وحين تعدا الجيش الإيطالي على الحدود الإثيوبية إنتشر الخبر في العالم أجمع.

أحالت إثيوبيا ببلاغ عن إيطاليا إلى عصبة الأمم، لكن عصبة الأمم التي لم تكن أكثر من قوقعة فارغة تحفظ مصالح الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى لم تحرك ساكنة.

وكل ما فعلته هو إدانة إيطاليا وتحذيرها.

كما أدانت كل من بريطانيا وفرنسا الغزو، وأعلنتا على الملئ أنهما سيفرضان عقوبات إقتصادية على إيطاليا، لكننا نعي جميعًا أنها محض كلمات فارغة.

وكانت أمريكا التي إنتشلت نفسها توًا من تبعات الكساد العظيم وتتربح بالصفقات التجارية مع إيطاليا غير مهتمة بأمر إثيوبيا، كما كان الأمر ذاته مع الإتحاد السوفيتي واليابان.

"إن إعتداء إيطاليا على أرض بلد مستقل جريمة وإنتهاك للقوانين والأعراف الدولية، تدين ألمانيا هذا العمل العدائي، ونطالب إيطاليا بسحب قواتها والعودة إلى حدودها الأصلية".

إنضممت بدوري إلى عربة التنديدات، وأصدرت بيانًا أدين فيه إيطاليا.

وبما أن لا مصلاحة لي في إستفزاز إيطاليا أكثر من اللازم، فإني إكتفيت برفع إحتجاج رسمي للسفارة الإيطالية.

وبالطبع كانت هذه مجرد شكليات.

"آمل أن يقاتل الإثيوبين الطليان ببسالة".

"بما أنك قد تفضلت عليهم بالعتاد والسلاح والمدربين يا سعادة الفوهرر فكيف لا يقاتلون ببسالة؟": بدا من نبرة غوبلز أنه غير آبه كثيرًا بالقضية الإثيوبية.

كما علق هيملر :"سيدي، ثمت تخوفات في صفوف الجيش من أننا قد منحنا أثيوبيا موارد حربية أكثر من اللازم".

هززت برأسي نفيًا :"ومتى لم تكن لديهم تخوفات؟ لا يجيدون غير التشكي، ألم يكنونو متخوفين أيضًا في مسألة الراينلاند؟"

لم يعارض الفيرماخت دعم إثيوبيا، لكنهم إشتكو من تقديمي لكميات كبيرة من إمدادات الجيش لهم.

ومع أن الكميات المقدمة لإيثوبيا لم تكن صغيرة، إلا أني لم أرى أنها كثيرة بما يسوغ تعليقاتهم المستمرة.

وخصوصًا بيك الذي بلغني عنه تعليقه على فعلتي ورائي بقوله أن تقديمي الأسلحة للأفارقة الهمج لا يختلف عن إلقاها في المراحيض.

من يحسب نفسه ليعلق على أوامري بهذا الشكل؟ ألم يخبره أحد قبلًا أن يتقي غضب الحليم؟

هنيئًا له أن نجاح في إستفزازي بكلماته وأنا الذي لا أُسْتَفزُ بسهولة - أقر أن عنده موهبة إستفزاز إستثنائية.

ليهبد كما يطيب له الآن، سيأتي يوم أجعله يتوسل فيه الرحمة بنفس الفم الذي يتطاول علي به.

لم تخمد رغبتي في الإنتقام من بيك وأعوانه حتى بمرور عشر سنوات، سمعت أن الإنتقام يزداد حلاوة بالصبر عليه، أتساءل إن كان ذلك صحيحًا؟ لا بأس عندي بتحمله أكثر قليلًا.

أهدأت قلبي المستشاط بالكولا الباردة إلى درجة ألمت أسناني وشغلت عقلي بالتفكير في الخطط المستقبلية.

سيمر بعض الوقت قبل أن تكون لدا إيطاليا الطاقة الكافية للإهتمام بأي شأن غير أثيوبيا.

وبينما هم في مشاغلهم سأعمل أنا على إنتهاز ما يمكن إنتهازه.

***

"الأعداء مقبلون!".

بسماع أنباء بدأ الهجوم الإيطالي قفز الجنود الإثيوبيون الذين كانو يقضون إستراحة على السطح إلى خنادقهم في عجلة من أمرهم.

"ليتأهب الجميع للمعركة!".

البندقية التي سلح بها الجيش الإثيوبي هي Gew98 التي إستعملها الجيش الألماني خلال الحرب العظمى وخزنت بعدها في المستودعات كإحتياطي للجيش قبل أن ترسل لإثيوبيا بموجب أمر هتلر.

"لا تطلقو حتى أعطي إشارتي! سأقتل من يخالف الأوامر بيدي!".

بعد أن صاح رقيب الفيرماخت الألماني جوزيف غانغل بهذه الكلمات ترجمها بعده مترجم أثيوبي على الجند بالوطئة نفسها.

غانغل أحد المستشارين العسكرين الذين أرسلتهم ألمانيا إلى إثيوبيا لتدريب الجند وتحديث التكتيكات، وقد إرتدا زي الجيش الإثيوبي عوضًا عن زي الفيرماخت لخداع الطليان.

كما أوعز بتعليمات صارمة من رؤسائه بأن يدعي أنه مرتزق نمساوي إستأجرته الحكومة الإثيوبية حال القبض عليه.

وقبل مغادرته حدثت أحد أهم الدقائق في حياته، حيث قابل الفوهرر وصافحه شخصيًا.

كما صافح الفوهرر جميع المبعوثين الأخرين ومنحهم كلمات الإشادة والتشجيع.

"أجد أني خجل من مطابتكم بالعودة سالمين وأنا الذي أرسلتكم إلى مكان خطير كهذا.. وليس لدي ما أقوله في هذا الشأن إلا أني أومن إمانًا راسخًا بقدراتكم، وآمل أن تحاربو ببسالة وترفعو رؤوسنا": كانت هذه كلمات الفوهرر حين ربت على كتفه.

"سأضع كلماتك في الإعتبار يا سعادة الفوهرر!".

أراح غانغل إصبعه على زناد رشاش MP28 - وريثما كان تائهًا في ذكرياته وجد أن المشات الإيطالين قد باتو قريبين بما فيه الكفاية.

"أطلق!".

بإشارته إنظلق وابل رصاص من بنادق الجند نحو العدو.

إرتبك الإيطاليون الذين كانو يسيرون قبلها بروية كأنهم في نزهة بالهجوم الإثيوبي.

حتى الضباط الذين كان من واجبهم إعادة تنظيم القوات وإصدار الأوامر كانو في حيرة كدجاج مقطوع الرأس.

بدا أنهم كانو مقتنعين حقًا أنه بعدم إطلاق الإثيوبين حتى لأن فذلك لأنهم لن يطلقو.

وجد غانغل أنه لا يستطيع ربط هؤلاء القوم المثيرين للشفقة بأسلافهم الرومان.

"أراهن أن رجال الكهف أبسل منكم يا منعدمي الكفاءة!": أعاد غانغل تعبئة رصاصه بمهارة في حين أطلقت المدافع الرشاشة الثمينة من طراز MG08 المثبتة عند كل فرقة النار على الإيطاليين وأردت صفوفهم أرضًا.

الأسلحة التي أردت الفرنسيين والبربطانين عند السهول البلجيكية قبل عشرين عامًا تردي الآن الإيطاليين في الحقول الأفريقية.

"دبابة! إنها دبابة!".

صاح الجنود الأثيوبين معلنين وصول دبابة L3 الإيطالية الزاحفة نحوهم.

ومع أنها تصنف 'دبابة' من حيث الأداء إلا أن دعوتها بالدبابة قد يكون صعبًا بالنظر إلى مظهرها، ومع ذلك فقد إعتمد الجيش الإيطالي الذي لم يمتلك مدرعات أفضل بكثير عليها وأنتجوها بكميات كبيرة.

أصيبت دبابة L3 المزودة بمدفع Brede M30 بطلقة مدفع Tankgwehr المضاد للدبابات الذي قدمته ألمانيا للقوات الأثيوبية قبيل أن تتمكن من شن هجومها.

تمزقت الدبابة التي لا يزيد سمك ألين دروعها عن 12 سانتي بعد أن أصيبت بعدة عيارات نارية كقطعة ورق.

توقفت الدبابة بعد أن أصيبت برصاص Tankgwehr من عيار 13.2 ملم مرارًا.

وقضى جنود الدبابة نحبهم وغدو أجساد ممزقة الأوصال.

"أحسنتم صنعًا! زاولو إطلاق الرصاص!".

علا ضجيج المعركة على كلمات غانغل، لكن الجنود الإثيوبين واصلو مهتهم دون إنقطاع، وقد صفو دبابة أخرى من نوع L3.

بادئ الأمر كان غانغل كسائر الأوروبين، غير راغب في أن يتم إرساله إلى أفريقيا للعمل مع الأفارقة الذين رأهم أقل شأنًا.

والسبب الذي دفعه لأداء المهمة هو لكونها من إيعاز الفوهرر لا أكثر، ولم يكن ليتوقع منهم الكثير.

ولكن بقعد أن رأهم تغيرت نظرته، فهؤلاء الجند الأثيوبيون لم يحظو بتدريب حقيقي لكنهم أظهرو إنضباطًا وكفاءة فاقت توقعاته.

حين نظر إليهم أدرك أنهم يقاتلون بوعي واحد للدفاع عن أرضهم.

بعدها بفترة تراجع الجيش الإيطالي تاركًا خلفه القتلى وحطام المركبات.

هتف الجنود الإثيوبين فرحين بهذا النصر، وما لبثو ليفرحو بنصرهم حتى وقعت عليهم قذائف الجيش الإيطالي.

وقد كانت القذائف التي ألقاها الجيش الإيطالي تختلف عن سائر القذائف، فلم تنفجر أول الأمر بل تسرب منها ضباب أصفر كثيف.

"اللعنة! إنه غاز!".

شتم غانغل الذي أدرك ماهية هذا الغاز وأخرج قناع الغاز على عجل بيننا سد منافسه بساعده.

"ليرتدي الجميع الأقنعة!".

أنقذت أقنعة الغاز حيوات الجنود الأثيوبين، فلولا هذه الأقنعة لأصبح هذا الخندق أرض للأموات، ولن يبقى رجل واحد من هؤلاء الرجال الواقفين حوله حيًا، إقشعر بدن غانغل بعد أن تبادرت إلى ذهنه هذه الفكرة.

بعدها بعشرين دقيقة هاجم الإيطاليون من جديد، لكن ما كان في إنتظارهم لم يكن جثث الإثيوبيين كما خيل إليهم، بل وابل من الرصاص.

"ماذا؟ ألم يقضو نحبهم بعد؟".

"تبًا إنهم يرتدون أقنعة الغاز!".

صدت صيحات الجند الإيطاليين مصحوبة بدوي الرصاص في الميدان المقفر.

***

"أكاد أكذب عيني.. كيف لذلك أن يحدث؟-"...

تصبب حاكم أرض الصومال الإيطالية المارشال رودولفو غراتسياني والقائد العام للقوات المتمركزة جنوب أثيوبيا عرقًا غزيرًا حين إطلع إلى ما جائه من تقارير عن وضع الحرب.

كيف له ان يصدق أن الإثيوبين الذين يعيشون في الجانب الأقل تحضرًا من إفريقيا صدو هجمات الجيش الإيطالي الحديث مرارًا وتكرارًا في عدة محاور؟

حتى هجوم الغاز السام لم تكن له وطئة تذكر عليهم لإمتلاكهم أقنعة غاز.

صفق غراتسياني الطولة في غيظ :"من أين لأولئك الزنوج بأقنعة الغاز؟!".

ولم يطل الوقت حتى حصل على أجابة عن سؤاله هذا، إذ تمكن الجنود الطليان من وضع أيديهم على بعض الأقنعة من القتلى الأثيوبين.

"لا تبدو كأقنعة بريطانية ولا حتى كتلك الفرنسية": علق ضابط مسؤول عن الحرب كيميائية بعد فحصه لأحد هذه الأقنعة.

"فماذا تكون إذا؟".

"أعتقد أنها ألمانية يا صاحب السعادة".

"ألمانية الصنع؟ لم يستخدمون أقنعة ألمانية؟".

"لا فركت لدي عن ذلك"..

كان الضابط ممتعضًا، كيف له أن يعرف ما ليس لقادته علم به؟

لم يتوقف الأمر عند أقنعت الغاز، فسرعان ما لاحظ الإيطاليون أن أغلب الأسلحة التي إستولو عليها من الإثيوبين كانت ألمانية.

من البنادق إلى القنابل وحتى الذخيرة، كلها ألمانية الصنع، وهذا يعني شيئًا واحدًا.

"للألمان يد في ذلك".

"نعم يا صاحب السعادة، واضح أنها فعلتهم".

"سأنقل الخبر إلى روما من فوري"..

أذهلت هذه الأنباء غراتسياني، مهما بلغت العداوة بين بلديهم، كيف لهم أن يصلو إلى حد دعم هؤلاء البربر الذين ليسو حتى من البيض لقض مضجعهم؟

كما أرسل قائد القوات الإريتية الجنرال إميليو دي بونو الأنباء ذاتها إلى روما.

'الجيش الإثيوبي يحصل على عتاد ألماني'.

أما الباقي فيعني الساسة والدبلمسيين.

***

"حضرة الفوهرر، وصلنا إحتجاج من روما"... سكت ريبنتروب لبرهة قبل أن يردف قوله :"إنهم يحتجون على أمر المعدات المقدمة لإثيوبيا، من فضلك دع الأمر لي".

ومن ما لا يثير الدهشة أن موسوليني إحتج على إستعمال الإثوبيين لأسلحتنا، وقد كانت إستراتيجيتنا لرد علي هي ببساطة "إظهار الزعنفة".

وكان زعمنا كما يلي: صحيح أن الجيش الإثيوبي يستعمل معدات ألمانية، إلا أن لا علاقة لذلك بسياسة ألمانيا، إذ أعربت إثيوبيا عن نيت شرائها وقد قدمت السعر المناسب..

"وهل سيصدقون ذلك؟".

"وماذا في ذلك؟ حتى وإن قدمنا أسلحتنا علنًا فهم لا يستطيوعن فعل شيء لنا، مالم يكون موسلويني ذاك مجنونًا بما يكفي لتصعيد الأمر حتى يبلغ عتبة الحرب"

"فهمت مقصدك فوهرر".

بدت على غوبلز بوادر والإرتياح بسماع إجابتي.

"أي كان ما يفعله رجال الباستا بعدها في إثيوبيا فإن ذلك لا يعنينا، ما يهم أنهم سينشغلون عنا ويشغلون المجتمع الدولي، على كلٍ، أتلقيت ردًا من دولفوس على دعوتي؟".

"بلا، لقد أعرب عن قبوله لإقتراحكم، وسيحدد موعدًا للزيارة في أقرب وقت ممكن".

"عال العال".

في التاريخ تم إغتيال مستشار النمسا ودكتاتورها الطموح دولفوس في الخامس والعشرين من يوليو 1934.

والذين إغتالوه لم يكون إلا كوادر من الحزب النازي النمساوي، وقد أزهقو روحه لسخطهم من حظره لأنشطة حزبهم ولمعاداته للوحدة النمساوية الألمانية التي نادو بها.

لكنه لا زال على قيد الحياة عكس ما حل به في التاريخ، وذلك عائد إلى أني أمرت بصفتي 'الفوهرر' أعضاء الحزب النازي النمساوي بأن يتعاونو مع الحكومة النمساوية مستطاعو، وقد نفذو أومري بإخلاص جم.

وبفضل جهودي هذه كتب لدولفوس عمر جديد -على الرغم من أنه قد لا يكون مدركًا لذلك- ولم تكن علاقته بالحزب النازي بذلك السوء.

وكنت قد إقترحت عليه عقد قمة مشتركة بين بلدينا - وقد جائني رده بالموافقة.

وفي هذا الإجتماع كانت نيتي أن أجري معه محادثة صادقة وسلمية.

وحتى هذه اللحظة، أظن أن كل شيء يسير بسلاسة بالغة كما خططت.

-نهاية الفصل-

2024/08/01 · 50 مشاهدة · 1632 كلمة
نادي الروايات - 2025