ستغزو إيطاليا أثيوبيا بعد شهرين .
لإيطاليا سوابق في إثيوبيا عام 1894، أي قبل أربعين عامًا.
حيث تجرعت هزيمة مذلة، وغادرت الأرض بوصمة عار بإعتبارها أمة أوروبية هزمت على يد دويلة أفريقية.
موسلوليني الذي كان يطمح بتأسيس إمراطورية رومانية ثانية أراد غزو أثيوبيا لمحو هذا العار الذي خلفته الحرب السابقة ولإظهار معدن أمته على حقيقته.
إضافة إلى ربط إيرتريا والصومال بالأراضي الأثيوبية ما يمنح إيطاليا الموارد التي تحتاجها لإنعاش إقتصادها.
بصراحة إذا كانت إيطاليا راغبة في إنعاش إقتصادها حقًا، فلعل أفضل نهج هو تقليل إنفاقها العسكري، وبالتالي الإبتعاد عن الحروب وغيرها من أعمال العنف، وبطبيعة الحال لم يكن هذا النهج المتريث سلوكًا 'إيطاليًا'.
"ستغزو إيطاليا إثيوبيا في غضون شهرين إلى ثلاثة أشهر نظرًا لقواتهم المنتشرة في أراضي الصومال وإيرتريا، ريبينتروب، أريدك أن أن تذهب إلى أثيوبيا وتبلغهم برغبتنا في بناء علاقة ودية معهم قبيل ذلك".
"مفهوم حضرة الفوهرر، لكن ثمت ما أود الإستفسار عنه إذا سمحت لي".
"تحدث".
"مالذي سنربحه من إثيوبيا؟ أهناك سبب يدفعنا لمبدرتها بالود؟".
شكوك ربينتروب منطقية، ففي نظره لا سبب يدفعنا للتودد لأي أمة حاليًا، ناهيك عن بلد أفريقي بعيد لا تُرى فيه أي منافع بادية.
ريبنتروب سياسي، وفي السياسة لا وجود لمفهوم العطاء بلا أخذ، وسأكذب إن إدعيت أني أختلف عنه.
"بداية، أود أن نحثها على مقاومة إيطاليا بشراسة علها تستنزف أكبر قد من الموارد الإيطالية، فهي مسألة وقت قبل أن تصبح إيطاليا عقبة في طريق التنمية الألمانية.
وسببي الثاني هو 'الدعاية' - بإظهارنا موقفًا طيبًا تجاه أمة مستضعفة كإثيوبيا فإن الأمم التي في حال مقارب لها ستنظر لنا بإستحسان وهو ما سينفعنا على المدى الطويل، فنحن لا نمتلك الكثير من الأمم الصديقة، فمن بريطانيا وفرنسا إلى بولندا والسوفييت تطول قائمة أعدائنا، وفي حال كهذه لابد أن نحسن سمعتنا عند الأمم الأخرى ما أمكن".
"ولكن.. ما مقدار المقاومة التي تستطيع إثيوبيا حشدها؟".
"صدقت، من هذه الناحية أنا لا أملك أي تطلعات كبيرة في هذا الشأن، لذا ما أعول عليه أكثر هو الصورة الحسنة التي سنكسبها من خلال تلطيخ إيطاليا، ودعني أشرح لك الأمر بتفصيل أكبر.
بدأ المجتمع الدولي يرمقنا بنظرات الريبة منذ أن إستعدنا لؤلؤتنا - الراينلاد، لكن ببدأ إيطاليا لعدونها على إثيوبيا فإن الأنظار ستقع عليها، وإن إنتهزنا الفرصة لإظهر الدعم للضحية وهي إثيوبيا فسنكسب منفعة دبلماسية جيدة، ولعها لتكون بداية غسيل صورتنا.
وأخيرًا لا ضير من علاقة طيبة مع إثيوبيا إذ أنها غنية بالموارد الدفينة بما فيهم خام الذهب والحديد، وعلاقة طيبة بها تعني كسب هذه السلع التي تحتاجها ألمانيا بأسعار زهيدة، لكن ذلك سيتطلب بعض الوقت".
عندها سطع وجه ربينتروب المقفهر أخيرًا.
لا زال الشك باديًا عليه بعض الشيء، لكنه بدا أكثر إرتياحًا.
"حسنًا سيدي، سأذهب إلى أثيوبيا".
***
"كيف تسير الإستعدادات لغزو إثيوبيا؟".
سأل الدكتاتور ورئيس الوزراء الإيطالي بينيتو موسوليني المارشال بيترو بادوليو الذي كان أكبر منه سنًا بكثير بقدر من التعجرف.
وعلى الرغم أن بادوليو لم يعجب بموسوليني وغطرسته إلا أنه ظل مهذبًا أمامه.
"بالطبع حضرة الدوتشي، كل شيء يسير كما هو منصوص عليه في الخطة".
"هذا ما ينبغي أن يكون، إذ لا مكان للفشل في سراط إيطاليا العظمى، علينا بسحق هؤلاء الهمج هذه المرة وغسل عارنا".
"سأضع ذلك في الحسبان".
"لقد أعرب جلالة الملك عن مباركته للحملة، إذا كللت بالنجاح لابد أن تسطر أسمائنا في التاريخ الإيطالي، ألا يدعو ذلك للفخر؟".
"بلا دونما ريب".
هبد لا أكثر.
شمت بادوليو سرًا من موسوليني، في نظره لم يكن أكثر من رجل يمثل دور القيصر.
كل ما أراده هو أن يعتق من محاضرات هذا الرجل، فثمت كثير من العمل في شأن الأحملة الأثيوبية مكدس على مكتبه.
"لعل عندك الكثير من العمل لتنجزه، لك أن تنصرف".
غادر بادوليو الذي حصل على الإذن المقر بخطوات سريعة.
على الرغم من أنه إعتقد أن خطاب موسوليني اليوم لم يكن بالطويل إلا أنه وجده ثقيلًا على الفؤاد بالقدر ذاته.
وحين عاد إلى مكتبه إستقبله مساعده بأحترام :"بورك عملك الجاد يا صاحب السعادة".
سلمه بادوليو معطفه وقال بشيء من الإرهاق :"لا علم لي بكم من الوقت أستطيع الإستمرار في الإستماع إلى أوهام هذا الرجل.. على كل حال يجب أن أعود للمقر على عجل، سأستحم ثم أروي ظمأي بالنبيذ".
.
حين غادر بادولو ظل موسوليني وحيدًا في مكتبه يحملق بخريطة العالم المعلقة على الحائط بإسهاب بالغ.
بدت له الأراضي التي تهيمن عليها إيطاليا بالغة الصغر على الخريطة.
ثم وقعت أنظاره على أثيوبيا.
في نظره إثيوبيا التي يقطنها سود غير متحضرين محال أن تقارع الجيش الإيطالي.
مالهزيمة الماضية إلا نتاج للصدفة وسوء الحظ، وهي الآن مسألة وقت حتى يرفع العلم الإيطالي في سماء أثيوبيا.
وهذا هو ما ينبغي أن يحدث.
وبعد إثيوبيا ستكون ألبانيا هي التالية، إنها شبه تابعة لإيطاليا من الناحية الإقتصادية، وأمة بجيش زهيد مثلها لن تكون قادرة على المقاونة.
ولن يتوقف الأمر عند ألبانيا، فبعدها يوغزلافيا، ومن ثم اليونان وحتى تركيا والنمسا، كلها أراضٍ يجب أن تنتمي لإيطاليا العظمى.
بذلك فقط له أن يزعم بفخر أن مهمة إحياء "الإمبراوطورية المقدسة" قد قطعت شوطًا.
في حين تمكث بريطانيا وفرنسا وألمانيا عقبات أمام تحقيق هذه الرؤية إلا أن التغلب عليهم ليس مستحيلًا، بل ممكن لهذه الأمة التي ولدت من نسل الرومان.
"وأنا دوتشي إيطاليا، سأقف على قمة هذه الأمة العظيمة".
وحتى هذه اللحظة. لا زال موسوليني متشبثًا بحلمه في بناء إمبراطورية رومانية جديدة.
***
"أنا يوخايم فون رببنتروب، شرف كبير أن ألقائك، جلالة الإمبراطور".
"لي الشرف أيها الوزير ريبنتروب، نورت إثيوبيا" .
كان إمبراطور إثيوبيا هيلا سيلاسي ومترجمه أول من إستقبل ريبنتروب وصافحه.
"أنا رئيس الوزراء ميكونين إندلكاتشو تسرني مقابلتك".
عادة ما يستيقبل رئيس الوزراء إندلكاتشو الوفود الرسمية ولا يحضر الإمبراطور بنفسه مثل هذه المراسم إلا ما ندر، لكن وفد اليوم لم يكن خفيض المستوى.
فلم يكن ضيفهم دبلماسيًا من بلد فقير في أمريكا الجنوبية - بل كان وزير خارجية ألمانيا أحد أكبر الدول الأوروبية.
ألم يكن ريبنتروب من المقربين لهتلر؟
مالذي جاء به إلى إثيوبيا؟
أصر سيلاسي الذي أصابه الفضول على إستقبال ريبنتروب شخصيًا للتحدث معه.
"تفضل، لابد أنك مرهق إثر الرحلة الطويلة".
"كلا، لقد كانت رحلة مريحة".
بعد أن جلس الرجال ثلاثة أخيرًا قدم خادم في القصر القهوة والأشربة ومن ثم غادر الغرفة، ومن بعدها دار الحديث الأساسي بينهم.
كان إندلكاتشو أول من تحدث قائلًا :"أمل أن لا تأخها على أنها إهانة، بيد أني سأكون ممتن لك إن أجبتني بصدق، مالذي قد يأتي بوزير الخارجية الألماني إلى هذه الأرض البعيدة؟".
"أتيت بتوكيل من الفوهرر يا رئيس الوزراء، لقد أمرني بنقل رسالته إلى جلالة الإمبراطور": بذلك أخرج ريبنتروب ظرفًا به رسالة بخط يد الفوهرر أدولف هتلر، وقدمها إلى الإمبراطور الإثيوبي.
قبل سيلاسي الرسالة، وأحالها إلى المترجم الذي قرأها عليهم، وقد إتسعت أعينهم شيئًا فشيئًا أثناء الإستماع في صمت تام.
"كنا نتوقع عدوان إيطاليا، ويبدو أن لألمانيا الرأي نفسه"..
زفر سيلاسي بعد قوله لذلك، لم تكن إثيوبيا مغفلة كما لم تكن معمية عن تحركات الجيش الإيطالي في إيرتريا والأراضي الصومالية.
ولكنها إمتنعت عن تقديم إحتجاج دوبلماسي إذ أن هذه التحركات لم تتحول إلى إعتداء بعد، كما لن يوقف الإحتجاج تحركات إيطاليا.
ستندلع حرب عما قريب، ولابد أن تدفع إثيوبيا أثمانًا باهظة.
إقفهر وجه إندلكاتشو، كما لم يكن سيلاسي في مزاج أفضل منه.
لم تقتصر الرسالة على أخبار دنو العدوان الإيطالي، لكنها تضمنت كذلك وعد هتلر بأن تدعم ألمانيا إثيوبيا في محنتها.
قد لا تتمكن ألمانيا من الإسهام بشكل مباشر، إلا أن مجرد إستعدادهم لتقديم الذخيرة والسلاح والقنابل اليدوية وغيرها من الإمدادات للجيش الإثيوبي كان كفيلًا بمفاجئة كل من سيلاسي وإندلكاتشو وحتى المترجم.
"أهذا حقيقي يا سعادة الوزير؟".
"الفوهرر لا يكذب، إن قال أنه فاعل فسيفعل": بذلط رشف ريبنتروب من القهوة المقدمة إليه.
مذاق القهوة لم يخيب أمله فهو غني كرائحتها العطرة، كما كانت أفضل من القهوة البرازيلية التي إعتاد إحتسائها في ألمانيا.
بديهي أن تكون القهوة بهذه الجودة في بلد إشتهر بالقهوة.
بعد أن رأى أن ريبنتروب فرغ من كوبه وأعاده إلى المنضة سأل سيلاسي :"إننا ممتنون لدعم فوهرر بلادكم، لكن لا يسعني إلا أن أتساءل عن ما نستطيع تقديمه بالمقابل، إذ لا أعتقد أن بلادنا قد قدمت أي إسهامات لألمانيا في ما مضى".
ذكر هتلر في الرسالة أن دعمه لإثيوبيا هو لتأثره بالبسالة التي أظهروها ضد الطليان في الحرب الماضية، كما يأمل بناء علاقة ودية طويلة الأمد معهم.
يالها من كلمات جميلة، لكن سيلاسي لم يكن مغفلًا ليصدق أنها كل الحقيقة.
لذا، ماهو المقابل الحقيقي الذي يريده الألمان؟
كانت هذه أهم نقطة بالنسبة له، فرغم أنهم في أمس الحاجة للدعم في حال غزو إيطاليا للبلاد، إلا أن ذلك يتوقف على ما إذا كان ما تريده ألمانيا بالمقابل معقولًا، فلا شيء مجاني في هذا العالم.
أومأ ريبنتروب مجيبًا :"أتعي يا صاحب الجلالة أن إيطاليا كانت عدوة لألمانيا خلال الحرب العظمة؟".
"نعم، أعرف ذلك".
"وهذا هو بيت القصيد، الفوهرر مؤمن بأن إيطاليا لا تزال عدوة لألمانيا وتشكل تهديدًا مستقبليًا على الرايخ، وبما أنها عدوة لإثيوبيا فإننا نريد أن تستنزف إثيوبيا إيطاليا، وتذيقها الهزيمة إذا أمكن فذلك في مصلحتنا، كما تريدون صد العدون الإيطالي فذلك في مصلحتكم، أليس من البديهي أن نتعاون لتحقيق الغايات ذاتها؟".
ضحك سيلاسي بسماع ما قله ريبتروب والذي كان أشبه بتنقية لأخر توجساته.
"فهمتك وأتفق معك، أتطلع للتعاون بين بلدينا" وقف سيلاسي وقترب من ريبنتروب ومد يده إليه عارضًا عليه المصافحة بينما أتبع قوله :"فكما يقولون عدو عدوي صديقي".
وقف ريبنتروب بدوره وصافحه.
"بلغت مسامعي نباهة فوهررك، ورغم أني لم أقرأ كتابه إلا أني سمعت أن رؤيته لا يعلا عليها".
وبذلك لنا أن نقول أن المحادثات الإثيبوية الألمانية مضت بسلاسة.
أقام سيلاسي مأدبة فاخرة إمتلئت بشتى أصناف الأطباق الإثيوبية للوفد الألماني بمن فيهم ريبنتروب.
وقد واجه معها الوفد الألماني وقتًا عصيبًا، إذ لم يألفو المطبخ الإثيوبي وقد كان جديدًا عليهم.
وفي اليوم الذي عاد فيه الوفد إلى ألمانيا، غادرت سفينة شحن ألمانية محملة بالمساعدات ميناء كييل متجهة إلى إثيوبيا، وقد تقرر تسليم الشحنات إليها عبر الصومال البريطانية.
الثالث من أكتوبر عام ١٩٣٥.
أدى الغزو الإيطالي للحدود الأثيوبية إلى بداية الحرب الأثيوبية الإيطالية الثانية.
-نهاية الفصل-
تحمست وعملت على عدت فصول تضمن إستمرارية التنزيل شبه اليومي لبعض الوقت.
فصل أو أكثر يوميًا! D:
+فصل إضافي الليلة.