العاشر من اكتوبر عام 1938.
تقدم الفيرماخت نحو السوديت.
وقد إستقبل ألمان السوديت الفيرماخت بفحاوة ملوحين بأعلام الهاكينكروز.
دقت أجراس الكنائس في كل أنحاء المانيا، وخرج الناس للشوارع إحتفالًا.
فبعد الراينلاد والنمسا، عادت السوديت إلى الوطن الأم دون سفك قطرة دماء واحدة.
ولم يكن الألمان وحدهم من أحتفلو بثمرة هذه القمة.
وعدت بضمان أمن تشيكسلوفاميا مقابل السوديت، فعاد تشامبرلين بميثاق موقع، وهو ما فرح به البريطانيون.
"أعزائي المواطنين! عدت بعد لقائي للفوهرر هتلر، وهذا التعهد بين يدي يحمل توقيعه، وأعتقد أنه بداية عصر السلام، هاهو عصر السلام الحقيقي يحل علينا!".
وقد هلل الفرنسيون كالأنجليز لتحاشيهم مغبة الحرب.
وحدهم التشيكسلوفاكيون ظلو قانطين من هذه المعاهدة التي جرت فوق رؤوسهم وسلبت ارضهم دون رصاصة واحدة.
أستقال بيش من منصبه متحملا المسؤولية عن فقدان السوديت، وقد خلفه المحامي السابق إميل هاشا رئيسا للبلاد.
وحين أحتفل الجميع عدا التشيكوسلوفاكيين عملت على الخطوة التالية.
"حسنًا هايدريش، ماذا وجدت؟".
"بدأنا في إيثاق المراقبة عليهم كما أوعز فخامتكم، وقد لاحظنا تحركات مريبة، يمكنكم رؤية ذلك هنا"...
إحتوت الوثائق التي سلمها هايدريش على معلومات مفصلة عن أنشطة الرجال المدرجين في قائمة المراقبة.
الأكيد هو أنني لم أخطأ بأن عهدت بالأمر لهذا الرجل، فكما يقولون دع الخبز للخباز.
"والأدلة؟".
"مؤمنة، قبضنا على أحد مرؤوسيهم ولم يتطلب الأمر سوى بعض الضرب ليبلل نفسه ويبوح بما عنده".
"هل قتلته؟".
"كلا، لا زال حيًا حتى اللحظة".
"لابأس، أعتني بأمره بعد 'التنظيف'".
"مفهوم".
جمعت من الأدلة القدر الكافي، وكل المبررات جاهزة.
وأستعداد لأي طارئ أمرت بتعزيز الأمن على المقر الرئاسي وستدعيت كبار المسؤولين.
كما أكتملت الإستعدادات لنشر القوات العسكرية.
وها قد حانت الساعة.
***
الرابع والعشرون من أكتوبر عام 1938.
برلين، ألمانيا.
"فعلها هتلر ثانية، يال قسوة القدر".
دخن بيك علبتين كاملتين من السجائر، وظلت الأعقاب التي لم تخمد إخمادًا صحيحًا متكدسة في المنفضة كأنها ستنهار بلفحة من الريح.
لم يفهم بيك رغم كونيه جنديًا محنكًا في الجيش.
لم وكيف تنجح كل إستراتيجيات ذلك الرقيب نجاحًا باهرا؟
أهو مبارك من الإله كما يزعم أنصاره؟
كلا، محال أن يكون.
هز بيك رأسه.
محال أن يكون محرض سطحي مثله مباركًا، محال تماما.
صب بيك لنفسه كوبًا من الكونياك الشديد لتهدئة افكاره وجترعه في شربة واحدة، وما أن نزل الخمر إلى مريئه حتى أحس بحرقته.
حين سمع بيك بهتلر أو لمرة لم يأبه لأمره.
ولم يأبه لرجل أو أثنين يدعون أنفسهم ثوارًا ويفتعلون أعمال شغب تبدو كألاعيب الصبيان؟
لذا سرعان ما نسي بيك هذا الأسم تماما.
وحتى حين بدأ الحديث عن كتابه كفاحي لم يهتم بيك.
ماله ومال ما يدعي الناس أنهو تنبؤات، ولا زمن ذاك الهراء عديم المعنى.
ولكن الكساد العظيم قد حدث، وقد غزت اليابان منشوريا بالفعل.
ما زاد من أنصار هتلر.
وحين بدأ أنصار هتلر وأعوانه النازيون يظهرون بين اكابر الجيش بدأ بيك يحذر.
فهذا الهتلر لم يكن رجلا عاديا كما كان يظن.
بل هو رجل خطير.
حول بيك طرد الضباط النازيين من الحرس الوطني، لكنه فشل بسبب معارضة الرئيس هيندنبورغ.
فحتى هيندنبورغ بطل الحرب العظمى وأسطورة الجيش الألماني أعجب بهتلر وصار من كبار مؤيديه.
وقد نما هتلر إلى درجة لم يعد فيها بيك قادرًا على هز مقامه.
"...أعلي قتله؟"..
حين قرر هتلر إستعادة الراينلاند دبر بيك إنقلابا عليه.
لكنه أرتكب خطأ ساعتها إذ عدل ووافق على الأمر بضغط هتلر، لكن بيك لم يعده خطأ وقتها.
فقد أراد أن ينتظر ويحكم، فإن فشل هتلر وواجه ضغط الإنجليز ستكون تلك ساعة بيك الذهبية.
وقد يتجنبون الحرب إن سلمو هتلر للفرنسين.
وا حسرتاه.
أعيدت الراينلاند دون سفك الدماء، وقد برز هتلر كرجل له قوة مطلقة في ألمانيا.
هتف الناس بسمه، ومتلئ الفيرماخت بأنصاره.
وحتى صغار الضباط الذين كانو يتحاشون النظر في عيني بيك غدو من أكبر أتباعه.
حفانة من الإنتهازيين الجهلاء.
رمى بيك كأسه على الطولة في غمرة غضبه، وقد تحطم الكأس وخدشت الطاولة.
شعر بيك أن ألمانيا بأكملها غدت سفينة للحمقى.
ذاك الأحمق رايخيناو يعلق صورة هتلر في غرفة نومه الرئيسية.
وأما عن جوديريان وكيتل فهما كلاب هتلر الوفية ومنهمكان في لعق حذائه.
وحين اخرج بيك اخر سيجارة من العلبة وكان مقبلا على إشعالها...
جائه ضيف غير مدعو.
أقتربت خادمة بيك منه بسرعة وأبلغته.
"سيدي، جائنا ضيوف يودن لقائك".
"ومن يكون هؤلاء الضيوف؟".
"قالو أن الجنرال فيتزليبن أرسلهم".
"فيتزليبن؟".
"بلا".
لأي سبب أرسل فيتزليبن أشخاصا إليه في مثل هذه الساعة؟
سألت الخادمة بعد أن رأت بيك يميل رأسه متدبرًا :
"هل أطلب منهم العودة لاحقا؟".
"كلا، أدخليهم".
وقد جائه من فيتزليبن رجلان.
وهما رجلان قويا البنية يرتديان معاطف وفيدورا.
"إذا، مالذي أرسلكم به فيتزليبن؟".
"عند الجنرال أمر عاجل يود بحثه معكم، من فضلك تعال معنا".
"الآن؟ في جنح الليل؟".
"نعم".
"إن كانت القضية مهمة حقا فلم لا يتصل علي؟".
"أرسلنا لأن الأمر لا يمكن أن يبحث على الهاتف".
ثمت خطب ما.
أدرك بيك ذلك.
ليس شرطا أن يبحثه معه على الهاتف، فرغم أرسال فيتزليبن الرسل له أحيانا إلا أنه لا يعدل عن الإتصال به إن كان الأمر عاجلا على الأقل، لذا إن كان هذا عاجلا لتصل عليه طالب منه أن يلتقيا.
ولكن أن يرسل رسلا لأحضاره بحجة أنه خشي التنصت على المكالمة؟ هناك شيء مريب، وذاك ما أخبره به حدسه.
"البرهان؟".
"أعذرني فلا نمتلك الوقت لمزيد من التأخير، علينا الذهب فورًا".
"حسنًا.. أمهلتي لحظة سأجري مكالمة وأعود إليك".
"سعادتك.. إحتمال التنصت قائم-".
"أصمت، لن يستغرق الأمر مني دقيقة".
حين إستدار بيك لإلتقط سماعة الهاتف سمع صوت شيء يسحب من القماش.
أحد رسل فيتزليبن سحب مسدسًا و أشهر به نحوه.
في اللحظة التي رأى فيها بيك فوهة المسدس تجمد في محله ناسيًا ما كان يفعله.
"يالك من رجل مزعج، أتبعنا بهدوء في حين لازلت أكلمك بلين" .
***
في الوقت ذاته.
زار ضيوف فيتزليبن أيضًا.
أحس فيتزليبن بالإرتياب مبكرا وحاول سحب مسدس Luger من الدرج لكن عملاء الجستابو كانو أسرع منه.
"اكك!"
أستقرت رصاصة مسدس عميل الجستابو من نوع Walther PPK في كتف وويلهلم وأسقطته أرضًا ممسكًا بكتفه الدامي.
قال عميل جيستابو ذو ندبة ممتدة من ذقنه باسمًا :"لا تعد فعلة هوجاء كهذه مجددًا وإلا فإن الرصاصة القادمة ستستقر في صدغك".
لم يكن فيتزليبن قادر على التفوه بكلمة حين تقدم عميل الجيستابو وكبل يديه خلف ظهره بالأصفاد غير ابه لأصابته وغطى رأس بخطاء يحجب عنه الرؤية.
ألقي بعدها في الشاحنة الباردة.
لكن كانريس لم يكن كالرجلين الذين سبقاه.
كزعيم الـAbwehr لاحظ الأمر مبكرا وحاول الفرار عبر الباب الخلفي.
"إنه يهرب!".
"أمسكوه!".
ولكن عملاء الجيستابو لم يتقاعسو، فما إن أدركو محاولة هرب كانربس حتى سعو خلفه.
رغم ماضيه المشرف في الهروب من اسر البريطانين خلال الحرب العالمية الأولى والعودة إلى بلاده ظل للكبر أثره عليه.
لم يركض كثيرا حتى بدأ يلهث، إنه في الخمسين من عمره وغدا جسده الذي كان خفيفًا في ما مضى ثقيلا ولينًا وضعفت رئتاه وقلبه.
"اللعنة"...
تخلا كناريس الذي بلغ جسده حده عن الهرب وختار القتال.
لم يرد أن يقبضو عليه كأرنب جبان، أراد أن يأتي بواحد أو أثنين منهم معه إلى الآخرة.
صوب بمسدس Walther PPK ناحية رجال الجيستابو الراكضين نحوه وضغط الزناه.
"اه!!!".
"جيردر!"
حين تهاوا عميل أصيب برصاصة في فخذه هرع إليه زميله لمساعدته.
أطلق كانريس مجددا لكنه لم يصب هذه المرة.
"أنت محاصر كانريس! سلم نفسك بهدوء!".
"ألقي سلاحك أرضًا!".
"ياله من مطلب سخيف يا أنذال هيملر":سخر كانريس من مطالبة الجستابو له بأن يستسلم وأطلق على هدفه التالي.
وقد كان هدفه رجل يتوارى خلف جذع شجرة مراقبًا تحركاته.
ولكن قبل أن يضغط الزناد ضربت رصاصة من البعيد يده.
"اه.. أيها اللعين...".
إستهدف قناص يتوارا بين الشجيرات يد كناريس.
لو كان مخولا بقتله لأصابت الرصاصة رأسه، ولكن بأستهداف يده عوضا عن رأسه أو قلبه فهو مأمور بإحضاره حيًا.
دفع الإرتداد المفاجئ كانريس إلى أسقاط مسدسه.
حاول إلتقاط سلاحه بيده اليسرى لكن الرصاصة التالية إستهدفتها.
صرخ كانريس متئلمًا.
"أقبض عليه!".
"أمسكته!".
وجد كناريس نفسه عاجزًا حين حاصره ثلاث أو أربع من رجال الجيستابو الأقوياء كخنزير بري وقع في الشرك.
"أمسكناه أخيرًا، إنه كالكلب المسعور".
***
"قبضنا على الثلاثة، لودفيج بيك، وإروين فون فيتزليبن، وويلهلم كانريس".
"حسنًا حسنًا، ياله من عمل فذ".
بعد أن قبض على الثلاثة المزعجين أنتهت هذه اللعبة.
أشعر بالراحة.
كنت راضيًا عن أداء هايدريش فأمرت لي بكأس من الكولا الباردة، وقد أحضره إلي كراوس في صينية مليئة بالثلج.
"لا أستطيع الإمتناع عن إحتساء الشراب إحتفالا بيوم جميل كهذا، عليك أن تشاركني يا كراوس".
"شكرًا جزيلًا".
وجدت نفسي جائعًا، ولربما يكون ذلك لأني كنت على أعصابي طوال العملية، أنعشت مريئي بالكولا وتناولت شائح اللحم حين جائتني أنباء جديدة.
"فوهرر؟ تم القبض على هانز أوستر".
"جيد، أنا راضٍ تماما".
هانز أوستر ضابط من الفيرماخت، وقد قبض عليه في التاريخ وأعدم بتهمة التآمر في محاولة أغتيال هتلر.
سبتمر من عام 1938 وفي أوج أزمة السوديت.
خطط اوستر الذي كان وقتها مقدمًا للإنقلاب على النازيين وهتلر لتشكيل حكومة جديدة ما إن يقدم على غزو تشيكسلوفاكيا.
وقد سميت لاحقا بـ"مؤامرة أوستر"، ولكن عكس ما توقعه المتآمرون أستسلم الحلفاء -فرنسا وبريطانيا- لما أراده هتلر ولم تقع الحرب، ما جعل من خطة أوستر لاغية.
وقد شارك أوستر بعدها في عملية فالكيري الشهيرة التي هدفت إلى إغتيال هتلر في العشرين من يوليو عام 1944، وقد أعتقله الجستابو وأعدموه قبل أنتهاء الحرب.
ومن ما سبق يعد اوستر بطلا عند الألمان في القرن الواحد والعشرين، وقد حظي بسمعة طيبة كجندي ذو ضمير، لذا فقد عينته وقربته مني خلال مرتي الماضية.
حتى طعنني في الظهر.
خلال حياتي الماضية كان أوستر من أطلق النار على هيس وجوبلز وكبل يدي.
لن أنسى ذلك القبو المعتم الذي مكثت فيه طويلًا.
كما لن أنسى نظرات هذا الرجل إلي يوم أعدامي.
لا أريد له موتة رحيمة أبدًا.
لم يكن بيك وكناريس فيتزليبن وأوستر وحدهم من تآمر علي، بل وكذلك فرانز هالدر، هانز يورغن فون بلومنثال، هينينغ فون تريشكوبف، إريك فيلغيبل، فريدريش أولبريخت، كارل جويرديلر، كلهم شاركو أو سبق لهم أن أعانو تجمعات مناهضة للنازية.
وقد قبض عليهم جميعا.
سجن الخونة في زنزانة قبو الجستابو الثامنة في شارع برينز ألبريشت.
وحين باح المساجين تحت التعذيب بأسماء رفاقهم، صدرت قائمة أعتقالات جديدة، وحمل هؤلاء الجدد على البوح بأسماء رفاق اخرين وهكذا دواليك.
وبعد يوم من بدء عميلة "الخلد" ملئ قبو الجستابو عن اخره.
ولأن كل سجين يحبس وحيدًا، أصبح محالا على أقبية الجستابو إستيعاب الجميع.
ولذا حبس ما فاض من مساجين في سجون الشرطة القريبة وثكنات الفيرماخت، وقد وضع حرس خاص للأشراف على أمرهم.
ألتقط هيملر صورًا للمساجين وجاء بها إلي.
وجوه بائسة تظهر اليأس والخوف والعجز، أعين متورمة وشفاهة متشققة نازفة، تكاد لا تجد موضع سليما من الكدمات على ما كشف من أذرعهم وسيقانهم وقد كانت لبعضهم علامات أسنان على سواعدهم ولعلهم حاولو إذاء أنفسهم.
بدا هؤلاء الخونة كالخنازير التي تنتظر الجزار ليشحذ موسه.
"هيملر".
"نعم فوهرر".
"لا يعلم أحد كم إنتظرت هذه اللحظة".
صباح الخامس والعشرين من أكتوبر.
أبلغني هايدريش أن عملية الخلد قد اكتملت.
اكتملت عملية التطهير التي لقبت في ما بعد بـ"ليلة السكاكين الطويلة الثانية" بنجاح.
-نهاية الفصل-