"لم أفكر في أنهم قد يخوننا"...

"لقد تمكنو أيضًا من إستعادة مركز الشرطة، على الرغم من قيامنا بإفراغ كل ما فيه من سلاح إلا أن معنويات قوات العاصفة تعرضت لضربة شديدة، مالذي ستفعله الآن؟".

سألني روم بهدوء أثناء تدخينه لسجارة وقد إعترا وجهه تعبير متصلب، نظر الأخرون إلي أيضًا مطالبين بالحصول على إجابة.

"إن هذا خطأي وحدي". أغمضت عنين بهدوء واضعًا بيدي على صدري، وتظاهرت بالإحساس بالذنب حيال ما حصل من خطأ :"لقد غمرتني نشوة النصر، كان الأجدر بنا أن نمنعهم من الذهاب إلى أي مكان لأن الخيانة مكتوبة على وجوههم لكن ذلك غادر بالي، أعتذر، لا أعرف كيف كنت غبيًا إلى هذا الحد".

"لاداعي لأن تعتذر إذ لم يفكر أي منا في ذلك" عندما إعتذرت رفع روم يده محرجًا لإيقافي.

"شريك وموريس، أريد منكما أن تسديا إلي معروفًا"..

"من فضلك تتحديث يا سيدي، سأبذل قصار جهدي للقيام بما تطلبه!".

"وأنا كذلك لن أبخل بما يسعني".

أعرب كل من شريك وموريس عن إستعدادهم لأداء المهمة.

"من فضلكما، خذ الجرحى إلى المستشى".

"لكن يا زعيم-"...

"لا تقلقو علي، إفعلا ذلك".

بذلك غادر شريك وموريس بقلق بادي على وجوههم.

"جورينج، هيس".

"نعم يا زعيم؟".

"أريد منكما أخذ جميع الوثائق الهامة والإجتماع بهانفستانجل، وليأتي الأخرون معي".

***

التاسع من نوفمبر، الساعة ال11:30 صباحًا.

سرت في الطليعة مع جماعة من كبار أعضاء الحزب، بما فيهم روم وستراسر وحتى لودندورف.

من خلفنا قوات العاصفة وأعضاء الحزب مسلحين، وقف المارة وشاهدو مسيرتنا في صمت.

سرنا عبر ساحة مبنى البلدية وأمام المقر العسكري.

"قفو مكانكم!".

"لا تتقدمو أكثر من ذلك!".

تمركزت القوات المسلحة لإعتراضنا أمام المقر العسكري، وقد أشهرت عشرات البنادق نحوي مباشرة ونتظر الجنود أمر قادتهم لإطلاق النار على مسيرتنا.

وصاح بنا ضباط -بدا أنه القائد- على صهوة جواده بمكبر صوت.

"إسمعو أيه المتمردون، أنتم ترتكبون جريمة بإقدامكم على الإخلال بالنظام وإثارة شغب غير قانوني، ألقو أسلحتكم ونفضو-".

"إخرس".

بدا أن الضابط لم يتوقع مقاطعتي له فسكت للحظة، ولم أضيع هذه الفرصة فصحت به.

"أنحن متمردون؟ نفتعل شغبًا؟ بأي بهتان تزعم ذلك؟ نحن وافقون لقضيتنا! لقد وقفنا لطرد الخونة الذين باعو الشعب الألماني من برلين، نحن هنا للقضاء على من لا يهتمون إلا بمصالحهم متجاهلين الواقع الذي يعيشه الشعب الألماني، نحن هنا لإعادة الحق إلى أصحابه، الشعب!

كمواطنين ألمان أحرار لابد أن تعرفو مالذي نريد قوله، وأقلها ألا تقفو في طريقنا!".

بعد أن أنهيت حديثي نظرت إلى رافاقي لنأكد لبعضنا على عدم التراجع، وتقدمنا نحو الأمام.

بدا الجند مترددين إذ رأو أننا تقدما ولم نتراجع رغم رؤية بنادقهم، وكيف بدأت الحشود المحيطة الهتاف لنا.

لكن الضابط لا زال صاملًا.

"أطلقو النار!".

وبعد أن أطلقت أول رصاصة، أطلق الجنود عشرات الرصاصات دفعة واحدة، وقد شعرت بإتعاش جسد زميلي المجاور لي.

"حسنًا لم أتوقع أن يسقط هنا"... تمتمت بصوت غير مسموع.

تهاوا أوتو ستراسر على الأرض وهو يتقيأ دمًا.

الدم الذي تدفق من صدره حيث إستقرت الرصاصة صبغ معطفه بالأحمر.

"تراجعو! تراجعو فورًا!"

"ليعد الجميع أدراجهم!".

أطلقت قوات العاصفة النار وأسقطت بعض الجنود، لكن الوضع قد تأزم بالفعل.

قفز أولريش غراف أمامي من أقصى اليمين وصاح بقوات العاصفة :"أطلقو النار أيها الأوغاد! إفتحو الطريق لهتلر وصاحب السعادة لودندورف!".

وحتى مع إصابته بطلق ناري في ساقه، لازال غراف يصحيح بحدة ويقاوم ألمه بكل ما أوتي من قوة.

وضعت يدي على ذراعه وسحبته خلفي بسرعة، في حين وقف لودندورف ساكنًا هو الأخر ونظرة عابثة تعتري وجهه.

"يا رفاق! ليأخذ بعضكم غراف والجرحى إلى المستشفى!".

"حسنًا!".

هرع إثنان من جند العاصفة نحو غراف وقامو بمساعدته على الخروج.

في حين وقف جريجور قرب جثة شقيقه الأصغر إيتو الذي غادرت الروح جسده بالفعل، ثم نظر إلي بنظرات يصعب شرحها وهز رأسه.

لم أكن أعرف مالذي سيحدثه موت أخيه الأصغر، وإن كنت قد إقترفت بذلك خطأ أم لا.

"هاهو ذا! إنه هتلر!".

"إثبت مكانك أنت رهن الإعتقال!".

***

ألقي القبض علي وجريجور وستراسر ولودندورف ساعتها.

بيما توفي أوتو ستراسر، وفر روم وهيس وشريك وموريس مع مسؤولي الحزب، وقد إعتقلتهم الشرطة في وقت لاحق.

لم يجري القبض على هانفستانجل إذ لم تثبت له أي صلة بالحادث.

وأما جورينج فقد هرب للسويد حيث عائلته وزوجته.

لقد وضعت في الحبس الإنفرادي في سجن لاندسبيرج.

لم تحتوي الزنزانة التي وضعت فيها على تدفئة ولم تقدم لي سوا وجبتين يوميًا، وقد تكونو من البطاطس المسلوقة والعصيدة الباردة التي باتت صلبة كالصخرة.

على الرغم من أن الطعام هنا أفضل بقليل من ماكنت أكله أثناء تواجدي في خنادق الجبهة الغربية، إلا أن هذه الوجبات خيبت أملي بعد أن كنت قد إعتدت تناول الطعام الدافئ، على كلٍ خنعت للأمر الواقع وحاولت تنويم نفسي لقبول هذه الوجبات.

ألم تأكل هذه الوجبات من قبل؟ إذا لم الدلع!

هذا جزء هام من الخطة، أصمد قليلًا وبعدها سيأتي الفرج.

***

تغير العام وأصبحنا في عام 1924.

في الرابع والعشرين من فبراير وحين كان فصل الشتاء على وشك الإنتهاء أرسلت إلى ميونخ للمثول أمام المحكمة هناك.

وكان مقر إنعقاد جلسة المحكمة مكتظًا بالصحفيين والمتفرجين الذي جائو بعد سماع نبأ المحاكمة.

"سيد هتلر؟ حدثني قليلا عن الحادثة".

"هل مزاعم تهديدك للوالي بالسلاح صحيحة؟".

"سيد هتلر، هل لي بكلمة واحدة!".

أطبقت فمي ومشيت بصمت في حين كافح ضباط الشرطة الذين رافقوني لفض جحافل المراسلين الذين إحتشدو علي.

حيد دخلت قاعة المحاكمة، بدأ المصورون في إلتقاط الصوار بكمراتهم.

وقد كان لوندورف وروم وهيس وستراس وشريك وموريس وغيرهم من الزملاء جالسين قبلي في القاعة.

بعد أن ألقيت علهم تحية بسطة جلست أنا أيضًا.

"فلتبدأ الجلسة".

نظرت للقاضي من باب الفضول، وقد كان من محاسن الحظ أنه وجهًا أعرفه.

كان القاضي هو جورج فون نيدهارت.

وكما في التاريخ كان هو القاضي السؤال عن محاكمة هتلر.

بصراحة كنت قلقًا من ما قد يحدث لو كان قاضيًا آخر، ولحسن الحظ لم يكن الأمر كذلك.

"أدولف هتلر، أنت متهم بالخيانة".

وبعد أن بدأ المدعي العام في الإدلاء بكلمته حل الصمت على القاعة التي عجت بالفضوى قبلها بثواني.

"بداية أود أن أسأل شيئًا لمنع اللبس، إذ جائنا في الملف أن المتهم -أي انت- ولد في النمسا وليس في ألمانيا، فإلا أي بلد تنتمي؟ أطلب منك تحديد إنتمائك بالضبط".

وها قد بدأ العرض.

"عفوًا أيه المدعي العام، لكني لم أفهم سؤالك إذ أجد صياغته غامضة بعض الشيء".

"مالذي تقصده تحديدًا بأن سؤالي غامض؟".

"أعذني إذ لم أكن واضحًا معك، أود أن أعرف إن كانت 'الجنسية' التي تسأل عنها هي الأحرف المكتوبة في شهادة الميلاد، أم الدماء التي تسري في عروقي؟".

بعد أن قلت ذلك ألقيت نظرة خاطفة على القاضي نيدهارت، لعله فوجئ بملاحظتي غير المتوقعة إذ أنه أرخى يده التي أراحها على ذقنه.

"هذه الإجابة لم تكن في الحسبان... على كل حال، سأسأل سؤال أخر، هل يدعي المتهم البراءة؟".

"كلا".

"؟؟؟"...

"إنني مذنب".

أحدث إقراري بالجرم ضجة في قاعة المحكمة.

وهذه المرة سألني القاضي مباشرة عوضًا عن المدعي العام :"مذنب؟ أتقر بذلك؟".

"نعم حضرتك".

"ومالذي إقترفته؟".

"لقد أخفقت في تنفيذ إرادة الشعب، بل وتسببت في مقتل رفاق شجعان، فماذا أكون إن لم أكن مذنبًا؟".

"إستمر".

"سيادة القاضي ما يقوله المتهم مماطلة وبعيد كل البعد عن موضوع الجلسة-" : قدم المدعي العام شكواه من ذلك لكن نيدهارت رفع يده لإسكاته.

هذه هي اللحظات التي كنت أريدها من الثورة، كل شيء يمضي كما أردته.

"دعوني أسألكم، هل من إسترد ما سرق منه يعد لصًا؟ لقد خاننا من أسميناهم قادتنا عام 1918، لقد خانو الدماء التي سفكها شعبنا، بأفعالهم ضاعت تضحيات ألاف الشباب وأحزان عائلتهم دونما جدوى!

رغبت في إعادة حق الشعب من ذوي السلطة، كما أردنا جميعًا أن نرد ألمانيا لأيام عزها، وأن نسترد حقها المشروع، لكني لم أحقق أي من ذلك، بل وفشلت محطمًا آمال الشعب الألماني الذي دعمني ولذلك فإني أعد نفسي مذنبًا".

وقف من في قاعة المحكمة وصفقو لي، ومن بينهم القضاة.

***

ما حدث بعد ذلك كان علي مثل النسيم.

سمح لي القاضي نيدهارت الذي أعجب بي بالمداخلة كما يحلو لي، ما جعل قاعة المحكمة تصبح مسرح لي مثل إجتماعات الحزب وأكثر.

ألقيت خطابًا كما لو كان الصحفيون والقضاة والحضور كلهم جمهوري، وإستغللت هذه الفرصة للتنكيل ببعض الأشخاص.

"لقد وعدني حاكم بفاريا كارل بدعم قضيتنا وأعلن على الأقوام إنضمامه إلى الثورة، لكني أصبحت المتهم في حين أصبح هو عضوًا في الجمهورية، إن لم يكن مذنبًا فل هو بريئ؟ لو ظل كل من يخون تطلعات الشعب يقابل بالمكافئة على أفعاله فلن ينتصر لنا أحد ولا أحقية لعدالتنا".

.

"لتفكرو جميعًا في ما نريده حقًا، ذلك المشهد حيث تقف ألمانيا رافعة رأسها من أنقاض الهزيمة لتهيمن على العالم! العلم الألماني يرفر ممجدًا فوق منطقتي الألزاس واللورين، وأن تعود بروسيا الشرقية إلى حضن الوطن الأم!

هذه ليست أوهامًا أو أحلامًا، إنها حق مشروع لنا، ومشهد يجب أن يراه العالم!".

.

"لقد قاتلت في أوائل الصفوف لأعوام الحرب الأربعة، لم أتقاعس أو أهن، وقد نلت وسام الصليب الحديدي لقاء ذلك.

ومنذ ذلك الحين يراه الأخرون على صدري ويشيدون بي ناعتين إياي بالبطل.

لكني لم أعد نفسي بين الأبطال قط.

أنا لست بطلًا، كما لا أقدر على أن أكون بطلًا، ولا أمتلك النية لأن أصبح بطلا، فهناك بالفعل أبطال حقيقيون.

الأبطال الحقيقيون هم أولئك الجند البواسل الذين سقطو على الحقول، والبحر، وفي الخنادق، وفي برك الوحل خلال سنوات الحرب الأربعة.

لولا تضحياتهم ما وجدت ألمانيا اليوم من الأساس، في حين يرفض الساسة في برلين الإقرار بأنهم مدينون بأرواحهم لتضحيات هؤلاء الأبطال، وكل ما يدور في أخلادهم هو إمتصاص دماء الشعب للإحتفاظ بسلطتهم

هل سنجلس مكتوفي الأيدي إذ يحكمنا أمثالهم؟ أم سننهض جميعًا ونعيد بناء بلادنا بسواعدنا؟".

.

في كل مرة أنهي فيها كلمة تعم الإثارة القاعة.

وحدهم قليل من المتفرجين من أنصار الحزب الشيوعي والمدعي العام إسودت وجوههم، لكن الجميع غيرهم وقفو وصفقو هاتفين بإسمي.

"هتلر! هتلر! هتلر!".

إن هذه الصيحات التي تناديني بهتلر لم تكن غريبة علي إطلاقًا.

وقبل أن ألحظ ذلك، أصبحت أحس بالبهجة والرضى حين أسمع هذه الهتافات.

-نهاية الفصل-

2024/05/22 · 70 مشاهدة · 1523 كلمة
نادي الروايات - 2025