لفت خطابي إنتباهًا كبيرًا داخل وخارج البلاد.

وفي حين نظر البعض له بإجابية بإعتباره هامًا لهذا الجيل الذي إعتاد التمييز، إنتقده بعض الردكاليين معتبرين إياه تنقيطًا شيوعيًا.

ومع ذلك فإن الإستجابة العامة عدت مقبولة.

ومن ما لا يستحق الذكر أن هيندبيرغ الذي بدا مرهوب من ما قلته وغيره من رجال الجيش الذين لم يأيدوني من قبل أظهرو إتفاقًا بسيطًا مع دعوتي للوحدة.

وحتى فرنسا التي بدأت برفع لهجة نقدها لي منذ ليلة السكاكين الطويلة، أقرت أني قلت الصواب هذه المرة.

في حين كان الشيء الوحيد الذي أهمني هو أني سأرتاح من القضية اليهودية لفترة.

كان الحدث الذي أعقب هذه البلبة هو توقيع ميثاق عدم الإعتداء مع بولندا عام 1933.

قبلها كانت ألمانيا تخوض حربًا إقتصادية حامية الوطيس ضد بولندا.

ولابد أن بولندا قد تضررت من ذلك، لكن ألمانيا التي كانت في حال يرثى له لم تخرج من سالمة، وكان التراجع المستمر لسمعتها الدولية أكبر شاهد.

وكما حدث في التاريخ، لم تخدم إتفاقية عدم الإعتداء مع بولندا الإقتصاد الألماني فحسب، بل ساهمت كذلط في تحسين صورتها الدولية التي لم تتوقف أبدا عن الإنحدار منذ الحرب العالمية الأولى، وأظهر أنها مستعدة لفتح صفحة جديدة بعيدًا عن مظالم الماضب.

وهي كفيلة كذلك بجعلي أبدو زعيمًا مرنًا أمام الملء، إذ أنا مستعد للتفاوض مع من كانو أعداءً، وهو ما يناقض سلوك أسلافي من الساسة الألمان.

بولندا التي عانت ضربة موجعة إثر الصراع الإقتصادي قبلت مقترحنا بسهولة، وأمضت معنا معاهدة عدم الإعتداء.

على الرغم من عدم تطرق البولنديين للتعاون بين البلدين بسبب كبريائهم الجريح، إلا أن البهجة بدت عليهم حين إقترحنا ذلك.

"صاحي السعادة.. أرجو أن تعرف أني لست ضد قرارك بأي شكل من الأشكال، بيد أن أود تذكيرك أن إبرام هذا الميثاق لن يلق ترحيبًا كبيرًا بين الجيش وعامة الناس".

وكما في بولندا، قنط الألمان من هذا الميثاق بغض النظر عن إنتمائهم السياسي معتبرين إياه شكل من أشكال اللين مع العدو.

لم ينسو أبدًا سرقت البولنديين لأرض شاسعة من بروسيا.

إن وجدت أن الأمر صعب الفهم، ففترض أن كوريا التي هزمتها اليابان وأخذت الكثير من أرضها لا تزال تتودد لليابان، كيف سيكون رد الشعب الكوري؟

لابد أن تنتفض الأمة وتطالب بستقالة الحكومة، وضع في الحسبان أن كراهية الشعب الألماني لبولندا لا يمكن أن تقاس بالمعايير العادية.

بدا جورينج قلقًا حين ذكرني بهذا، لكني أجبته بهدوء :"توقعت ذلك، لكننا الآن نمتلك ماهو أكثر أهمية من الإستماع إلى إستهجان الشعب، إذ يجب أن تكون أولويتنا هي تحقيق التعافي الإقتصادي.. لا ترمقني بهذه النظرات، لا أنوي ترك بولندا تتهنئ بأرضنا طويلًا، سيأتي يوم نستعيد فيه ما أخذ منا، لكن لتحقيق ذلك علينا إخفاء نوايانا لفترة".

حين أخبرته بذلك أشرق وجه جورينج :" كما هو متوقع منك! إذا فما هذا إلى جزء من خطتك".

"وهل كنت تظن أني أرضخ للبولنديين؟ لابد أحيانًا من التارجع خطوة في سبيل التقدم خطوتين للأمام، وقبل التفكير بالحرب علينا إصلاح مشاكلنا الإقتصادية، أم أن عندك قولًا آخر يا وزير المالية شاخت؟".

"وبأي وجه أختلف معك؟": إبتسم هيلمار شاخت، وهو رئيس بنك الرايخ المركزي ووزير المالية بخجل حين سمع سؤالي.

وذلك لأنه منذ إندلاع الحرب التجارية الألمانية البولندية ظل شاخت يصر على أن الرسوم الجمركية الإنتقامية يجب أن يزاول فرضها على السلع البولندية.

ومع ذلك فقد عاد توقيع معاهدة عدم الإعتداء المتبادل بالمنفعة على الإقتصاد الألماني، وقد تزايدت الإستثمارات الأجنبية، وأصبحت الدول المتاخمة لألمانيا أكثر ليونة في تعاملاتها معها.

والآن حان وقت الإنتقال للمرحلة التالية.

***

"أشكركما على القدوم بهذه السرعة، تفضلا بالجلوس".

إبتسمت مرحبًا بالضابطين الذي قدما إلى مكتبي.

"أعتذر على إستدعائكما دون إخطار مسبق علمًا بمدا إنشغالكما".

"لا عليك سعادة المستشار".

الرجل ذو الشارب الذي هز رأسه نافيًا هو الجنرال أوزوالد لوتز.

واسم العقيد الذي يقف بجانبه هو هاينز جوديريان.

لربما ندر ما يُسمع عن لوتز بين مؤرخي العصر الحديث، لكن قل ما يوجود من يهتم بالتاريخ هذه الحقبة ولا يعرف جوديريان.

كلاهما قدم إسهامات كبيرة في تأسيس سلاح المدرعات الألماني، وخاصة جوديريان الذي عُرف في ما بعد بوالد حرب البرق الألمانية.

إذا نظرت إلى حجم أداء سلاح المدراعات الألماني خلال الحرب، تذكر إسهامات هذا الرجل فيه.

وبعد خمس دقائق، وصل وزير الدفاع بلومبرغ، وبذلك حضر كل من أحتاجهم لعقد هذا الاجتماع.

"دعوتكم إلى هنا اليوم لمناقشة الخطط المستقبلية لتطوير الدبابات الألمانية".

الدبابات زهرة الجيش وملكة الحرب البرية، ولا غنى عنها إن أردنا تحسين فاعلية الجيش الألماني.

على الرغم من تقييد معاهدة فيرساي لحيازة ألمانيا للدبابات، إلى أن ألمانيا ظلت غير مستعدة للتخالي عنهم، وعملت على تطويرهم سرًا بإعتبارهم 'جرارات زراعية' لتمويه الحلفاء، وقد دربو الجنود بدبابات مزيفة من الصفيح، ولم يتم إدخار جهد لتطويرهم.

من كان ليظن أن المدرعات التي طورت بشق الأنفس ستحظى بكل هذا الزخم عند إندلاع الحرب العالمية الثانية ولعبت دور البطولة في الأسطورة العسكرية الألمانية.

ولكننا الآن في عام 1934، ولازال الطريق طويلًا.

"على حد عيلمي يتم التخطيط لإنتاج دبابة المجهزة بمدفع 20 ملم مع الدبابة رقم 1 لتغطية نقص المدرعات، إضافة إلى خطط لبدء الإنتاج الضخم للدبابة من عيار 37 ملم ودبابة 75 ملم، أليس كذلك؟".

ولعلك خمت أن الدبابة المجهزة بمدفع عيار 20 ملم هي الدبابة Panzer2، والدبابة المزودة بمدفع رئيسي عيار 37 ملم هي Panzer3، والدبابة المزودة بمدفع رئيسي عيار 75 ملم هي Panzer4، ولم تحصل هذه الدبابات الثلاث على أسماء لائقة بعد.

"ثمت خطط لتطوير ثلاث نماذج دبابات حاليا: وهم دبابة مجهزة بمدفع عيار 20 ملم، ودبابة مجهزة بمدفع رئيسي عيار 37 ملم، وأخيرا دبابة دعم مجهزة بمدفع رئيسي عيار 75 ملم".

كنت أنوي تسخير معرفتي بالدبابات قدر المستطاع لتجنب أي "هدر" لا حاجة له.

لا يمكن النظر في أمر نموذج Tiger الذي لم يولد بعد، كما يتعين علينا أن ننتظر عامين آخرين حتى يتم تطوير Panzer4.

من الواضح المدرعات الألمانية التي غزت أوروبا لا تزال في مهدها، وأحدث دبابة متوافرة هي Panzer1.

"ذاك هو الحال سعادتك".

"على كل حال، جال في خاطري تساءل أردت أن أطرحه عليكم، هل من الضروري حقًا إنتاج الناذج الأربعة كلها؟".

لقد فكرت بالأمر طويلًا، ولازلت لا أرى حاجة لتطوير النماذج من Panzer1 إلى Panzer3 - إذ كانو مضيعة للمال والوقت.

لم يكن لهم نفع كبير إلا في حالات محددة للغاية، وبالنظر إلى ذلك من الأولى التركيز على تطوير Panzer4 التي أظهرت كفاءة أكبر في الحروب المستقبلية.

رأيي في هاذه القضية هو إستخدام نموذج Panzer1 الذي أنتج بكميات كبيرة سلفًا لأغراض التدريب، وصب التركيز على الدبابة الرابعة.

"حين ننظر إلى الأمر فإن الدبابة 1 ورغم أنها جيدة الصنع لا تتخطى حدودها، وقد تكون ذات قيمة في مواجهة المشاة، لكن مدفها الرشاش الذي هو كل تسليحها لن يكون له معنى أمام الدبابات الأخرى".

"هذا هو ما أعتقده أيضا": قال جوديريان في حين أومأ لوتز برأسه.

لقد أدركا أن الدبابة رقم واحد لن تكون ذات فائدة في مواجهة حروب الدبابات، وستكون أشبه بهدف ينتظر التصفية.

"لتسهيل الأمر أود تسمية الدبابة المجهزة بمدفع 20 Panzer2، من ما أعرفه فهي مجهزة بمدفع رشاش إضافة إلى مدفعها الرئيسي ما قد يجعلها أكثر فائدة من Panzer1، ولكن عندي تحفظات بشأن الإعتماد عليها في حرب حقيقية، فمن ما أره من الدبابات التي تعمل فرنسا والمملكة المتحدة حاليًا على تطويرهم، أجد أن كثير منهم يتمتع بصلابة وقوة مدافع تستطيع بسهولة سحق نموذج Panzer2".

إستمع الثلاثة إلى بإصغاء، وبدا أنهم منهمكون في التدبر.

"وكل ما بقي لنا هما الدبابة ذات مدفع عيار 37 ملم والدبابة بمدفع 75 ملم، ولنسميهم Panzer3 و Panzer4، في الخطة الأساسية يجب أن تتكفل الدبابة ثلاثة المجهزة بمدفع رئيسي عيار 37 ملم والتي تستوفي معايير حرب الدبابات بهذا الجانب بإعتبارها القوة الرئيسية، في حين ستكون الدبابة الرابعة المزودة بمدفع رئيسي عيار 75 ملم مسؤولة عن دعم الدبابة الثالثة والمشاة، لكن السؤال هنا، هل لهذا التقسيم ضرورة حقًا؟"

"ماذا تقصد بقولك يا صاحب السعادة؟": سأل بلومبرج.

"أعنيه حرفًا حرفًا، أهناك حاجة لتصنيف الدبابات إلى فئتين؟ علمًا أن ذلك قد يعيق الإنتاجية ويعقد نظامنا اللوجستي، قد يكون المدفع 37 ملم فعالًا في الوقت الراهن، ولكن مع إزدياد سماكة دروع الدبابات لابد أن تنخفض فعاليته حتى النصف، وذلك سيجبرنا على إستبدال مدفعها لاحقًا، ألن يكون من الأسهل والأوفر لنا إستخدام دبابة مزودة بمدفع رئيسي من عيار 75 ملم أول الأمر؟ تم تصميم Panzer4 لتحمل مدفع من عيار 75 ملم، لذا ستكون أكثر ملاءمة من Panzer3 حتى وإن زودت بمدفع أفضل".

أظهر أداء Panzer1 في الحرب الأهلية الإسبانية مدا قلة نفعها، وفي حين قدمت Panzer2 أداءً مقبولًا في الحملة البولندة، إلا أنها بدت مخزية خلال معركة فرنسا، إذ واجهت هناك أعداء ضخامًا كدبابة هوتشكيس (hotchkiss) الفرنسية وماتيلدا (Matilda) البريطانية، ولم تكن ندًا لهم.

على الرغم من أن أداء Panzer3 أفضل من سابقاتها، إلا أنها لم تتفوق على الدبابات البريطانية والفرنسية التي قابلتها خلال غزو فرنسا.

حين بدل مدفعها الرئيسي بمدفع عيار 50 ملم عام 1941 بدا أنها هبت على وجه الدنيا، لكن تمرطعها لم يدم طويلًا إذ سحقت على أيدي دبابتي T-34 وKV-1 الثقيلتين للإتحاد السوفيتي.

وبدا واضحًا أنه وحتى مع إستبدال مدفعها بآخر طويل الماسورة لم تكن أمامها فرصة لهزيمة صفوت الدبابات السوفيتية في معركة متكافئة.

في حين تم تجهيز Panzer4 بمدفع رئيسي عيار 75 ملم منذ البداية، لذا كان سهلًا تركيب مدفع رئيسي طويل الماسورة عليها عام 1942، ما جعلها تلعب دورًا مؤثرًا خلال الحرب بأكملها.

ما أراده ثعلب الصحراء روميل أكثر من الصليب الحديدي هو Panzer4 مجهزة بمدفع رئيسي طويل الماسورة عيار 75 ملم ومدفع مضاد للطائرات عيار 88 ملم، ولا عجب في ذلك إذ ظلت Panzer4 أقوى دبابات الجيش الألماني دونما منافس حتى ظهور نموذج Tiger.

ورغم أن سطوعها بات خافت بعد دبابة Tiger، إلى أنها ورغم إنتاجها في الثلاثينيات ظلت جديرة بالمحاربة دبابات ظهرت خلال الأربعينيات مثل T-34 و M4 Sherman.

ولا عجب أن أطلق الألمان على Panzer4 كنية "جواد الحرب".

ألن يكون تقليل الإعتماد على النماذج الثلاث الأولى والتكيز على 4 أول الأمر كفيلًا بحقن دماء الجنود؟

أظن أن الإعتماد على Panzer4 ليس خيار سيئًا في الوقت الحالي حيث من الجنون أن أطلب تطوير نموذج Tiger وأنا لا أفقه شيء في الميكانيكا، ولا أعتقد أن طلبي هذا سيلقى معارضة حقيقية.

ولعلي أخطأت في آخر نقطة.

"كلماتك رجيحة يا سعادة المستشار" أخذ بلوبرج رشفة من فنجان الشاي وأردف قوله "لكن..."

"لكن ماذا؟".

"ألا نستبق الأمور بالحكم على هذه النماذج الآن؟"

أوه؟

غريب، لم يكن هذا الرد الذي توقعته.

لم أظهر إندهاشي الشديد على وجهي وواصلت الإستماع إلى بلومبرج بهدوء.

"بالطبع لا أقصد تكذيبكم، لكني أود لفت النظر إلى أن الدبابات الثلاث لا تزال في مرحلة التطوير، ولم تصل بعد إلى مرحلة الإنتاج الواسع، وإذا ألغينا الخطط التي أعددناها لها بمجرد تخمين قبل إختبار معدنها الحقيقي فقد يتسبب ذلك في ربكة لمعامل التطوير".

"أشاطر المارشال رأيه، وإنه لشرف عظيم لنا أن أولى سيادتكم هذا الإهتمام الجم لمسئلة تطوير المدرعات، لكن تطوير الأسلحة يظل مسئلة لا يمكن التعاطي معها بالتخمينات، فهي عملية تتم بالتجربة والدراسة، والأخطاء الحالية تعود بالمنفعة على التطوير المستقبلي".

وحتى لوتز أعرب عن معارضته لرأيي.

"أرى مع كامل إحترامي أن الأمر بإقاف إنتاجهم دون تجربتهم مبالغ بعض الشيء، وحتى Panzer1 تستحق فرصة في القتال".

فحو ما حاولو إطلاعي عليه بطرق شتى هو: "أليس من التسرع وقف إنتاج نماذج لم تولد بعد؟ أليس الأمر كإجهاض طفل في رحم أمه؟".

أرائهم معقولة إن لم تكن مطلعًا على المستقبل، ولم أجد وسيلة لإنكارها.

"ما قولك أيها العقيد جوديريان؟".

نظرت ناحية جوديريان مستجيرًا برأيه، فهو الوحيد الذي لم يقل حرفًا بعد.

"أتفق مع رأي المستشار".

وقف جوديريان في صفي، ما أثلج صدري قليلًا.

لكن لجوديريان عيبًا صغيرًا.

رتبته.

"عقيد جوديريان، ألا تعلم أن تطوير الأسلحة لا يمكن أن يحدث في ظرف نهار بليلته؟ إنها مسئلة لا تتحمل التكهنات".

"أعي ذلك.."

أهلًا بك في الطبقية.

بلومبرج وزير الدفاع، في حين جوديريان مجرد عقيد.

وليس أمام جوديريان خيار سوى الخنوع.

بما أن هذه لعبة طبقية، فبإمكاني وأنا المستشار الألماني قمع وزير الدفاع بسلطتي، ولكن ذلك لم يكن خيارًا سديدًا نظرًا للعلاقة الراهنة بيني وبين الجيش إذ لا تزال علاقتنا تمر بمرحلة حساسة، وقد تنهار في أي لحظة.

إضافة إلى أن بلوبرج من كبار داعمي الحزب في الجيش، وبتدمير علاقتي به لا أساعد إلا الفصائل المعادية لي.

وبما أننا لم نتمكن من حل نزاع الأراء هذا بالنقاش وحده، قررت إحالة الأمر إلى مكتب الذخائر لينظر فيه.

وقد جاء حكمهم لصالح بلومبرج.

المسنون الأوغاد...

كان رفض مكتب الذخائر لفكرتي أعتى من بلومبرج.

لم يعترض مكتب الذخائر وحيدًا على الأمر، بل وأعرب جنرالات الجيش عن شكواهم في هذا الشأن، وقد تبين لي ببطئ أنهم فهمو نوايي للتدخل في شؤون التسليح خطأ على أنها محاولة لكبتهم وفرض سطوتي عليهم.

على الرغم من أني بريئ هذه المرة! اللعنة على اليونكرز..

حاول هيندنبورغ التوسط بيني وبينهم، إلا أنهم ظلو على عنادهم.

"معارضة الجيش شديدة، فهم يعتبرونها مسئلة شرف.. سعادة المستشار، أرجو منك أن تعاود النظر في هذه المسئلة".

"نعم، لربما عليك الإستسلام هذه المرة يا هتلر".

"... حسنًا.. سأحاول التعايش والتسليم في الوقت الراهن"...

يا ربي.. كيف إنتهت خطتي المثالية "لتطوير الدبابات المتكاملة" بهذا الشكل؟

وبعد أن ناقشت الأمر طويلا مع قيادات الجيش، كان أكبر تنازل إنتزعته منهم هو تأجيل البت في هذه المسئلة حتى يتم إختبار Panzer1.

لا يوجد ماهو سهل في هذه الحياة.

***

على عكس الجيش الذي كان عنيدًا كحبة جوز، أظهرت لوفتوافا (سلاح الجو الألماني) مرونة أكبر.

وبما أن الرجل المسؤول عن إنشاء القوات الجوية هو ساعدي الأيمن هيرمان جورينج، لم يكن هناك أيسر من التأثير عليهم.

المؤسف هنا هو إفتقاري للمعرفة بالطيران، ولم يكن لدي خيار سوى الإعتماد على أراء العاملين في هذا المجال لإنتقاء الأفكار الأكثر معقولية.

ولم يخذلني جورينج في هذا الصدد.

فجورينج الذي مر بتحول شامل من كرة -كما حاله في التاريخ- إلى رجل قويم في منتصف العمر، لم يدمن المورفين ولم يعاني زيدة الوزن جعلني أتساءل عما إذا كان هو ذاته جورينج الذي عرفته.

إستمع بإصغاء إلى أراء مرؤوسيه، وقدم ذات البن مداخلات مناسبة لفض النزاع بين مختلف الإدارات، وحرص على إقتياد المواهب المناسبة إلى الأماكن التي تناسبهم.

كما أنه منح الجنرال والتر ويبر فرصة، وهو الذي كان له خلاف في الأراء معه وهتلر.

"أنا أؤيد فكر الجنرال، ففي زمان جديد نجد أننا في حاجة إلى أساليب جديدة، ألست مصيبًا؟"

"بلى، هذا قول حكيم لا غبار عليه يا حضرة المستشار".

على نقيض معظم جنرالات القوات الجوية الذين غرتهم النتائج المباشرة التي يأتي بها القصف التكتيكي، آمن والتر ويبر بأن القصف الاستراتيجي قادر على تغيير قواهد لعبة الحرب، وعمل بدأب لتولد قاذفة قادرة على تحقيق رؤيته عن القصف الإستراتيجي.

بيد أنه توفي في حادث عام 1936، وبموته توقف تطوير قاذفات القنابل الثقيلة التي حلم بها.

لكن من أكون أنا؟

لست مجرد هتلر، ألم أكن قبل كل ما أنا عليه الآن مواطنًا كوريًا عاش وسط غمر المعلومات في القرن الواحد والعشرين؟

على عكس هتلر، كنت مدركًا لأفاق القصف الإستراتيجي، ما دفعني لدعم أراء ويبر.

"سأخطر جورينج بالأمر، إحرص على إبلاغي إن أعترض أي شيء عملك".

"شكرك يا صاحب السعادة! أعدك برد ثقتك هذه بالنتائج!".

بدا ويبر متأثرًا كأن عيونه ستفيض بالدمع في أي لحظة.

يا رجل، لا حاجة للبكاء الآن..

حسنًا، لربما لم يكن يتوقع أن يستمع له المستشار أصلًا. ولابد أنه غير قادر على كبح فرحه بأن دعمه.

كان وضع كريغسمارينه (البحرية الألمانية) التي حرصت على أن تولد أبكر من موعدها في التاريخ شائكًا بعض الشيء.

لم يكن ذلك بسبب كراهية للنازيين كما هو الحال مع الجيش، بل بسبب وجود خلاف شديد في الأراء، أقطابه إدمرال البحرية إيريك رايدر، وأنا.

كان رايدر مثلًا يحتذى به للجند وقائدًا وقورًا، لكنه ظل متعصبًا لفكر البحرية القديم الذي أحب تسميته 'تفجير الأموال عبثًا في البحر'، لذلك كنت أتوقع ألا أتفق معه.

"كلا.. بحقك أيه الإدمرال، كم مرة أخبرتك أن قيمة حاملة الطائرات أكبر من البوارج؟".

"بالطبع، وأنا أعي صحة كلامك أيه المستشار ولا أنكر حاجتنا إلى حاملة طائرات، لكن ذلك لا يغني عن البوارج التي هي حربة القوة البحرية، فما حاملات الطائرات إلا معاونة!".

عزائي فيه أنه لا زال مدركًا لقيمة حاملات الطائرات.

لكنه أزعجني بنقه المستمر علي بأن الأولوية للبوارج ويجب أن تكون حاملات الطائرات دعمًا لا غير.

"إن وجود سفينة حربية لا غنى عنه في تدمير العدو ونيل السيادة البحرية، أرجو منك أن تراجع قرارك يا سعادة المستشار!".

كانت نية رايدر هي بناء عدد كبير من البوارج والطرادات القتالية المسلحة بقوة نيران كبيرة لهزيمة العدو والسيطرة على المحيط الأطلسي.

لا أنكر أهمية البوارج، ليست في الحرب العالمية ثانية وحدها بل وحتى الستينيات، بل ظلت البوارج داعمًا هامًا للقوات البرية التي تهبط على الشواطئ بمدافعها العملاقة.

ولكن لها كبوة، إذا قمنا بحسب الوقت والأيدي العاملة ومصاريف البناء التي تحتاجها البارجة لا ضير أن نطلق عليها رزم المال العائمة.

حتى وإن بنيت بقدرة قادر، تظل تكاليف الصيانة الأساسية وحدها تشق الجيب، وحتى إذا وقعت حرب تظل أماكن نشاطها محدودة.

ولم تكن البوارج كلية القدرة إذ غرقت البارجة اليابانية ياماتو التي عدت الأقوى في عصرها على يد طائرات أطلقتهم حاملات أمريكية.

ورغم نجاح إغراق بارجة مهيبة مثل ياماتو، لم تتخطى خسائر أمريكا عشر طائرات.

إنه لبحق أداء مخزي مقارنة بالمال المدفوع عليه.

على عكس رايدر الذي ظل ينق عند رأسي بدا كارل دونيتز الذي أصبح عقيدًا بحريًا أكثر تقبلًا لكلماتي.

آمن دونيتز أيضًا بأهمية البوارج، لكنه كان مقتنعًا أن حاملات الطائرات لها فرصة أن تكون أكثر فائدة، فقد كانت البوارج مكلفة وإستخدامها محدودًا.

مشكلة دونيتز أنه مجرد عقيد ولن تحمل كلماته وزن كبيرًا، حتى أنه أصبح عقيدًا بفضل جهودي، إذ كان يجب أن يظل مقدمًا في الوقت الراهن.

في حين كان رايدر نقيبًا عتيقًا في الساحة، وتمت ترقيته إلى رتبة نقيب كبير عام 1936، إن استبدلت إدمرالًا مثله بعقيد رئيسًا للبحرية، لابد أن تعم الفوضى.

كما يقولون، تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن.

لا خيار لدي سوى محاولة وضع حل وسط بيني وبينه.

أشعر أن رأسي سينفلق..

-نهاية الفصل-

2024/06/13 · 73 مشاهدة · 2760 كلمة
نادي الروايات - 2025