الثالث والعشرون من مارس، عام 1936.
نورمبرغ، ألمانيا.
"شرف مروم أن لقيت فوهرر ألمانيا أخيرًا".
"أخجلتنا، ما من داعي للمجاملات".
أصطف حرس الشرف المسلحين من الـSS -قوات الأمن الخاصة- مرتدين الزي الرسمي الأسود بستقامة عن يمين وشمال، ورفرف علم الصليب المعقوف بصحبة العلم النمساوي في كل زاوية.
دولفوس قصير القامة بعض الشيء، إذ لا يزيد طوله عن 150 سانتي وحين يقف على مقربة من رجال الـSS فارعي الطولي الذين تزيد قاماتهم عن الـ180 سانتي بدا لي كطفل بين الراشدين.
وقد تعين علي ثني ظهري قليلًا كأني أنحني حتى أتمكن من مصافحته.
"أجد إنضباط جندك مبهرًا، كما هو متوقع من حرس الفوهرر".
"هاها، هذا من حسن خلقك، يا أهلا، هلم إلى الدخول".
عقد إجتماع القمة في أجواء ودية.
كنت قد أمرت بأن برفع أعلام نمساوية أكثر من الأعلام النازية في مدينة نورمبرغ، ورغم أنه تفصيل صغيرًا إلا أن الوفد النمساوي بدا مرتاحًا به.
"نحن في ألمانيا نود أن تربطنا ببلادكم علاقة أقرب من السابق".
لقد تحدثت عمدًا في الموضوعات التي تجتذب إصغاء دولفوس.
بدأت من إمتداح إنجازاته حين كان وزيرًا للزراعة إلى إنتقاد الأحزاب الشيوعية النمساوية التي كبتها مؤخرًا، وصولًا إلى نقطة التعاون بين البلدين.
لم تفارق الإبتسامة وجه دولفوس، الأمر الذي يعني أني أفلحت في اللف والدوران.
"كما نأمل نحن أن تجمعنا علاقة طيبة بألمانيا، فلا يجب أن ننسى الهوية والأخوة بين شعبينا".
"صدقت القول، أنا اليوم زعيم ألمانيا لكني لم أنسى قط أن مسقط رأسي تظل النمسا، أليست الأرض التي ولدت فيها؟".
وكنتيجة للإجتماع الذي دام ساعتين، وافق دولفوس على عقد تحالف عسكري بين البلدين.
وحين كان الإجتماع على شفى الإنتهاء، طرح علي سؤالًا غير متوقع.
"هل لي أن أطرح عليك سؤالًا؟".
"بالتأكيد، تفضل".
"ما هي نواياكم للنمسا على المدا الطويل؟ إعذرني على هذا السؤال الغريب فثمت شائعات تدور هنا وهناك في النمسا عن طموح ألماني لضمها وجعلها ولاية تابعة.
أعي أنها محض إشاعات لا أساس لها، إلا أنها بدأت تحدث بلبلة لا يمكن تجاهلها، لذا فإني أود إنتهاز هذه الفرصة لسؤال الفوهرر عن رأيه في هذه القضية".
على الرغم من أنه لم يقل ذلك بشكل مباشر إلا أن مضمون سؤاله هو :'أحقًا لا تطمع بالنمسا؟'.
وبما أن دولفوس زعيم النمسا، ويجب أن تبقى مستقلة ليظل زعيمًا، فليس من المستغرب إن قلنا أن هذه المسألة تعنيه شخصيًا.
"لاداعي لقلقك هذا، لست أعرف من ينشر إشاعات كهذه إلا أني أؤكد لك بصفتي فوهرر ألمانيا أننا لا نخطط للتدخل في الشؤون السياسية النمساوية، فمهما بلغت الأخوة بيننا تظل النمسا أمة ذات سيادة، وما هدفي إلا بناء علاقة ودية طويلة الأمد بين بلدينا بما يصب في مصلحة شعوبنا".
حينها فقط توسم دولفوس خيرًا وبدا عليه الإرتياح.
"أشكرك على تفهمك وإجابتك الصادقة، وأمل أن تعذرني على أسئلتي الوقحة".
"ولم الإعتذار؟ أريدك أن تعلم أني لا أعد النمسا على أنها أمة غريبة، إنها البلاد التي ولدت وترعرعت فيها".
وبعد مأدبة العشاء، جاء وقت 'إستعراض السلاح'.
أظهر دولفوس والوفد النمساوي إهتمامًا بأحدث الأسلحة الألمانية، من الأسلحة النارية مثل MG34 وMP35 وEMP35 إلى مدرعات Panzer من الطرازين 1 و 2.
"اوه، إذا فهذه هي أحدث الدبابات الألمانية؟".
لم تمتلك النمسا أي دبابات محلية الصنع، لذا نظرو إلى دبابتي 1 و 2 بقدر من الإعجاب.
على الرغم من أني لم أرى فيهم ما يبهر.
كما كانت ردة فعلهم على الطائرات هي نفسها.
كان ما عرض عليهم هي Ar65 ذات السطحين والمقاتلة الرئيسية Bf109 والتي لا تزال خاضعة للتطوير، وقاذفات القنابل He50 وHe51 وHs123 واللواتي يخدمن حاليًا في سلاح الجو.
أشرقت عيون دولفوس وهو ينظر إلى هذه الطائرات وبدا كطفل يحملق في لعب يتوق إليها في المتجر.
بذلك إنتهزت الفرصة لأعلق :"ما قولك فيهم يا حضرة المستشار؟ هذه الأسلحة هي فخر الصناعة الألمانية".
"أني منبهر صراحة، كم كان ليكون رائعًا لو كان عندنا مثلها في النمسا".
لم يكن دولفوس يجامل هذه المرة وبدا صادقًا، تعبيره لوحده يحكي الكثير.
لنقل أنك تقود سيارة M48 Pantto أو F-4 Phantom فترى M1 Abrams أو حتى F-35Lightning مارة من جوارك، هل تخيلت ذلك؟ النظرة التي إعترت وجه دولفوس هي ذاتها تلك النظرة.
(*ملاحظة المترجم: لا أفهم في السيارات لذا لم أتخيل شيئًا. :d )
"بعد أن أصبحنا حلفاء الآن، لابد أن تحصل النمسا على هذه الأسلحة في المستقبل القريب".
"اوه، أهذا صحيح؟".
سأل دولفوس ببتسامة فأومأت له برأسي :"وكيف لا؟ ألسنا حلفاءً؟ ولم عساي أكذب، فإستقرار النمسا من إستقرار ألمانيا، وسنقدم نماذج علكم تصحبونها معكم لتبيان صدق نوايانا".
وعدت من فوري بتقديم بعض هذه الدبابات، الأمر الذي أدهش الوفد النمساوي.
الطراز 1 و 2 هما دبابات جديدة بدأ إنتاجهم الرسمي قبل عامين فقط.
فلابد أن يتعجب الوفد النمساوي من تقديمي لأسلحة حديثة كهذه دونما مقابل.
"لم الدهشة؟ ما هذا إلا عربون صداقة متواضع وآمل أن تقبلوه مني".
"لا يسعني أن أوفيك الشكر، لطالما سمعت عن إستثنائية الفوهرر لكني لم أعي قط كم هو سمحٌ قلبه".
وبذلك غادر الوفد النمساوي مفتوحي الأفواه.
هل قلت أني لن أتدخل في شؤون النمسا؟ عذرًا، فبقولي ذلك بعض النفاق السياسي.
بصراحة لدي نوايا لإلتهام النمسا، لكن الوقت لم يحن بعد لذا فإني لم أكذب تمامًا، إذ أني لا أمتلك نية في الوقت الراهن.
في مرتي الماضية لم تصمد النمسا حتى عام 1940 - تركتها تغلي ببطئ حتى أجبرت على طلب الإنضمام بنفسها، والآن الأمر هو نفسه، إنها مسألة وقت قبل أن تلقي بنفسها في أحضاني.
ومع ذلك فإن الريح تجري بما لا تهواه السفن أحيانًا.
***
1 أبريل، 1936.
النمسا، على الطريق الواقع بين ليوبين وكابينبرج.
"يبدو مزاجك جيدًا هذه الأيام": علق كورت شوسنيك وزير التعاليم النمساوي وأحد المقربين من دولفوس.
أومأ دولفوس مجيبًا :"بلا، أشعر أن حملًا أزيح عن كاهلي".
مضت المحادثات مع ألمانيا بسلاسة، ولم يتوقف الأمر عند حصوله على إجابة شفهية من هتلر في شأن قضية ضم النمسا، بل وحصل على دبابتين حديثتين كهدية، وهو ما له أن يساعد النمسا على تطوير عتادها في المستقبل.
وعلى الرغم من أن التفاصيل الحساسة -كجواب هتلر وبعض التفاصيل الأخرى- لم تنشر على الملئ إلا أن دولفوس أعلن عن نجاح القمة وبدأ التعاون العسكري بين البلدين، وختامًا بالهدايا التي قدمتها ألمانيا.
هذه الإنجازات الدبلماسية رفعت من شعبية دولفوس وتأييده.
التكتل الوحيد الذي لا زال يعاديه في النمسا هو الحزب الشيوعي.
"سمعت أنه تم القبض على جماعات شيوعية توزع منشورات تطعن في الحكومة، يالهم من قوم مثيرين للحنقة": تمتم دولفوس.
لعل أكثر ما تطلع إليه دولفوس حين حصوله على منصب المستشار هو قمع الحزب الشيوعي والتكتلات الإشتراكية الأخرى التي غدت طفيليات تنهش النمسا.
ولتجنب قمعه بدأ الحزب الشيوعي يؤدي أنشطته في السر وستفحل كبيت العنكبوت في كل أرجاء النمسا.
"مامن داعي للقلق، أمهل الفيلق الوطني ثلاثة أو أربع سنين وسيختفي الشيوعين من البلاد بدأبهم".
الفيلق الوطني منظمة فاشية شبه عسكرية أسسها دولفوس، وهي أشبه بالـSS الألمانية، وتتبع جبهة الوطن النمساوية التي ينتمي إليها دولفوس.
وقد لعب فيلق الدفاع الوطني دورًا هامًا في قمع الجبهة الشعبية النمساوية خلال الحرب الأهلية المنصرمة قبل عامين.
"آمل ذلك، فلن ترى البلاد خيرًا قبل طرد الشيوعين الذين يَسُمُونَ بدن المجتمع كالخلايا السرطانية"-
لحظتها وقع إنفجار.
لم يتسنى لدولفوس إستيعاب ما حصل فلحظتها طفى جسده وتقطع إربًا.
ما كان رجلًا سويًا يدعى دولفوس بات شظايا لحم متطايرة وعوالق كست السيارة المطعوجة بالقدر ذاته.
***
"أعد ما قلته ثانية".
-أمرك حضرت الفوهرر، وردتنا أنباء تفيد بأن المستشار النمساوي دولفوس قد قضى نحبه في هجوم إرهابي، وقد راجعت الامر مرارًا كما طلبت وتحققت حقيقة الأمر.
"هوه..."
أهذه مزحة من القدر؟
لقد إعتدت تأثير الفراشة* لكني لم أتوقع موت دولفوس بهذه السرعة، فكم مضى على لقائنا؟
(*ملاحظة المترجم: قلما تجد من لا يعرفها، لكن تأثير الفراشة بكل إختصار هو فكرة مقتضاها أن لكل فعل رد فعل يعقبه، فحتى رفرفة من جناح فراشة قد تخلق زوبعة في مكان آخر.)
طار جهدي في مجاملته وبناء علاقة طيبة معه، طار ولن يعود.
لم تحرج أخبار الإغتيال المفاجئ بعد القمة النمسا فقط، بل وضعتني أيضًا في موضع غريب.
أمرت على عجل بالإستعلام عن الواقعة من الحزب النازي النمساوي لأتبين إن كانت فعلتهم، وجاء جوابهم بأن لا فكرة عندهم عن الحادث.
جاء هذا الجواب منطقيًا فهؤلاء القوم كالخاتم في إصبعي محال أن يعفلو فعلة كهذه دون إذني.
بالطبع لا يمكن إغفال إحتمال أن تكون فعلة فردية لبعض الأعضاء المتطرفين، إلا أن هيدريش قال لي أن إحتمال ذلك ضأيل للغاية، وذلك هو المرجح فشبكة معلوماته موثوقة للغاية.
إذن بحق خالق الجحيم من الذي قتل دولفوس؟
***
وسرعان ما تبينت هوية الذين أقدمو على إغتيال دولفوس.
تبين أن الجاني في هذه قضية هو الحزب الشيوعي النمساوي.
ولنكون أكثر دقة كانت فعلة أعضاء من تنظيم المقاومة النمساوية الذين تلقو تعليمات من الحزب الشيوعي.
أغتيل في التريخ على أيدي نازيين من اليمين المتطرف، وهاهو اليوم يُغتال على أيدي شيوعين من اليسار المتطرف.
ياله من رجل تعس الحظ.
كيف كانت نهايته في مرتي الماضية؟.. اه، صحيح، توفي بسكتة قلبية في حين مات شوشنيك في حادث سير قبل ذلك.
وهذه المرة، توفي دولفوس، في حين نجى شوشنيك من التفجير، وقد خلفه مستشارًا للبلاد بيد أن صحته لم تكن في أوجها منذ الحادث.
يبدو أنه لا زال يواجه صعوبة في مزاولة الحديث لأكثر من عشر دقائق إثر أصابة رأسه في الحاديث، كما فقد ساقه اليسرى، وعمومًا يبدو على صديقنا هذا أنه لن يستمر بصحبتنا طويلًا.
حدثني جورينج :"فوهرر، أعتقد أنها فرصة لا تفوت".
كما تخلى جوبلز عن ضغائنه تجاه جورينج ووافقه هذه المرة قائلًا :"هذا صحيح حضرة الفوهرر، إذا ما أحسنا إستغلال الحادث قد نتمكن من جعله يصب في صالحنا".
أومأت برأسي مجيبًا :"أشاطركما الرأي".
فكما قالا، هذا الحادث حزين على عائلة دولفوس ومعارفه، بيد أنه كان النقيض لألمانيا.
صحيح أن الفقيد دولفوس كان فاشيًا، إلا أنه كان كذلك قوميًا نمساويًا ومن أشد معارضي فكرة الوحدة الألمانية.
الآن وقد مات، أزيح عن طريقنا حجر عثرة، والمستقبل سيغدو أسهل دونما ريب، ولمواكبة هذا التغيير علي تغيير خطتي.
وعلى غير المتوقع تبدو الأيام المقبلة أجمل.
-نهاية الفصل-
بعض الحديث عن الترجمة:
ثمت نقطة أود توضيحها، وهي أني كترجمان بضمير 'شبه' حي -ولو اني أقر بإحتياجي لتدقيق ما أكتبه أكثر- أترجم بالطريقة التقليدية نقلًا بين صفحتين، وأعيد صياغة جمل الكاتب بل وأغيرها أحيانا بما أره أنسب للسياق بالعربية، وفي بعض الأحيان أستبدل الجمل وأعيد ترتيبها حتى توصل الشعور والمعنى بلغتنا.
العملية برمتها مرهقة ولها عيوب شتى إلا أنها تنشط دماغي وتشعرني بالإسترخاء، وبعلمي أني لست بالأفضل أو الأمهر، لكني آمل على الأقل أني أفلحت في ذلك ولم أتطاول عليكم كثيرًا.
والخلاصة، أنا أبلغكم بذلك كنوع من الأمانة، وأتساءل هل ترون الترجمة مفهومة، أم تحتاج مزيدًا من التقدم؟
أحيطكم علمًا أني أستقبل الملاحظات وأشد النقد والتنمر بأذرع مفتوحة.
+يوجد فصل آخر الليلة.