الصين، المكتب الرئاسي، نانجينغ.
"يا أهلا وسهلًا، مر وقت طويل منذ قابلتك آخر مرة فيكف حالك؟".
"إني بخير وأشكرك على حسن الضيافة سيدي الرئيس".
تبسم الرئيس الصيني شيانج كاي شيك بإحترافية إذ إستقبل القنصل الألماني هيرمان كريبل.
كان من المخطط أن يقابل شيانج كاي شيك السفير الألماني أوسكار تراومان اليوم، لكنه مرض فجاء عنه كريبل.
ولم تجمعهما صداقة خاصة لكن علاقتهما لم تكن بالسيئة.
أقام شيانج كاي شيك الذي كان أول عهده بكريبل عام 1928 حفلًا كبيرًا لإستقباله.
ضحك الرجلان وتبادلا المجاملات حتى إنقضاء الحفل.
وتنوعت محادثاتهم بين حادثت في مسقط رأس أحدهم، هوايات جديدة بدأو في مزاولتها، ألم المفاصل الذي بدأ يزيد عن حده.. إلى آخره.
ولم يشرعا في دخول لب الموضوع إلا حين أختتم الحفل.
"سمعت أن عندك كلمة لتنقلها إلي من الفوهرر؟".
"أجل".
مع أن العلاقة بين البلدين دامت طويلًا، لم يكن هناك قط تواصل خاص بين شيانج كاي شيك والفوهرر.
كان كل إنطباعه عنه من كتاب كفاحي الذي قرأه بتوصية من سون يات سين.. كما أرسل له ببرقية تهنئة حين أصبح مستشار البلاد، ولربما يتوقف الأمر عند ذلك.
لذا فقد أربكه أن أتى مبعوث منه بكلمة عاجلة مخصوصة له، فمالذي حدث يا ترى؟
"سيدي، أمل أن تنصت إلي بإصغاء حتى أنهي قولي".
"كلي أذان صاغية".
تردد كريبل لبرهة قبل أن يتحدث :"تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ من الحزب الشيوعي يخططان للإيقاع بك وسجنك".
وضع شيانج كاي شيك فنجانه الذي كان على شفى إحتسائه على المضدة وحملق في كريبل امامه مذهولًا :"محال، كلا... من أين لك بهذه الأنباء؟".
"ذاك ما أرد مني معالي الفوهرر إبلاغك به من فوري قائلًا أن عليك إلتزام الحيطة والقبض عليهما قبل أن تقع الفأس على الرأس، ولم يكشف لي مصدر هذه الأخبار".
قبل أيام إقترح داي لي أحد أكثر أعوان شيانج كاي شيك إخلاصًا عليه إعتقال تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ لشكوكه في ميولاتهم المؤيدة للشيوعيين.
ومع ذلك فقد رأى شيانج كاي شيك أن مزاعم داي لي محض توجسات وتجاهلها.
صحيح أن تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ أظهرا الضعف في عملية الهجوم الأولي -ضد الشيوعيين- ولم ينصاعا للأوامر، إلا أن تورطهما في الخيانة المباشرة إدعاء يصعب تصديقه.
والآن وقد وصلت نفس التحذيرات من الفوهرر الألماني هتلر بدأت ثقة شيانج كاي شيك في الرجلين تتأرجح.
لم يكن يعرف المحل الذي جائت منه هذه المعلومات.
الجواب الوحيد أن لدا الألمان عملاء في مكان ما من الفصيل الشيوعي الصيني.
ولعلهم كذلك أشخاص مرتبطون بـ تشانغ شيويليانغ، أو أحد مرؤوسي ويانغ هوتشينغ.
وكل هذا لا يهم الآن.
ما يهم أن لهتلر نفس القول.
ومن يكون هتلر؟
ألم يكن رجلًا قلما تخطئ مزاعمه؟ من غزو اليابان لمانشوريا حتى الكساد، كلها أحداث شهدها العالم بعد أن تحدث عنها.
كما أظهر حنكته بِأن أعاد الراينلاند لبلاده تحت أنوف الحلفاء وضم النمسا دون سفك قطرة دم واحدة.
ولم يزد ذلك من إجلال الألمان له فحسب، بل وأكسبه إحترامًا من العالم أجمع.
وبما أن هذا زعمه، فلابد أن عنده ما يبرره.
مع ذلك فلم يكن شيانج كاي شيك قادرًا على التيقن وطرد الشك بعد.
"ألديك برهان على صحة ذلك؟".
"كلا، بيد أن فخامته أوعز إلي أن أخبرك في حال شككت بالأمر أن تشانغ شيويليانغ سيحاول إقناعك بزيارة شيان، والأجدر بك الإمتناع عن ذلك، كما قال أنك إن إخترت ترك هذين الرجلين يسرحان طويلًا فتيقن من كارثة ستحل بالصين".
"أهذا قوله؟": أغمض شيانج كاي شيك عينيه وأسند ظهره على مقعده متأملًا.
لابد أن هاذين الرجلين يدبران شيئًا وإلا لما كان للفوهرر الألماني وداي لي القول ذاته.
إلا في حال طبخ هذان مؤمرة فعلًا.
فتح شيانج كاي شيك عينيه وأومأ لكريبل قائلًا :"حسنًا.. سأنظر في الأمر"...
"أكد الفوهرر على وجوب إتخاذ سعادكم للقرار سريعًا، إذ كلما نزعت الأعشاب الضارة أبكر إزداد مستقبل الصين إخضرارًا".
"لعله مصيب.. لدي سؤال أخير، لم يوصل الفوهرر إلي هذه المعلومات؟".
"يرى فخامته أنك وحدك القادر على حمل مسؤولية الصين في أوقات عصيبة كهذه وحفظ مصالح ألمانيا فيها، كما يرى أن العلاقة الطيبة بيننا يجب أن تدوم لمنفعتنا المتبادلة".
إرتسمت إبتسامة على محيا شيانج كاي شيك دون إدراك منه :"لم أكن لأحسب أن زعيمكم ينظر إلي بهذا الشكل، إنه لشرف حقيقي لي".
بالمديح حتى الحيتان ترقص، وما من أحد يكره المجاملة.
ولا شيء أكثر مدعات للرضى من ذاك المديح الذي يأتيك ممن تكن له الإحترام.
بعد أن ودع كريبل، إستدعى شيانج كاي شيك داي لي.
"صدقت مزاعمك، إلتقيت بالقنصل الألماني كريبل وقد نقل إلي عن الفوهرر كلامًا كالذي قلته".
بدا داي لي متفجئًا.
كيف للفوهرر الألماني أن يطلع على خيانة تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ؟
كلا، ما هذا بالمهم الآن، فثمت ما يجب فعله بسرعة.
"سيدي الرئيس، أرى أن علينا القبض على تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ وقد تبينت الحجة عليهم قبل أن يكملو خططهم الشنعاء".
"سيحدث ذلك، لكن أمهلني حتى أحدث تشانغ شيويليانغ".
***
حين إتصل عليه شيانج كاي شيك كان تشانغ شيويليانغ قد إسنلقى توًا في فراشه موشكًا على النوم.
بعد أن قيل له عن إستقباله مكالمة من تشانغ شيويليانغ سار حافيًا نحو الهاتف.
أتصل به شيانج كاي شيك في مثل هذه الساعة؟ ماذا حدث؟
"هذا أنا، تشانغ شيويليانغ، إعذرني إن تأخرت عنك سيدي".
-أريدك ان تكون صادقًا معي يا تشانغ شيويليانغ، أود سماع رأيك في شأن موضوعنا ذاك.
نصح تشانغ شيويليانغ الذي إستهوته دعاية الحزب الشيوعي شيانج كاي شيك مرارًا بضرورة التوقف عن قمع الشيوعيين وتوحيد قواهم لأجل تحييد الخطر الياباني.
وكل مرة يدور بينهما هذا الحديث يشتاط شيانج كاي شيك غضبًا وينعته بالإنهزامي.
فما كان منه الآن إلا أن تساءل هل شيانج كاي شيك راغب في التحدث معه في مثل هذه الساعة لمجرد إعادة هذا الحديث العقيم؟ كلا، ذاك محال فلابد أن لديه غاية أخرى أو أنه يمهد لأمر ما.
"... سيدي الرئيس، أرى أن عليك إعادة النظر في عملية الهجوم الأولى، فعدو الصين اليوم هو اليابان، ليس الحزب الشيوعي"..
ظل شيانج كاي شيك صامتًا.
إعتقد تشانغ شيويليانغ أن ذاك تمهيد لتهزيء سيقابله من شيانج كاي شيك.
لكن العكس هو الحاصل إذ رد شيانج كاي شيك بهدوء تمام.
-تابع.
"أعي كم يكره الرئيس الشيوعيين، واعلم كذلك عن ماحاولتهم التمرد عليكم، لكني أذكركم أن الوقت غير مناسب لصراع داخلي، فما تحتجه الصين اليوم هو الوحدة لا الفرقة التي تخدم طموحات اليابان.
سيدي الرئيس، ألم تقرأ كتاب كفاحي للفوهرر الألماني؟ اليابان لن تتوقف عند منشوريا، بل ستتسع مطامعها لتشمل الصين وكل آسيا، إن تعاوننا مع الحزب الشيوعي ضرورة حتمية إن إردنا حماية الشعب الصيني من هذا العدوان، هذا ما نحتاجه، وهو ما يريده شعبنا".
ولم يكن تشانغ شيويليانغ ليعلم أن هتلر الذي إستشهد به كان قد حث شيانج كاي شيك على أسره.
سكت لبرهة ثم أتبع قوله :"ماقولك في الحضور إلى شيان شخصيًا سيدي الرئيس؟ أريدك أن ترى واقعها بعينيك".
-أهذا قولك؟..
"أجل".
-فهمت.. أجد أفكاري مشوشة بعض الشيء في الآونة الأخيرة، أريدك أن تأتيني مع يانغ هوتشينغ لاحقًا للبت في هذا الأمر.
"أحقًا ستنظر في الأمر؟".
كاد تشانغ شيويليانغ لا يصدق إستعداد الرئيس شيانج الذي كان متصلب عند رأيه كبوذا حجري للبت في هذا الأمر حقًا.
على الرغم من أن تشانغ شيويليانغ لم يعلن عمله للشيوعيين رسميًا، إلا أنه أحس بالراحة لمجرد أن شيانج كاي شيك بات أكثر إستعدادًا للإصغاء إلى طبيعة الوضع.
إذا قابله وتمكن من إقناعه فستكون نهاية إنكسار الصين، وقد لا يضرون إلى الإيقاع به.
"حسنًا سيدي، سأكون عندك في نانجينغ عما قريب".
-أتطلع لذلك.
إنتهت المكالمة.
***
"مالذي قاله تشانغ شيويليانغ؟".
"عرض علي الذهاب إلى شيان كما حذر الفوهرر هتلر": هز شيانج كاي شيك، بدا غير راغب في التحدث في هذا الأمر اكثر من ذلك :"ألقي القبض عليهما ما إن يصلا إلى نانجينغ".
***
في النهاية عمل شيانج كاي شيك بنصيحتي.
قبض على تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ وقتيدا للحبس ما إن وصلا إلى نانجينغ.
وبعد إستجوابه أقر تشانغ شيويليانغ بتواصله سرًا مع الشيوعيين وأنه بدعوته لشيانج كاي شيك كان يخطط لإحتجازه مالم يصغي إلى أقاويله.
كما أقر يانغ هوتشينغ بما وضع عليه من تهم بعد عمل مضني، لكن ذلك لم يشكل فرقًا.
جُرد تشانغ شيويليانغ من مناصبه وألقابه وسجن بتهمة التخطيط للخيانة، في حين أعدم يانغ هوتشينغ رميًا بالرصاص.
ثارت قوات الشمال الشرقي التي فقدت قائدها بيد أن شيانج كاي شيك حثهم على الإستسلام، وهو ما أقدمو عليه بعد أن سقطت قذائف المدافع على منطقة شيان.
وبعد هذه الحادثة، أرسل لي شيانج كاي شيك خطابًا بإمتنانه من خلال السفير الصيني في ألمانيا.
وأخبرني أن الصين نجت بأعجوبة من الوقوع في غياهب الجب.
"فوهرر، كيف عرفت ما يحدث في الصين؟".
"أعذرني يا جورينج إذ لا يسعني إخبارك بكل شيء، لك أن تعلم فقط ان لدي مصادري الخاصة".
بالتأكيد لا أستطيع أخبارهم أن مصادري هي 'المستقبل'، وكما توقعت بدا عليهم تصديق عذري.
وبذلك لم تحدث 'واقعة شيان'.
في التاريخ قام تشانغ شيويليانغ ويانغ هوتشينغ اللذين إستهوتهما دعاية الحزب الشيوعي بإستدراج شيانج كاي شيك إلى شيان وحتجزوه حتى تعاهد بوقف هجومه على الشيوعيين بل والتعاون معهم.
الحزب الشيوعي الذي نجى من الدمار بفضل هاذين الأحمقين ظل يوسع نفوذه في البلاد حين كان حزب الكومينتانغ منشغلًا بحرب اليابان، وزداد حجمه إلى مستوى خطير بعد الحرب العالمية الثانية وبدأ الحرب الأهلية الصينية وبتلع البلاد.
الصين الشيوعية ألقت بظلالها طويلًا على أسيا بالمؤمرات وتمويل الإنقسام والحروب، وماو تسي تونج - أكثر دكتاتور أزهق أرواحًا في التاريخ البشري لوحده مصيبة.
فهل سأترك ذلك يعاد؟
إن كان جُل نيتي تحويل الصين إلى حصالتي الجديدة فلا حاجة لي بتحذير شيانج كاي شيك من المؤمرة التي تحاك فوق رأسه.
لكني حذرته لسببين.
أولهم، لست أحب الشيوعيين، لقد ولدت في بلد مقسم بفضل هذه الإيديولوجية، وعشت في آخر ممزق بفضل معاهدة غبية وقدر كبير من الشيوعيين الحمقى، فإني أحسب نفسي أعرف قليلًا عن طعم الأهوال التي كانت تنتظر الصين، فلم لا أخلص مستقبل هذا العالم من المد الشيوعي؟
ثانيًا، بفعلتي هذه أكسب إمتنان شيانج كاي شيك، ما سيمنحنا معاملة تفضيلية من الصين.
وعمومًا، أشعر بالرضى عن النتيجة.
فقد أعرب شيانج كاي شيك عن رغبته في توسيع التعاون وإستيراد مزيد من الأسلحة والتقنيات الألمانية.
كما أعرب عن رغبته في مقابلتي يومًا ما للنقاش التعاون عوضًا عن تبادل البرقيات يمينًا وشمالا.
كل شيء يمضي يسيرًا.
-نهاية الفصل-