الثاني من أغسطس عام 1934.

قضى بول فون هيندنبورغ المعروف عنه أنه بطل قاد بلاده للنصر المأزر في معركة تاننبرغ والرئيس الألماني الحال نحبه.

زرته مع حاشيتي قبل يوم من إنتقال روحه إلى البرزخ.

يقال أن هيندنبورغ الذي كان طريح فراش المرض حسِب هتلر الذي جائه القيصر فيلهلم الثاني، وناداه "صاحب الجلالة"، بيد أن ذلك لم يحدث.

"لقد أتيتك سيدي الرئيس".

"أهذا أنت؟".

بدا لي من كفاح هيندنبورغ أنه أراد الحديث معي بشدة بيد أن الأمر كان شاقًا عليه لإستفحال مرضه.

"كما ترى، أنا مقبل على الرحيل".

"سعادتك، أرجو منك عدم قول كلمات كهذه، فسرعان ما ستتماثل للشفاء وتقف ثانية كسابق عهدك".

"كلا.. إن هذه نهايتي وأعي ذلك جيدًا فأنا أعلم بجسدي... لقد عشت كفايتي فلا أخاف الموت.. بيد أني حسرتي الوحيدة هي أني لن أرى ألمانيا تقف مجيدة ثانية قبل وفاتي...-"

بقوله تلك الكلمات إنهار هيندنبورغ، وهرع الطبيب لتفقد حالته ما أنهى محادثتنا.

ولم يكن أمامي إلى أن أترك كلمات وداع وأعود أدراجي.

وفي اليوم التالي زفت إلي أخبار وفاته.

وكانت كلماته الأخيرة هي :"جلالة القيصر، ألمانيا".

وقبل وفاته، ترك لي وصية أشاد فيها بعملي وتفاني، وأرفقها بطلبه بأن يُعاد القيصر فيلهلم الثاني الذي كان منفيًا في هولندا إلى العرش الألماني بعد وفاته.

ولا داعي لأن أوقل أني لم أمتلك أدنى نية لتنفيذ وصيته المزعجة.

مُطْلَقاً.

لقد مت ميتتًا شنعاء في تجربتي السابقة على أيدي هؤلاء اليونكرز الملاعين، أتعتقد أني نسيت مظالمي؟

وعلى أي حال، ليست للقيصر أي قيمة في ألمانيا، لو كنا في القرن الواحد والعشرين لنظرت في إعادته، إذ سيكون تواجده مفيدًا لجذب السياح وبيع التذكارات، لكن بما أننا في ألمانيا عام 1934 فإن وجوده حرفيًا بلا معنى.

لماذا يجب علي أن أكرم رجلًا أبرز أعماله تخريب بلاده ومن بعدها الهرب منها؟ فمالذي قدمه القيصر للأمة؟

لن يكون لألمانيا قيصر وأنا على قيد الحياة.

ألمانيا لا تحتاج قيصرًا، إنما تحتاجني أنا، أدولف هتلر.

أقيمت جنازة هيندنبورغ مع تأبين رسمي، وبعدها قررت أن أخطو نحو كرسي رئيس الوزراء الألماني.

وبذلك صرت رئيسًا.

***

كان أخذ السلطة التي تركها هيندنبورغ وأنا الرجل الثاني في السلطة هينًا كشربة ماء، ولم يتطلب أكثر من إستفتاء.

وعندما عينت نفسي زعيمًا للبلاد جامعًا بين منصبي الرئيس والمستشار، قمت أولاً بفسخ معاهدة فرساي وأعدت التجنيد الإجباري.

أصبحت القيود على توسيع الجيش وحيازة الأسلحة التي فرضتها معاهدة فيرساي جزءً من الماضي، وستلم جميع الرجال الألمان الأصحاء إخطارات تلزمهم بالخضوع لإختبار التجنيد.

أثار إعلان ألمانيا علنًا عن عزمها إعادة التسليح جدلاً عظيماً، ليس على الصعيد الداخلي وحده، بل وأيضاً في مختلف أنحاء العالم.

بغض النظر عن بيانات الإدانة من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا إجتمع زعماء البلدان الثلاث أيضًا في ستريسا الإيطالية واتفقوا على تأسيس حلف مشترك ضد أي مطامع ألمانية محتملة، وسمي بـ "جبهة ستريسا".

لكن ذلك لك يقلقني.

كنت أعرف أن كل ما أجاده هذا الثلاثي هو المهاددة بصوت عالٍ، فلم تكن لأي منهم أدنى نية في خوض الحرب.

وما أثبت ذلك هو إمضاء بريطانيا للمعاهدة البحرية الأنجلو-ألمانية معنا بعدها مباشرة في يناير 1935.

ومن ذلك نرى أن بريطانيا لتي أرادت تحاشي أي صراع مسلح مع ألمانيا ما أمكن، حاولت إجراء اتصالات مع ألمانيا ولم تبخل سبيلًا لإسترضائها رغم حلف ستريسا الذي تظاهرت فيه بالصلابة.

وكانت خلاصة المعاهدة البحرية الأنجلو-ألمانية السماح لألمانيا بإمتلاك السفن شريطة أن لا تصل لـ 35000 طن كحد أقصى، لكنها سمحت للبحرية الألمانية ببناء سفن حربية تصل سعتها إلى 35% من إجمالي سعة السفن الرئيسية التابعة للبحرية الملكية.

ونتيجة لذلك، تمكنت ألمانيا من كسر القيود التي كانت مفروضة عليها وتطوير سفنها بطريقة مشروعة.

عندما لوحت لرايدر بالمعاهدة البحرية الأنجلو-ألمانية، أصبح وهو الذي كان عنيدًا في تقبل أرائي في ما مضى الآن وديعًا.

حبه للبوارج لا يمكن أن يقاس.

وعلى الرغم من أني أكره ضيق أفاق رايدر إلا أني نويت الإحتفاظ به لأطول فترة ممكنة.

أنا أقر بأهمية المقدرة، بيد أن سببي لم يكن له علاقة بها هذه المرة، بل كان في الأساس لأن رايدر الذي كان مخلصًا للملكية شارك في محاولة إنقذني من الحبس في قبو أفير وأراد تهريبي متن غواصة يو.

ومع ذلك، باءت محاولته بالفشل لأن اليونكرز إكتشفو مخططه وأعدم بتهمة "الخيانة".

ومثل رايدر فإن دونيتز الذي كان مواليًا للملكية لكنه ظل مخلصًا لي لقي نفس المصير.

حتى الحيوانات ترد الجميل، ناهيك عن البشر.

"ما قولك في الشراب؟"

"إنه أفضل ما ذقت منذ وقت طويل".

لقد دعوت رايدر لتناول العشاء عندي حتى يتسنى لنا أن نجري محادثة صادقة.

كان النبيذ الذي أشاد به رايدر للتو هو النبيذ عالي الجودة تم إستراده حصريًا من شاتو لافيت روتشيلد الفرنسية.

وبما أنني لا أفهم في النبيذ، طلبت منهم أين يحضرو أغلى نبيذ متوافر، وكما هو متوقع فإن للمال عبقًا خاصًا حتى في الخمر.

هو ليس الأغلى دونما سبب.

وبينما كنت أقطع شريحة لحم عجل مشوية جيدًا على نار متوسطة - وهو طبق أوصى به جورنج بشدة - تملكتني الرهبة.

"كما يعلم الأدميرال، تفتقر ألمانيا حاليًا إلى المال الوفير، وهو أمر مؤسف إذ أن هناك الكثير من ما علينا فعله، لكن الميزانية تقيدنا".

"أعي ذلك".

يعمل وزير الاقتصاد هيلمار شاخت ليل نهار لإنعاش الإقتصاد، وعلى الرغم من جهوده الحثيثة تظل البلاد في حاجة إلى المال.

وبما أننا نفتقر إلى المال، فليس لدينا خيار سوى استخدامه بحكمة وإقتصاد، لكن السفم الحربية والإقتصاد لا يجتمعان، فالسفن تتطلب مبالغ فلكية لتطويرها.

بصراحة من الممكن إنشاء الأسطول العظيم الذي يحلم به رايدر، لكن ذلك يتطلب التخلي عن الفيرمخت ولوفتوافا.

"لا نستطيع وضع كل ميزانيتنا على بناء السفن وحدها، فنحن في حاجة كذلك إلى الغواصات والمدمرات، وأن نحتفظ بما يكفي من المال لإطعام جندنا النقانق، كما ترى فإن مصاريفنا لا تكاد تنتهي، أم تظن أنني أكره السفن الحربية؟ ماعاذ الله، لولا ضيق جيبي لوددت أن نحصول على كل أشكال البوارج على وجه البسيطة".

"هيهيهي..."

على الرغم من أنه عجل، إلا أنه يظل بقرة، ما دفعني للتساءل عما إذا كان طعمه سيكون مختلفًا عن سائر أنواع اللحم البقري، وقد كان كذلك فعلًا، إذ من الواضح أنه أكثر ليونة وأحلاوة من لحم البقر العادي، كما أنه مليء بالعصارة... أنا مستعد للموت لإرضاء لساني هكذا.

(تعليق المترجم: عجزت أعرف الأخ دكتاتور ولا ذويق أكل)

"ونظرًا لوضعنها، فإني أرى أن نفعل الأمر بهذه الطريقة".

وعندما رأيت أن الوقت بات مناسبًا شرحت لرايدر خطة تطوير البحرية المعروفة باسم الخطة "Z".

شملت خطة Z الأصلية بناء 10 بوارج، و3 طرادات قتالية، و4 حاملات طائرات، و12 سفينة حربية سطحية، و5 طرادات ثقيلة، و35 طرادًا خفيفًا، و68 مدمرة، و249 غواصة يو، و90 زورق طوربيد.

وغني عن القول أن ذلك بعيد عن كونه معقولًا.

لذا فإني قد عملت بجد لمراجعة هذه الخطة المجنونة حتى أجعل منها أكثر معقولية، ونتيجة لجهودي تم تقليص الخطة Z بشكل كبير وأصبحت أصغر حجمًا من نظيرتها التاريخية.

"سنعمل على 4 بوارج و8 طرادات ثقيلة و16 طرادًا خفيفًا و40 مدمرة و300 غواصة، في حين تظل حاملات الطائرات وزوارق الطوربيد كما في مسودة الخطة، ما قولك؟".

"···أليست الغواصات أكثر من اللازم؟"...

"أدميرال، ألا تتذكر حجم إسهامات غواصات يو في الحرب الأخيرة؟ كنت أخطط أصلا لجعلهم 500 غواصة، ولكني أضررت إلى نقليص العدد، لكن إن كنت تعتقد أن ذلك يظل غير مناسبِ-"

"لا بأس، أتفهم ذلك".

يبدو أن رايدر لم يعجب بخطتي حقًا، لكنه قبلها على أي حال، من الجيد أنه ليس رجلًا معميًا عن الواقع تمامًا.

"في الواقع، ما يقلقني الآن هو ما إذا كنا قادرين على إتمام الخطة في الوقت المناسب، لقد مر وقت طويل منذ أن قام مهندسونا بتطوير القطع البحرية كما ينق الجيش والقوات الجوية عند رأسي بشأن مبالغتي في ميزانية البحرية".

"أعرف ذلك، وأنا ممتن لأن فخامة الرئيس يفكر كثيرًا في البحرية".

"لكم يسرني تفهمك هذا".

***

بعدها بفترة قررت إلقاء نظرة على مجريات عملية تطوير الدبابات.

تم إنتاج النموذج الأولي لـ panzer2 التي تقرر تطويرها رغم معارضتي بنجاح بفضل جهود قادة الجيش.

كما أظهرت نتائج إختبار النماذج الأولية عدم وجود مشاكل فتمت إحالتها للإنتاج الضخم.

لكني لم أستسلم تمامًا عن رأيي، فبعد أخذ وشد طويل مع قادة الفيرماخت، اتفقنا على إنتاج 500 دبابة فقط من هذا الطراز، ووقف إنتاج Panzer1 كليًا اعتبارًا من ديسمبر 1935، وهو الوقت الذي يبدأ في الإنتاج الضخم لـ Panzer2.

وأما Panzer3 التي علق عليها الجيش جُل توقعاته فلم يكن تطويرها سلسًا كـ Panzer2.

تم إكمال نموذج Panzer3 الأولي في ديسمبر 1935، ولكن نظام التعليق الزنبركي اللولبي عليها واجه مشاكل عديدة مما جعل قيادتها شبه مستحيلة.

قام مكتب الذخائر باستبدال نظام التعليق الزنبركي اللولبي بتعليق زنبركي ورقي وغير الاسم الرسمي لنموذج الدبابة من TypeA إلى TypeB لإنشاء نموذج أولي ثاني، ولكن هذا النموذج أظهر مشاكل بدوره.

"فشل آخر؟"

"آسف سعادتك... فذاك هو الحال- لكنا نعدك أن المرة القادمة ستكون مختلفة إذ فهمنا معظم المشاكل التي تواجهها الدبابة"..

ابتكر المهندسون نموذجًا جديد وهو TypeC وقد أصلح العديد من مكامن الخلل في أسلافه، وهو الذي كنت قادمًا لرؤيته اليوم.

لكنه كان مخجلًا تمامًا.

رفيقنا C لم يعاني من أعطاب طفيفة كما الحال مع كل من A و B، فقد كان أسوأ من كليهما. إذ بمجرد أن يزيد عليه الحمل يشتعل محركه.

إنها دبابة طازجة وخارحة للتو من المصنع.

"هل كنت تخطط لإرسال جنودنا إلى الجبهة على متن هذه العلة؟"

"من فضلك سيدي الفوهرر... ما هذا بكل شيء..."

"لا بد أن يكون بها خطب ما.. لذا، إن منحنا المزيد من الوقت والميزانية قد نتمكن من إصلاحها-"

"هل تعون أن هذه هي ثالث مرة أسمع فيها هذه التحججات؟ كم من الفرص تريدون أن أهدرها عليكم؟ ماذا ستفعل إن فشلت ثانية، هل ستبتلع قمامتكم هذه المزيد من ميزانية البلاد؟".

لم أضيع الفرصة لتأطير مكتب الذخائر وفي النهاية ربحت هذا الصراع.

تم إيقاف تطوير Panzer3، ونتيجة لذلك لن يظهر الدبابة في هذا العالم بعد الآن.

بما أن Panzer3 قد ألغيت ظلت Panzer4 هي الأمل الأخير للدبابات الثقيلة، وقد كان من المقرر أن تكون تحت إشرافي شبه الكامل مع مراعاة تطوير الأجيال التالية من الدبابات.

"يجب أن يكون درعها الأمامي بسمك 80 ملم، ومقدمة البرج 50 ملم، أن تكون جوانب ومؤخرة البدن وظهر البرج 30 ملم، كما لا تقل سرعتها القصوى عن 40 كم في الساعة، وأن لا يتجاوز الوزن 26 طنًا، فهل يمكن القيام بذلك؟".

"ممكن، ولكن ذلك سيختلف عن الخطة الأصلية بعض الشيء وقد يتطلب مزيدًا من الوقت، ألا بأس بذلك؟".

"لا بأس، سيكون رائعًا لو كان من الممكن أن نراها مبكرًا لكنني أعي صعوبة الأمر، خذ وقتك لكن المهم أن تنشئ الدبابة المثالية هل تفهم؟".

"مفهوم".

لم أكن أخطط لإنشاء Panzer4 وحدها، بل خططت أيضًا لإنشاء نماذج مشتقة منها.

في الوقت الحالي أكتفيت بخمسة: دبابة ذاتية الدفع، ودبابات الإنقاذ، ودبابات الجسور، والدبابات الهجومية، والدبابات المضادة للطائرات.

في الأصل هناك عدد لا يحصى من متحورات Panzer4، لكن أدوارها وأدائها غالبًا ما يتداخل، مثل Panzer4 ذات المدفع الهجومي، Panzer4 مدمرة الدبابات إلخ..

لم أكن أخطط لإتفتاح بوفيه، ولم يكن جيدا أبدًا إستهلاك الوقت والخبراء لإنشاء أنظمة أسلحة ذات أداء متماثل..

وجدت أنه من الضروري منع ذلك مقدمًا، إذ أن الفوضى لن تعقد النظام اللوجستي العسكري فحسب، بل لها كذلك تأثير سلبي على الإنتاجية.

إذا كان نهج ألمانيا في التاريخ إنشاء كميات صغيرة من أصناف شتى، فإن نهجي هو إنتاج أصناف صغيرة بكميات كبيرة.

بعد أن تلقو التهزيء بسبب أداء Panzer3، بذل مهندسو قسم الذخائر قصارى جهدهم للعمل على Panzer4.

بالإضافة إلى ذلك، أستثمر في Panzer4 كل رأس المال والقوى العاملة التي كان من المفترض أن يتم استثمارها في تطوير وإنتاج Panzer3، لذلك إزدادت سرعة التطوير سريعة بشكل مدهش.

ظهر أول نموذج أولي لـ Panzer4 في مايو 1937، وبعد أن رأيته لم أستطع إلا التنهد بإرتياح.

"نعم، هذه هي، هذا ما أردته تمامًا!".

كانت أمام عيني الآن دبابة Panzer4 من نوع F1 التي لم تظهر حتى عام 1941.

الجنرالات والفنيون في قسم الذخائر الذين ظلو على أعصابهم مراقبين ردة فعلي زفرو بإرتياح برؤيتي هتافي.

أي شخص يراهم سيحسب أنهم نهم من براثن الموت توًا.

غريب فلم أكن أنوي قتلكم يا رفاق.. هل سمعتي سيئة إلى هذا الحد؟

"بوركت جهودك، يبدو أنك لم تنم جيدًا، لقد قمت بعمل تشكر عليه".

"شـ... شكرا لك سيدي الفوهرر..."

اقتربت من الفنيين الذين كانوا يتعرقون بغزارة ويمسحون وجوههم بالمناديل ومدحتهم واحدًا واحدًا.

"الآن كل ما ينقصنا تغيير المدفع الرئيسي إلى مدفع أكبر وأقوى".

"نعم؟ ماذا قلت سعادتك...؟"

شحبت وجوه المهندسين كما لو أنهم رأوا عفريتًا.

لما الذهول؟ كنت فقط أقول ما هو واضح.

مذاق المخبوزات أفضل حين تعجن جيدًا.

-نهاية الفصل-

ألا يزال أحدهم يقرأها معي؟ :)

2024/06/20 · 79 مشاهدة · 1929 كلمة
نادي الروايات - 2025