في الوقت الذي قابل فيه ريبنتروب السفير الياباني توغو، توصلت مع تراوتمان - السفير الألماني عند الصين وطلبت منه أن يرأس الوساطة بين الصين واليابان.

وللمصادفة تواصل معنا الفصيل الياباني الرافض لتوسع الحرب -من الجيش و الحكومة- لتنسيق هذه القضية.

كما قابل وزير الخرجية الياباني كوكي هيروتا سفيرنا عند اليابان - هربر فون ديركسن وأبلغه بقبول اليابان للوساطة الألمانية لحل النزاع سلميًا.

وقد رأت اليابان وكذلك الصين فتور أمريكا وبريطانيا بشأن النزاع وأنهم منحازون ولا يعول عليهم، فما كان منهم إلا أن إختارو ألمانيا.

أرسل تراوتمان مطالب الصين لدريكسن، وأرسل دريكسن مطالب اليابان لتراوتمان.

مبدئيًا، كانت مطالب اليابان كالأتي:

١، تأسيس حكومة مستقلة في منطقة منغوليا الداخلية.

٢، أن يكون شمال الصين منطقة منزوعة السلاح، وأن ينصب شخص يمكن للحكومة اليابانية التواصل معه إداريًا لتلك المنطقة، وعليه ستعترف اليابان بأن السلطة الأدارية لشمال الصين ملك الحكومة الصينية.

٣، يجب أن تظل شنغهاي منطقة منزوعة السلاح وأن تفوض إدارتها إلى عصبة الأمم.

٤، على الحكومة الصينية إلغاء كافة أشكال السياسات المعارضة لليابان، وحذف التعليم المناهض لليابان من المناهج الدراسية، وأن تستبدل بأخرى يتفق عليها البلدان.

٥، أن يتعاون البلدان -اليابان والصين- على إنشاء جبهة جوية مشتركة ضد الإتحاد السوفيتي.

٦، سيتم خفض رسوم الجمارك المفروضة على البضاعة اليابانية إلى حد كبير، وتظل الأعراف الجمركية المفروضة على البضاعة الصينية المصدرة لليابان كما كانت.

٧، الإعتراف بحكومة مانشوكو.

"أيحسبون حقًا أن هذه المطالب معقولة؟ أليست مطالب المنتصر؟"

ذهل تراوتمان من المطالب اليابانية التي أرسلها إليه دريكسن.

ولكن في نظر اليابان، كانت هذه المطالب تنازلًا حقيقيًا، لكن ذلك رأي اليابان ولم يكن برأي الصين.

الصين التي شعرت بأنها الضحية لغزو دونما مبرر وجدت مطالب اليابان غير معقولة.

لربما من يتفهمون أن ترفض اليابان إعادة ترسيم الحدود كما كانت قبل الحرب، ويمكنهم كذلك تفهم موقفها إن طلبت تعويضات معتبرة، ولكن أن تطرح شروط تبدو كشروط أمة غالبة على أمة مستسلمة بدا غير مقبول للصينين، بل وبدت لهم القضية برمتهًا سطوًا وسطوة.

"أعربت بدوري عن رفضي لبعض هذه الشروط بيد أن اليابان أبدت حزمًا وتمسكًا إلى حد قوض حيلتي".

".. يا معين".

أدرك دريكسن سخافة مطالب اليابان.

ومع كون هذه الشروط هي الأكثر أعتدالا وبدأت بالتنازل عن منطقة شمال الصين كاملة، فإن المرحلة التالية من المفاوضات لن تكون بتلكم السهولة.

وإن إنهارت بسبب رفض الصين فإن اليابان تتوعد بشن معركة حاسمة -ولا قِبل للصين بها غالب الأمر-

"فهمت، أمهلني حتى أعرض الأمر على الرئيس تشيانغ، وأمل ألا ترفع علي سقف توقعاتك".

"لابأس، بوركت جهودك".

وكما خمن تراوتمان، غضب تشيانغ كاي شيك من مطالب اليابان.

"ما العيبة التي عابت عقول هؤلاء السفهاء؟ لم لا يقرون برغبتهم في جعل الصين فناءً لهم؟".

تفهم تراوتمان مصيبة تشيانغ كاي شيك، ولكنه كان مضطرًا لحمله على القبول بالشروط اليابانية، فالوضع متأزم والصين لا تملك خيارًا سوا الإذعان.

رغم تفاني المستشارين العسكرين الألمان، وستبسال الجيش الثوري الصيني، ظل مستقبل الحرب معتمًا.

دمرت البحرية وتقهقر سلاح الجو، والجيش يتراجع كل يوم ولا يتقدم.

"سيدي الرئيس، تزداد معنويات جنودنا سوءً بفعل الهزائم المتواترة، والسخط يعم بين الناس، وأحيطم علمًا أن الوضع يزداد سوءًا".

"إننا عاجزون تمامًا عن إيقافهم".

"هو قرار مذل.. وقد يكون صعبًا، لكن التأقلم مع الواقع أسلم في أحيان كثيرة".

إن إستمرت الحرب كما هي الآن سيصل الجيش الياباني إلى نانكينج.

اليابانيون لا ينظرون للتفاوض إلا لأن ألمانيا تمون عليهم.

ولتجنب الخراب المحتوم لابد أن نتفوض مع اليابان رغم ما به من إذلال.

وحين إنهالت عليه أراء المتشددين والوسطين بضرورة قبول شروط اليابان، وجد تشيانغ كاي شيك نفسه بين المطرقة والسنداد وما كان منه إلا أن قبل والدمعة في عينه.

ولكن ما إن قبل شروط اليابان حتى وقعت واقعة غيرت المعادلة.

***

"أي هراء هذا؟!".

"عار عليكم أن تنسجو هذا الأمر من وراء ظهورنا!".

" إن لم تستحي فصنع ما شئت! جنودنا يبذلون دمائهم في سبيل الأمبراطور كل يوم، وما يلقونه لقائها أمر كهذا؟".

ابلغت أجهزة المخبرات الصينية التابعة لجند المشاة حكومة الكومنتانغ عن ما جائت به ثمرة تجسسهم على بعض إتصالات اليابانيين.

غضب متشددو الجيش بأن علمو أن السلام بحث من ورائهم، وعدوه إهانة لما بذل من دماء الجيش الإمبراطوري خلال الحرب.

"أغرار المجلس الأعلى متشابهون! كلهم جباء لا يعرفون شيئًا عن الشرف والنخوة!".

"أسيلقون بنا بعد أن تحصلت منافعهم السياسية؟".

"إن واصلتم فعل ما تفعلون فسترون منا ما لا يسركم!".

شكل المتعصبون في قيادة الجيش مشكلة حقيقية، ولم تكن مقدرتهم بالمزحة، كما لم تمتلك للإدارة العامة سلطة أو قوة حقيقية لكبحهم.

لذا فإن رئيس الوزراء فوميمارو كونوي ووزير الخارجية كوكي هيروتا اللذين أبديا إستعدادًا بلحث السلام أول الأمر بدأ يظهران التردد بعد أن رأو حجم الغضب العسكري والإنتصارات المتتالية على الجبهة والتي زغللت عيونهم.

"أوصل الجيش الإمبراطوري إلى نانجينغ بالفعل؟".

"إن أستمرينا على هذا المعدل فقد يكون النصر أقرب من ما كنا نعتقد"...

"أهناك ما يدفعنا للتفاوض مع الصين ونحن مقبلون على النصر؟".

"لايجب علينا إضاعة فرصة منحتها لنا السماء!".

تبدل موقف حكومة كونوي من السلام والوساطة الألمانية في يوم وليلة وأعلنت أن شروطها الحالية لم تعد سارية لأنها أقل من اللازم.

كيف لإمبراطورية لا تقهر أن تقنع بمثل هذه الشروط الزهيدة لمن هزيمته مسألة وقت؟

كونوي الذي بات مستيقنًا من النصر ضم صوته لمتشددي الجيش وسحب شروط السلام المقدمة للصين.

أوصل السفير الألماني دريكسن هذا الخبر إلى بلاده، ثم أبلغ به الصين.

***

"أيها الأوغاد قصار القامة والبصيرة، اي يكن، ستذوقون عواقب أفعالكم الغبية".. شتمت بصوت خفيض حين كنت أنظر إلى تقرير دريكسن الذي وصلني أثناء أجتماع عسكري روتيني.

ولربما كان صوتي مرتفعًا قليلًا.

لأن الصمت عم قاعة الإجتماعات، ونظر كل من فيها إلي.

لربما ظنو أنهم سبب مزاجي العكر فقد بدا الجنرالات قاطبة كطلبة يسلمون نتائج إمتحانهم لأولياء أمورهم، متعرقين بغزارة والقلق بادي على وجوههم.

نادرًا ما يرونني متضايقا.

"... حضرة الفوهرر.. أي كان ما يزعجكم فإنه-..."

تجاهلت لعثمت بلومبرج وستوقفته :"إنزعاجي ليس منكم أيها السادة، بل من اليابان لتجهلها وساطتنا".

"أهذا صحيح؟".

بدت الراحة -بل وحتى السرور- على الجنرالات ما إن أدركو أنهم لم يكونو في مرما نيراني.

من الغريب أن ترى الرجال اللذين لهم فخر وقدره بشرات صدورهم يتراجفون بمحض تمتمة.

عمومًا عرفت أن هذا سيحدث، ففي التاريخ مثلا رفضت اليابان الوساطة بسبب الأنتصارات المتعاقبة وختارت تمديد الحرب، وبعد الإستيلاء على نانجينغ وقعت تلك المذبحة الشهيرة.

بلغ عدد الصينين الذين فقدو حياتهم في مذبحة نانكينغ أكثر من 300 ألف.

وإن أحتسبت الإغتصاب والإعتداء ستحصل على أضعاف هذا الرقم.

شتمت لأني شاهدة بنفسي ما سيحدث مرة، وليس لأنني كنت غاضبًا.

أنا جاد.

مبدئيًا من المتوقع أن لا يرضو بهذا القدر.

لذا فقد خططت للأمر مسابقًا.

"ريبنتروب".

"نعم سيدي".

"قل لتراوتمان وديركسن أن يستمرا في المفاوضات وأن لا ينحازا لأي طرف أبدا".

"حسنًا".

"اه، وشيء اخر، أنقل كلماتي إلى تراوتمان، يجب إجلاء كل الألمان من نانكينج على عجل، تلك المدينة ستشتعل عما قريب، محال أن نقبل بأذية مواطنينا".

"عين الصواب، أنا متأثر بوضعكم لشعبنا قبل كل شيء حتى في القضايا الأجنبية".

يا رجل.. إنك تبالغ دونما ريب.

***

بعد سقوط شنغهاي حشد شيانغ كاي شيك كل ما يمكن حشده من جند وعتاد وإمدادات لحماية نانجينغ.

لكن لم يخفى عليه أن التمسك بنانجينغ قد بات مهمة تعجيزية.

لذا مهد تشيانغ كاي شيك لنقل المؤسسات الإدارية والقوات الرئيسية للجيش الثوري إلى ووهان، كما أختيرت تشونغتشينغ عاصمة مؤقتة للصين.

إكتمل إجلاء الجالية الألمانية من المدينة حين إختارت الحكومة الصينية القومية التخلي عن نانكينج.

"تقرير من السفير تراوتمان، تم أجلاء جُل الألمان من المدينة بنجاح، بإستناء بعض الحالات الفردية".

"ذاك يبعث على الإطمئنان، إذا هل وصل كريبل إلى تشونغتشينغ؟".

"بلا، وقد وصل فلكنهاوزن كذلك".

"جيد، وقد حان وقت الغداء، لنتناول الطعام معًا".

وقد كان غدائي دجاجًا.

مع السنين تعودت على غياب الكميتشي ويخنة فول الصويا من موائدي، لكني لم أتمكن من مفارقة الدجاج لذا حرصت على إعطاء الوصفة المفصلة لطريقة أعداده التي تروقني للطهاة.

وصفتي كالوصفة الحديثة التي لا تغادر أغلب البيوت، وهي أن يتبل الدجاج ثم يغطى بخليط البيض والخبز والطحين وثم يقلا في الزيت الحامي.

أحيطك علمًا أني من أكابر عشاق الدجاج المقرمش، وأحبه ساخنًا، ولأنه باهظ الثمن لم أكن أشتريه كثيرًا.

واليوم بطباخين هم طوع بناني بت اكله بكثرة، ولدي فرص اكثر للتنويع كالدجاج المقرمش المبهر بمسحوق الفلفل والبابريكا.

لنتفق أن من العدل أن أتمتع بهذا القدر من رفاهية الطعام في عهد لا أنترنت فيه ناهيك عن إجهاد نفسي وعقلي كل يوم بمشكلات دولية عويصة.

أحسب أني أستحق هذه المكافئة.

ثمت إختلافات طفيفة بين ما هو معهود في القرن الحادي والعشرين وما أعتدت تناوله هنا، بيد أن الدجاج بطبعه لا يعلا عليه، لذا فإني لا أعترض على شيء.

أهم ما أنعم به هنا المقدرة على تناول دجاج مقلي طازج تمامًا.

وإن أضفت إليه كأس من الكولا الباردة ستحصل على وجبة متكاملة، فماذا عساي أطلب أكثر من ذلك؟

"ما رأيك؟ هل تستسيغه؟".

"بصراحة أعتقد أن نعومة الدجاج وقرمشة العجين لهما مزيج جيد".

جورينج الذي أبدا الإرتباك حين رأني أكل الدجاج المقرمش بيدي عوضًا عن أدوات المائدة أول مرة، ثم بدأ في مسايرتي، وسرعان ما ألف ذلك وبات ماهرًا في أكل الدجاج.

ولكن جوبلز بدا في مصاب شديد.

"دكتور جوبلز، مالخطب؟ ألست من محبي الدجاج؟ لم أكن أعي ذلك".

".. اه.. كلا، من فضلك أعذرني على سوء مظهري... لكني أجده حارًا للغاية"..

لابد أن خطأ قد وقع إذ قدم لجوبلز طبق من الدجاج الحار الذي كان معدًا لي.

قد لا يجد الكوريين الذين ألفو تناول شرائح فلفل تشيونغيانغ مع يخنة غوتشوجانج والكميتشي المبهر والمتبل والثوم المغمس في السامجانغ هذا القدر من التوابل الباسلة حارًا، بيد أنها حارة للغاية بالنسبة للألمان في القرن العشرين.

(تعليق المترجم: اللهم إن كان سحرًا فأبطله)

أتذكر برنامجًا تلفزيونيًا كوريًا إستضاف بعض الأجانب لتجربة وجبات من المطبخ الكوري.. ماذا كان إسمه يا ترى؟

أصدقائنا الفرنسيون عجزو عن إكمال طبق الدكجالي لحرارته فغادرو، وهو ما سيجده أي مواطن كوري نموذجي أمرًا غريبًا، فالدكجالي لا يصنف وجبة حارة.

وماذا عن مواطن ألماني معتاد على المطبخ الألماني الذي يكاد يخلو من اي اصناف حارة؟ لربما يحس وكأن النابالم تقرقع في فمه.

اوه.. والنابالم ليس متوافرًا.

"أعتقد أن لبسًا قد حدث على كوادر المطبخ، سأنبههم حتى لا يحدث ذلك ثانية".

"شكرا جزيلا"...

يصعب إطفاء الحرارة بالماء وحده، لذا قدمت له بعض مخلل الفجل والملفوف.

وقد بدا جورينج شمتانًا، كأنه يستمتع برؤية ألم جوبلز.

أعي أن علقتكما ليست الأحسن، لكن أليس هذا المستوى من الحقد زائدًا عن الازم؟

"حضرة الفوهرر!".

فتح ريبنتروب الباب وجائني هرعًا، وقد ملئت بطني بالدجاج توًا وكنت أنتظر التحلية.

"رويدك أيها الوزير ريبنتروب، ألا ترى وقاحة سلوكك مع الفوهرر؟": علق جورينج.

كره جورينج ريبنتروب بقدر كرهه لجوبلز، لذا لم يدع هذه الفرصة لأنتقاده تمر مرور الكرام.

كما يبدو أن جوبلز لم يسعد حقًا بهذا الضيف غير المدعو الذي قاطعهم، فبالنسبة له كان جورينج كافيًا.

"أعذرني على وقاحتي، عندي أخبار عاجلة أود نقلها إلى الفوهرر الآن".

"اي كان عذرك فإن عليك التحلي بالأدب عنـ...-"

"يكفي، لم أبلغ من التجبر ما يقنطني من خبر عاجل، تحدث يا ريبنتروب، عساه خيرًا؟".

"بالطبع سيدي، جائنا طلب من اليابان بسحب بعثتنا الإستشارية العسكرية من الصين".

-نهاية الفصل-

2024/12/25 · 25 مشاهدة · 1714 كلمة
نادي الروايات - 2025