قدمت التيراميسو كحلوى بعد الغداء.
أتعرف أن التيراميسو أبتداع حديث ذو تاريخ أقصر من بوداي جيجيجاي.
أبتكرت هذه الحلوى عام 1967 من قبل الإيطالي روبيرت لينغوانوتو، وهو صانع حلويات من فينيتو للإستفادة من ما يبقى من القهوة والبسكوت الصلب.
كيف أشرح الوصفة شرحًا بسيطًا..
إفرش البسكوت أو البسكويت الصلب -حسب الرغبة- في قاع صينية وسقه بقهوة الإسبريسو ثم أضف عليه طبقة من الجبن الكريمي.
ومن بعدها طبقة من البسكوت ثم كرر العملية حتى الطبقة الأخيرة حيث تضيف الكريما المخفوقة وتضعها في الثلاجة حتى تتماسك، زينها بمسحوق الكاكاو وقدمها باردة.
بصراحة هذا هو مختصر وصفة التيراميسو وأكثرها بساطة، إن أردت إعدادها فقد تجد العملية أقعد قليلا، لكن لنتغاضا عن ذلك فنحن لسنا في حصة طهي.
اي يكن، بما أن طعمها لذيذ فلا يهم بصراحة.
ولأن تسمية "التيراميسو" لم تظهر بعد في هذه الحقبة، بدأ الجميع يسميها "Fürerkuchen" أو "كعكة الفوهرر".
أذلك لأنها لا تملك أسمًا حقيقيًا وصنعت بناءًا على الوصفة التي قدمتها للطهاة؟
بعد اخذ لقمة من الكعكة الباردة سألت ريبنتروب :"إذا فبذلك فإن اليابان تريد منا أن نبين لها موقفنا وإلى أي فريق ننحاز؟".
"بلا سيدي".
"...همم"..
وحين كنت أتدبر الأمر قطع ريبنتروب التيراميسو بالشوكة ووضعها في فمه.
لعلها راقته إذ رفض توًا ان امر له المطبخ بشيء من الطعام بحجة أنه ليس جائعًا.
أعطى هتلر الأصلي الأولوية للعلاقات اليابانية على حساب تلك الصينية، وسحب الإستشاريين العسكريين من الصين بناءً على طلبها، ما دفع الصين لقطع علاقتها الدبلوماسية بألمانيا.
ولكن إن قبلت طلب اليابان فلا مزيد من المعدن الصيني.
وبصراحة ثمت صوت في داخلي يود أن يكون جوابي "تبًا لما تريده اليابان" لكن ذلك غير مناسب حقًا.
اليابان لن تحارب ألمانيا إن رفضت طلبهم، فمهما إمتلئت الحكومة اليابانية الحالية بمهووسي الحرب فهم بالتأكيد يعون أن خوض حرب مع ألمانيا مستحيل تمامًا.
لكن ما أخشاه هو إسترجاعهم للمنهدسين المرسلين لألمانيا.
ستكون تلك ضربة قاسية للبحرية.
بعد برهة علقت قائلًا :"أظن أن ثمت حلًا، بما أننا لا نستيطع الإنحياز لأي منهم، لنقم بأرضاء الطرفين".
"كيف تود القيام بذلك سعادتك؟".
"بسيطة، سنقول لليابانيين أننا سنفعل ما طلبوه لكننا لن نفعل".
"نعم؟"...
"ألم تفهم مقصدي؟".
هل قلتها قولًا مبهمًا؟ ظننت أني بسطتها.
فأوضحت قولي :"دعني أبسطها، سندعي قبول مطلب اليابان، في حين نترك المستشارين العسكريين".
"فهمتك حضرة الفوهرر... ما أعنيه أن هذا الحل ليس دائمًا، فسيأتي يوم وتلاحظ فيه اليابان تسويفنا، وعواقب ذلك على العلاقة بين بلدينا لن تكون بالصغيرة".
لم يبدو ريبنتروب مقتنعًا بما قلته.
"اعي ذلك تمامًا، ولم أنتهي من حديثي بعد فأنصت، سأرسال أمر إستدعاء للمستشارين العسكريين، ولكن، ماذا عساي أفعل إن لم ينصاعو لأوامري؟".
"...؟!"
سأل جورينج وقد بدا متفاجئًا :"أتقول أن علينا حملهم على العصيان؟"
ليس عصيانًا إن كان عصيانًا مخططًا.
"سأتوصل مع فالكنهاوزن مسبقًا لأشرح له القضية، الفكرة أن نجعل الأمر يبدو عصيانًا في أعين اليابانيين، وبما أنه خالف أوامري الرسمية ببقائه في الصين، فماذا عسانا نفعل؟".
"اوه"..
بدا جورينج وريبنتروب منبهرين إلى حد كبير، وبالكاد كانا قادرين على غلق أفواههم.
أما جوبلز فقد كان له رأي اخر.
"أني لمعجب بحكمتك حضرة الفوهرر، ولكن، مهما بلغت جودة المسرحية، ألن يعيب مهابتكم أمام الأمم أن فشلتم في إخضاع جنرال يعصي الأوامر علنًا؟ ومن يعلم إن كان ذلك سيأثر على إيمان الناس بسلطتكم".
خشي جوبلز أن يرى الأخرون الامر ضعفًا في قيادتي.
وهي نقطة غابت عن بالي، كما هو متوقع من جوبلز، للعباقرة تفكير مختلف عن سائر الناس.
"وهذه مشكلة حقًا، لربما علينا منح فالكنهاوزن حجة أكثر وضوحًا للبقاء".
يا ترى.. أهناك طريقة تحفظ وقاري قدر المستطاع، وفي الوقت نفسه تقنع اليابان؟..
اه، لربما يمكنني تجربة ذلك...
***
"أهذا من الفوهرر؟".
"نعم جنرال".
سلم كريبل لفالكنهاوزن ظرفًا بنيًا، وقد ختم الظرف بملصق أحمر يرمز لسرية ما به من معلومات.
فتح فالكنهاوزن الظرف وقرأ ما فيه.
تشنج فالكنهاوزن وهو يقرأ بصمت.
لكنه ضحك في النهاية.
"هيه! ما كنت لأفكر بذلك!".
"على ماذا يحتوي؟": لم يعرف كريبل ما جاء في الظرف.
فأجابه فالكنهاوزن بصوت خفيض.
"طلبت اليابان أن نسحب مستشارينا من الصين، وستقدم لقاء ذلك مزيدًا من الدعم وتكنلوجيا السفن لألمانيا".
"إذن؟ ما قول الفوهرر؟".
"مبدئيًا قرر سعادته سحب المجموعة الأستشارية من الصين".
"هاه؟ لكن ذلك-..."
كان كريبل مصدومًا من هذا القرار، وقد تبسم فالكنهاوزن بأن رأى إرتباكه وأضاف:
"على الورق".
"على الورق؟.. ماذا تعني بذلك؟".
"أعنيه حرفيًا، يصعب تجاهل طلب اليابان إن نظرنا إلى قضية إعمار البحرية، لذا يبدو أن علينا التظاهر بتنفيذ مطلبهم، سنعيد أغلب الرجال إلى البلاد ولن يبقى سواي وعدة أفراد، وستعلن برلين أني أصبت بمرض محلي اكثر شيوعًا في الصين ولا أستطيع العودة إلى أوروبا".
بسبب كثرة المشاكل التي تترتب على عصيان فالكنهاوزن للأوامر علنًا فإن عذرًا كالمرض أفضل.
وإن إعترضت اليابان على بقاء فالكنهاوزن في الصين فإن الرد سيكون "لا نستطيع حمل أحد على العودة في يوم وليلة".
أبدى فالكنهاوزن إعاجبه بفكرة الفوهرر.
لطالما رأى صديقه فيتشليبن أن هتلر رقيب جاهل لا يفقه شيئًا في فن الحرب، ولكن أنى له أن يأتي بفكرة كهذه إن لم يتسم بشيء من الدهاء؟
"هذا الأمر بالغ السرية، ولا يجب أن يعرف به كل من هب ودب، وسأبلغ الرئيس تشيانغ به شخصيًا".
"فهمتك يا جنرال".
***
الثالث عشر من ديسمبر عام 1937.
أحتل الجيش الياباني نانجينغ عاصمة الصين.
وكالقصة المعروفة، قتل الجيش الياباني عددًا وقدره من المدنين وما بقي من الجنود الصينين والأسرى وغيرهم ممن لم يتمكن من الفرار، وقد أسرفو في القتل.
اغتصبت النساء، سواء على أيدي الجند او أهلهم الذين اكرههم الجند، وضرب الاطفال بالحراب أو ألقو أحياء في المواقد.
كما قطع عشرات الأطفال أوصالا وأطعمو للكلاب العسكرية.
لا أحد يجهل أن الحرب مرادف البطش، وستخرج منها قصص مأساوية دائما، وأن السيطرة على الجند امر بالغ الصعوبة، لكن العالم يجمع أن ما حدث في نانجينغ قدر من التنكيل والإنفلات المجحف.
ثمت قصص عديدة من نانجينغ، وأبرزها ما روي عن جون رابي، الرئيس التنفيذي لشركة سيمنز الألماني وعضو الحزب النازي الذي أختار المكوث في نانجينغ.
لقد شهد بعينيه ما حصل في المدينة.
لقد صعقه هول المنظر والبشاعة التي عمت شوارع المدينة، حتى أنه بادر في إنشاء منطقة امانة مستخدمًا هويته كعضو في الحزب النازي بالتعاون مع مابقي من الأجانب في المدينة وجمعو فيها ما تيسر من الصينين لحمايتهم.
وأسرفت جهوده عن إنقاذ 250 ألف صيني، لكنه أعيد قسرًا إلى بلاده بعد إحتجاج اليابان على سلوكه غير المرخص.
وحين غادر المدينة قطع عهدًا أن يقص ما رآه ويُسمع العالم بما حل في المدينة ما إن يعد إلى ألمانيا، وسيعود للمدينة دونما ريب.
وبمجرد عودته إلى بلاده كتب رسالة شخصية إلى هتلر.
لقد كتب ما رآه في نانجينغ من ذبح وإعتداء وغتصاب.
كنازي مخلص أراد أي يعرف الفوهرر ما حدث في المدينة فلربما يقدر على تغيير مصيرها وأنقاذ أهلها.
وذاك هو الحل الوحيد الذي جاء على باله لأنقاذ الأبرياء في المدينة.
"احس بالعطش"...
ما إن أكمل رسالته غمره العطش الذي تجاهله طويلًا.
وقف إلى مطبخه وحين كان مقبلًا على ملء كوبه بالماء سمع طرقًا على بابه.
"هل السيد جون رابي موجود هنا؟".
من يسأل عنه في هذه الساعة؟
لربما جائو من الشركة.
ترك الكوب على المنضدة وفتح الباب.
لكن من كان عنده لم يكن عملاء شركة سيمنز الذين توقعهم بل رجال أقوياء فارعي الطول، يرتدون معاطفًا وقبعات فيدورا.
أجفل رابي من الجو الذي أحاط بالرجال وأصبح أكثر حذرًا.
"هل أنت السيد جون رابي؟".
"بلا.. ومن أنتم أيها السادة؟"
"الجستابو".
"الجـ.. الجيستابو؟.. ماذا..؟".
لحظة، لم جاء الجيستابو إليه؟
"نود منك مرافقتنا سيد جون رابي".
وبطريقة ما وجد رابي نفسه جالسًا بين عملاء الجستابو في سيارة فولكس فاجن سوداء.
حدث كل شيء بسرعة من طرق الجيستابو لبابه حتى ركوبه السيارة معهم.
"عفوًا.. إلى أين تأخذونني؟"...
"لا نستطيع إخبارك، ستعرف حين تصل": أجابه عميل الجيستابو الذي يقود السيارة بنبرة فاترة، وفي معناها ان لا مزيد من الأسئلة.
نوى رابي أن يلح عليهم بالأسئلة، لكن الهالة القمعية التي أحاطت بهم منعته من فتح فمه.
هل إرتكب فعلة ما؟ حاول التذكر وقلب رأسه يمينًا شمالًا، لكنه لم يتذكر شيئًا.
إذا فلماذا يريدونه؟
وكان المكان الذي توقفت عنده السيارة هو المقر الرئيسي.
***
عاش رابي سلسلة من صدمات.
بدأ بقدوم الجيستابو إلى مسكنه وأخذه دون أي شرحو له شيئًا، حتى وصوله عند المقر الرئيسي.
والصدمة الكبرى أن خرج الفوهرر أدولف هتلر بشحمه ولحمه للقائه.
هذا لوحده شيء يكاد لا يصدق أنه حدث.
وما زاده دهشة أن الفوهرر يعرف ما حدث في نانجينغ وما مر به من أحداث رغم أن الرسالة لا تزال ملقات على مكتبه.
وقد تمنى لو إرتدى بدلة أفضل..
"سمعت بما صنعت في نانجينغ، لقد فعلت الصواب".
"فعلت ما كان ليفعله أي أنسان له ضمير".
لم يفهم رابي كيف بلغت أفعاله في نانجينغ مسمع الفوهرر، لكن السرور غمره بأن إستدعاه لسماع حكايته.
"ما قمت به اكثر من أن يقوم به الجميع، لقد قدت و خاطرت بنفسك بشجاعة لأجل قضية إنسانية بحتة، أنت فخر الشعب الجرماني".
"... ثنائكم أكثر من ما أستحق".
أهو يحلم الآن بأنه قابل الفوهرر الذي عده قدوة وأثنى عليه؟ ياله من حلم يكاد يبدو واقعًا.
امل إن كان حلمًا ألا يصحو منه أبدًا.
***
"سمعت بأنك مررت بوقت عصيب في نانجينغ، لربما لم تتناول طعامك بعد كل قبل أن يبرد طبقك".
قدمت لجون رابي عشائًا كبيرًا لم يعتده رغم منزلته من رفعة القوم، ولعلها المرة الأولى التي يقدم له عشاء مثله.
اه، هذا يعيد إلي ذكرى أولمبياد برلين قبل سنوات، ساعتها أبدا سون كي جونغ ونام سونغ رونغ وحتى جيسي اوينز التعابير ذاتها.
"أهذا معد لي؟".
"بلا".
"لم؟".
"لا سبب محدد غير أني أرى أن رجلًا مثلك يستحق اكثر من ذلك".
جون رابي.
لم يكن عنصريًا رغم أنتسابه للحزب النازي، وأحد رجال القرن، رجل أنقذ 250 ألفًا من المذبحة مستغلًا هويته كمواطن ألماني - وهي دولة صديقة لليابان.
بعد الحرب كرمته الصين ولقبه البعض بـ "بوذا نانجينغ".
مع ذلك، رغم أنجازاته التي قد تأهله لنوبل السلام، انتكست حياته من كرب إلى كرب بعد مذبحة نانجينغ.
فبعد أن عاد إلى بلاده هم بكتابة رسالة لهتلر تقص ما عاشه وراه، بيد ان هيملر الذي تخوف من تضرر العلاقات بحليفتهم المستقبلية - اليابان، صادر الرسالة وقد خضع جون رابي لتحقيق الجيستابو.
ومع ذلك أطلق سراحه سريعًا إذ تبين أنه لم يقم بعمل ضد النظام النازي مع تحذير بسيط من الجستابو، وهو -"لا تكشف تحت أي ظرف عن ما حصل في نانجينغ".
ومع أنهيار ألمانيا النازية بعد الحرب، دفع ماضيه كعضو في الحزب النازي قوات الحلفاء للقبض عليه وإحالته للمحاكمة.
وبعد تكركب ومعانات طويلة عريضة أخلي سبيله إذ ثبت عدم تورطه في أي جرائم حرب أو جرائم ضد الأنسانية، وفي النهاية جرد من كل ممتلكاته وترك ليعيش الفقر.
لكن الصين لم تنسه، وجمعت له التبرعات، لكن ذلك لم يغير من حاله حقًا وستمرت معاناته.
لربما كان حظه سيئًا، فلو عاش اطول قليلا لربما عاش حياة أكثر راحة وتلقى العلاج والدعم من الحكومة الوطنية كحال فيلكنهاوزن، لكنه توفي بعد خمس سنوات من انتهاء الحرب، اي عام 1950، بجلطة دماغية.
وعبرة هذه القصة أفعل خيرًا تلقى مرًا.
دعكم من هذه القصص القديمة، بربكم، من أكون أنا؟ ألست أدولف هتلر زعيم الرايخ الثالث الموقر؟
منصب يمنحني السلطة لأجعل اي شخص يروق لي يعيش حياة مريحة في هذه البلاد.
"هل راق لك الطعام؟".
"بلا، إنها المرة الأولى التي اتناول فيها طهيًا شهيًا كهذا".
إنشغل رابي بتقطيع شريحة من لحم العجل وحتسى الشمبانيا، كما تذوق الكافيار لتغيير النكهة.
وبعد تناول حلوى الأناناس تجاذبنا أطراف الحديث.
"كما تعرف مسبقًا يا سعادة الفوهرر، نانجينغ جحيم على الأرض".
أول كلمة قالها رابي هي ما حقنه في صدره طويلًا، مخرج فيه كل قنوطه من الجيش الياباني، واعي أنه متأثر بعواطفه فستمعت إليه دون أن أقاطعه.
"الجيش الياباني بربري تمامًا، ولا يمكن أن يعد جيشًا متحضرًا، لقد قتلو الناس عنوة، سفكو الدماء حتى بات السير دون أن يلطخ نعلك بالدماء محالًا، يجب أن نُعلم العالم بما حدث، فبذلك وحده ستوقف اليابان عدوانها!".
"أنت على حق سيد رابي، ولكني اخشى أن ذلك غير ممكن".
-نهاية الفصل-