم!

أمام خطرهم، مالذي تعنيه الكراهية العقيمة التي أشغلنا بها أنفسنا؟

كلي ثقة في تفوقنا كشعب، وفي أن الكراهية والجهل سيندثران عجلًا غير آجل، وسنرد بأيدينا قوة ألمانيا ونقطع كيد أعدائها، ولم؟ لأننا سنقاتل يدًا بيد، جميعًا من أجل مصلحة الأمة!

طالما أننا نبذل الغالي والنفيس معًا في ذلك فلابد أن يدوم الرايخ الألماني!

إن وطننا اليوم ينادينا، يحتاجنا نحن بنوه أن نكون متحدين كالبنيان المرصوص، لننبذ الجشع والكراهية العقيمة، ونستأصل الفقر ونقاتل لأجل ألمانيا العظمى.

بسواعدكم، ألمانيا ستغدو مجيدة لألف عامٍ وأكثر، ولا يساورني في ذلك شك.

إخوتي الأعزاء، بإسم الأرض التي تجمعنا، أدعوكم للقتال معًا ضد عدونا!".

صوت أعلى وأشرس من قذفة المدفع غمر الساحة، صيحات تشبه الأمواج العملاقة.

إنها هتافات جمهوري.

هتلر! هتلر! هتلر! هتلر!"

"هايل دويتشلاند! سيج هايل!".

ورغم أني أنهيت خطابي لم تتبدد الحماسة بعد.

في كل الزوايا، هتف الحضور يإسمي.

رفعت يدي ناحية الجمهور ونزلت من على المنصة.

***

"ما رأيك؟ أكان مقبولًا؟"

إستهدفت هيملر وجوبلز عمدًا بأنظاري إذ سألت باسمًا.

بدت وجوههم مقفهرة كأن ضربو بمطرقة علا رؤوسهم.

"خطابك اليوم سيسطر في التاريخ الألماني يا صاحب السعادة"..

لكنهم لم ينسو التملق.

"ما رأيك أنت يا هيدريش؟".

"أنا؟.. نعم، لقد كان خطابًا مذهلًا".

وحتى هيدريش الذي لا يظهر مشاعره بسهولة بدا متوترًا.

لقد كان من أكابر المروجين لنظرية المؤمرة اليهودية التي صرخت بعدم جدواها وأنها مجرد هراء يروج له الشيوعيون أمام ملايين الألمان اليوم.

وبذلك لن يجرؤ على التفوه بحرف في شأن القضية اليهودية أمامي أو خلف ظهري بعد اليوم.

إن لم يكن تكذيب ما قاله المستشار خيانة فماذا يكون؟ هذا ليس شيء سيفعله رجل ذكي كهيدريش.

وبالطبع لن تختفي معادات السامية ولا الإزدراء من القلوب، فهي كشروق الشمس من المشرق بالنسبة للألمان، وخطاب واحد لا يمكنه تغيير المسلمات.

سيكون العالم زهريًا لو كان خطاب واحد كفيل بإعادة البشرية إلى رشدها كما هو الحال في الروايات، لكن لسوء الحظ لم تكن هذه رواية.

فالبشر في الواقع أعند وأكثر تمسكًا بأفكارهم من ما قد يتخيلونه هم أنفسهم.

مع ذلك أعتقد أن هذا الخطاب كفيل بتبيين موقفي من الأمر، ما قد يوقف تفاقم معادات السامية علنيًا، على الأقل في الوقت الراهن -على الرغم من إستحالة إختفاء الإحتقار والإزدراء-.

لكن الأهم من كل ذلك هو أنه لافتة مناسبة لليهود ليتعلقو بها - أنظرو إلى هذا المستشار الذي قال كلمة إنصاف في حقنا!

وبذلك قد أحد من نزيف العمالة الألمانية والمواهب والكوادر الهامة كالعلماء والمهندسين والإطباء، وقد أتمكن من الإحتفاظ بهم في صندوقي المزخرف.

إن أحد أكثر أعمال النازيين سذاجة هي تهجيير وقتل اليهود المتعلمين والنافعين للأمة، والذين يبلغ تعدادهم الألاف.

ولن يأثر ذلك على التقدم التقني وحده، بل سيتسبب أيضًا في زيادة العلماء في كفة أعدائها بريطانيا وأمريكا لهربهم من النازيين.

الأمر كأن تطعم عدوك بيدك.

أي حماقة أكبر من إجبار فئة من العلماء والمتعلمين الهامين لإعادة التسليح على مغادرة البلاد وخدومة العدو؟ محال أن أسمح بذلك.

بما أني لازلت حيًا أرزق فأنا أرفض رؤية ذلك المشهد، إنه كرش التراب في عيني!

-نهاية الفصل-

أنا كسول، أنا متخاذل، أنا بطيء.. حسنًا، لن أعتذر عن ذلك، لكن سأحاول إكمال هذه القصة في أوقات فراغي كما سبق ووعدت.

2024/06/11 · 81 مشاهدة · 1449 كلمة
نادي الروايات - 2025