الفصل الحادي عشر: بدايه وقوع البرت ــــ البوابه بدايه الجحيم
في عمق الغابة الممتدة كأسرار قديمة، حيث تتشابك الأشجار كالأذرع الممدودة نحو السماء، وتتساقط أشعة الشمس بخيوط متقطعة بين أوراقها الكثيفة، تقوم قرية صغيرة كأنها حبة لؤلؤ مخبّأة في صندوق خشبي عتيق. البيوت هناك مصنوعة من الخشب الخام والحجارة الملساء، تتصاعد منها روائح النار المشتعلة في المواقد، مختلطةً برائحة الأرض الرطبة والطحالب التي تغطي الجدران من الخارج.
القرويون يعيشون في إيقاع واحد مع الغابة؛ يخرجون مع الفجر ليجمعوا الأعشاب الطبية، ويصطادون الطيور والحيوانات الصغيرة، ويعودون عند الغروب محمّلين بما تجود به الطبيعة. لكل فرد منهم عملٌ يعرفه تمام المعرفة، فهم لا يعيشون في ترف النبلاء، بل في صلابة البسطاء الذين علّمتهم الغابة أن البقاء لا يتحقق إلا بالانسجام مع أسرارها.
في أحد أطراف القرية، حيث الأشجار أعلى والظلال أعمق، يقوم منزل خشبي صغير متواضع، يبدو للوهلة الأولى عادياً، لكن داخله يحكي قصة عائلة ترك الزمن أثره على جدرانها. الجدران الداخلية معلقة عليها أدوات قديمة صدئة، وسيف واحد له بريق خافت، معلّق في مكان بارز كما لو أنه شاهد على ماضٍ انقضى. في وسط هذا البيت كان يتحرك شاب لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره.
عيناه سوداوان غائرتان كبحيرتين عميقتين تعكسان أكثر مما تُظهران، بينما شعره الأبيض الناصع كان ينسدل على كتفيه في تناقض صارخ مع عمره الغض. حركاته كانت سريعة، كأنه يخشى أن تسبقه أفكاره، أو كأنه يهرب من ثقل داخلي لا يراه الآخرون.
حين خطا من غرفته الصغيرة متجهاً إلى المطبخ، تسللت إلى أذنه نبرة صوت دافئة: «تعال إلى هنا يا ألبرت، الغداء جاهز». كان صوتاً فيه من الحنان ما يذيب قلق السنين، وفيه من اللطف ما يجعل الجدران الضيقة أوسع. هناك وقفت أمه، بملامح شابة توحي أنها في العشرينات، على الرغم من أن التجارب أثقلت روحها. شعرها الأسود الطويل انحدر حتى خصرها، وعيناها السوداوان تلتمعان بصفاء وقلق في آن. ملابسها كانت بسيطة، لكنها تحمل شيئاً من الرصانة، أشبه بما قد تلبسه امرأة من عصر فيكتوري تعيش في عزلة، تجمع بين البساطة والأناقة الطبيعية.
وضعت الطعام على المائدة الخشبية الصغيرة. كان يبدو عادياً: خبز، حساء، وبعض الخضروات التي التقطتها من أطراف الغابة. إلا أن رائحته تسللت إلى أنف ألبرت كما لو أنها وعد بالراحة، فشدته بقوة أكبر من أي سحر.
جلس أمامها مبتسماً باعتذار طفولي، وقال: «أنا آسف على التأخر يا أمي، كنت أتدرّب مع الرفاق». عندها أشرقت ملامحها بابتسامة فيها رضا، وفيها قلق خفي لا يغيب. وبينما كانت تنظر إليه وهو يتناول الطعام بشهية، قالت بهدوء مشوب بالرجاء: «هل أنت متأكد أنك ترغب في الذهاب إلى الغابة اليوم؟ إنها مكان خطير يا بني. يجب أن تهتم بأن تصبح فارساً لدى الكونت، فهذا أضمن لمستقبلك».
توقف ألبرت للحظة، والملعقة معلّقة بين يديه، كأن الكلمات أيقظت جدالاً قديماً داخله. لماذا يجب أن يعمل تحت ظل الكونت؟ لماذا لا يكون هو السيد؟ لماذا يرضى بدور التابع بينما يرى في داخله طموحاً يشتعل كالنار؟ كان يعلم أن في هذا العالم لا يملك العامّة سوى أسماء، بلا ألقاب، بلا سلطة، بلا أثر. أما النبلاء والفرسان فيحملون الألقاب التي تمنحهم قوة اجتماعية وقانونية لا يمكن للآخرين بلوغها.
إن أراد أن يصبح شيئاً، فعليه أن يدخل إحدى الأكاديميات المقدسة. لكن تلك الأكاديميات لا تستقبل أحداً إلا بخطاب توصية من نبيل. وهنا تكمن العقدة، فكيف لشاب بسيط من قرية منسية أن يحصل على مثل هذه الفرصة؟
رغم ذلك، لم يكن قلبه يعرف الاستسلام. ابتسم لوالدته ابتسامة فيها عزيمة وطمأنة معاً، وقال: «أمي، لا تقلقي. ربما عليّ أن أذهب إلى الكنيسة. هناك، قد أجد فرصة تمكنني من الوصول إلى الأكاديمية». فقد كان يعرف أن الكنائس متواجدة في كل مكان: في القصور، في بيوت النبلاء، حتى في قلب الإمبراطورية. وهي تملك نفوذاً خفياً قد يفتح له باباً لم يكن ليتخيله.
بعد أن انتهى من الطعام، نهض ببطء، واقترب من الزاوية حيث كان السيف معلّقاً. مد يده إليه، فأمسكه برفق كما لو أنه يلمس ذكرى بعيدة. كان سيفاً مصنوعاً من معدن بسيط، لا يضاهي ما يحمله أبناء الأغنياء من أسلحة لامعة، لكنه كان بالنسبة لألبرت أغلى من أي ذهب. لقد كان سيف والده، آخر ما تبقّى منه بعد أن رحل منذ عشر سنوات. حين أمسك به شعر بثقل المسؤولية يهبط على كتفيه، لكنه شعر أيضاً بقوة غير مرئية تسري في عروقه.
نظرت إليه أمه حين رأت السيف في يده، وقالت بصوت فيه قلق الأمومة الصافي: «يجب أن تعود في العاشرة، هل فهمت؟ إذا لم تعد فسوف أبحث عنك بنفسي». كان قلبها يرتجف بين كلماتها، بينما عيناها تحاولان أن تظلا ثابتتين. ابتسم ألبرت لها وهو يفتح الباب الخشبي، وصوته يخرج هادئاً واثقاً: «لا تقلقي، سأعود قبل أن يصبح منتصف الليل».
كان ألبرت غارقاً في أفكاره، يسمع صدى كلمات أمه يتردد في أعماقه. الغابة التي تحيط بالقرية لم تكن مجرد أشجار وظلال، بل كانت اختباراً لإرادته. كل ورقة تسقط، كل طائر يغرد، كل همسة ريح بين الأغصان، كانت تذكّره بأنه جزء صغير من عالم واسع لا يرحم الضعفاء. ومع ذلك، كان قلبه يرفض الخضوع. لقد كان يسمع داخله صوتاً يقول إن مستقبله لا يُصنع بالخوف، بل بالعزيمة.
***
بعد أن ودّع ألبرت والدته وغادر البيت الخشبي الصغير، انطلق في طرقات القرية الملتفّة وسط الغابة. كان الهواء محمّلاً برائحة الحطب المشتعل في مواقد البيوت، ورائحة الخبز الطازج الممتزجة بتراب الأرض النديّة. مرّ بجوار الحقول الصغيرة التي يزرعها القرويون بعناية، ورأى بعض الأطفال يركضون بمرح، وأصواتهم تتعالى بالضحك. كان يبتسم لهم وللأشخاص الذين يعملون في صمت، يلوّحون له بأيديهم ببراءة، إلا أنّ داخله كان يهمس بشيء آخر: «جميعهم… لا يملكون فرصة كي يصعدوا».
لم تكن تلك الفكرة استهزاءً بهم ولا تقليلاً من شأنهم، بل كانت نظرة عينيه اللتين اعتادتا رؤية الحياة المتكرّرة، حياة الناس الذين يستيقظون للعمل، ثم ينامون ليستيقظوا من جديد، في دورة لا تنتهي، تحت خدمة النبلاء. كان يعرف أنّهم لا يملكون الخيار، وأنّ الأمل عندهم لا يتجاوز حدود اليوم الواحد. أما النبلاء، فقد ورثوا كل الفرص، وتفتّحت أمامهم طرق لم يحلم بها أحد من العامة قط.
تابع خطاه حتى وصل بعد دقائق قليلة إلى مبنى مختلف تماماً عن سائر أماكن القرية. لم يكن ضخماً إلى حد المهابة، لكنه بدا كأنه يفيض بالنور، وكأنّ جدرانه امتصّت ضوءاً سماوياً وباتت تعكسه للعيون. ارتسم على بوابته شعار منقوش: علامة زائد تتوّجها نقطتان في الأعلى، شعارٌ يعرفه كل طفل، إنه شعار الكنيسة.
الكنيسة… تلك المؤسسة التي لا تكاد مدينة أو قرية في الإمبراطورية تخلو منها. مكان يتعلم فيه الأطفال منذ صغرهم مبادئ الطاعة والكتاب المقدس، ويتدرّب فيه البعض على الصلاة والتراتيل. حتى هو، ألبرت، كان قد بدأ تعليمه هناك حينما بلغ السادسة من عمره. وقف أمام البوابة الخشبية العملاقة للحظة، انحنى بخفة، متبعاً عادة ترسّخت فيه منذ طفولته، ثم دفع الباب ليدخل.
لم يكن ألبرت متديناً بالمعنى الكامل. لم يرفض الإيمان، لكنه لم يرد أن يجعل منه عكازاً يتكئ عليه. كان يريد أن يبني نفسه بيديه، لا أن يسلم إرادته إلى قوة عليا، مهما كانت عظمتها. كان إيمانه صامتاً، عميقاً في قلبه، لا يحتاج مظاهر ولا طقوساً.
في الداخل، كان الصمت يخيّم إلا من صوت رجل يتمتم بصلوات هادئة أمام تمثال يتدلّى من الحائط ومثبت في السقف، مطليّ باللون الذهبي. بدا التمثال على هيئة رجل معلّق، لكن اللافت أنّه بلا وجه. ومع ذلك، فإنّ من يطيل النظر إليه يتهيأ له أنه يرى ابتسامة غامضة على ملامحه، ابتسامة ليست مرئية للعين بل تُحَسّ بالقلب.
أنهى الكاهن صلاته وأدار جسده بهدوء، وحين التفت، وقعت عيناه على الشاب الداخل. كان الشاب ذا شعر أبيض أنصع من الثلج، وعينين سوداويتين نافذتين، وبشرة بيضاء تشعّ نقاءً. ملابسه كانت سوداء بسيطة تناسب العامة، لكنها لم تُخفِ وسامته، كما أنّ السيف المعلّق على خصره أضفى عليه هيبة لم تكن عادية. كان السيف طويلاً، لكنه بدا ملائماً لجسده، امتداداً طبيعياً لذراعه.
ابتسم الكاهن وهو يرفع يده محيّياً:
ـ «مرحباً يا ألبرت. أنا سعيد لأنك أتيت. هل فكرت في العرض الذي قدّمته لك الكنيسة؟»
كان اسمه جوش، كاهن القرية الصغيرة التي تخضع لسلطة الكونت سوهو، في أقصى الجنوب من القارة الخالدة. كان رجلاً يحمل مزيجاً من الوقار واللين، وابتسامة مطمئنة لكنها مملوءة بالمعاني المخفية.
انحنى ألبرت باحترام، وأجاب بصوت جادّ:
ـ «أنا موافق على العرض… لكن يا سيدي، هل أنت متأكد أنّهم سيقبلونني في أكاديمية توتنهام؟»
لم يرد جوش مباشرة، بل اكتفى بابتسامة خفيفة، كأنّ في ذهنه أسراراً لا يمكن أن يفصح عنها. وفكّر في نفسه: «أيها الفتى، إنك لا تدرك قيمتك بعد. الكنيسة وضعت عينيها عليك منذ اكتشفت مقدار التوافق الذي تحمله».
لكنّه لم يقل شيئاً عن ذلك. أما ألبرت، فقد رأى تلك الابتسامة فابتسم بدوره، وتمتم داخله: «كنت متأكداً. يبدو أنّني أملك بالفعل قدراً من الإمكانيات. لولا ذلك، ما كان ليهتم بي إلى هذه الدرجة».
لم يكن ألبرت سيّئ الظن، لكنه اعتاد أن يحمي قلبه من الأوهام. لقد علّم نفسه أن يشكّل أفكاره بوعي صارم: الثقة العمياء بالآخرين لا تقود إلى الطموحات العظيمة، بل إلى التبعية. وهو لم يُخلق ليكون تابعاً، بل ليشق طريقه بصفته سيد نفسه.
قال جوش، بصوت يفيض بالثقة:
ـ «يمكنني أن أؤكد لك أن الكنيسة مهتمة بك للغاية. إنك إن التحقت بأكاديمية توتنهام وتخرجت منها، فالمستقبل أمامك. سترى، ستحمل يوماً راية الكنيسة وتخدمها فارساً مقدساً».
ثم حوّل نظره إلى التمثال الذهبي المعلّق، وأكمل كأنّه يستمدّ من صمته إلهاماً:
ـ «الإيمان بالحاكم والسلطة العليا هو ما يقود البشر إلى مستقبل مشرق. بكونك فارساً مقدساً، ستمتلك إرادة الحاكم نفسه، القدرة التي تجعل العالم ينصت إليك ويعتمد عليك».
كان ألبرت ينصت، لكنه في داخله كان يعبس. «مجدداً… يحاول أن يجعلني تابعاً لمعتقداته. كم أكره أن يملي أحد عليّ ما يجب أن أفعله». تلك الجملة دوّت في أعماقه. كان يحترم إيمان الكاهن، لكنه لم يرد أن يلبس إيمانه هو عباءة الآخرين. أراد أن يختار لنفسه، أن يكتب مساره بيديه، حتى لو كان محفوفاً بالأخطار.
بعد أن انتهت كلمات جوش وتعهداته، أكّد ألبرت موافقته على الاتفاق مع الكنيسة، ليس حباً بالسلطة الروحية، بل لأنه لم يجد طريقاً آخر يقوده إلى الأكاديمية. وفي قلبه، قال بصمت: «أريد فقط أن تساعدوني للوصول إلى هناك… أما بعد ذلك، فلن أهتم بشيء. سأشق طريقي الخاص، ولن أكون لعبة في يد أحد».
انحنى التحية الأخيرة، ثم استدار وغادر الكنيسة. الباب الخشبي أغلق خلفه ببطء، تاركاً الصدى يتردد في القاعة الفارغة. من بعيد، ظل جوش يراقبه، وعيناه تحملان خليطاً من الإيمان والريبة، كما لو كان يقرأ في ملامح ذلك الفتى قصة لم تبدأ بعد.
***
بعد أن أنهى ألبرت عمله في الكنيسة، العمل الذي كان يرى فيه خطوة لازمة على الرغم من أنه لم يكن يستسيغه قلبه بالكامل، قرر أن يتجه مباشرة إلى الغابة. تلك الغابة التي تحيط بالقرية لم تكن غابة عادية يمكن لأي شخص أن يدخلها دون رهبة؛ لقد كانت أرضاً لا يجرؤ على وطئها سوى الفرسان التابعين للكونت سوهو. ومع ذلك، كان ألبرت يتأمل وهو يسير: «حتى أستطيع أن أصبح أقوى… عليّ أن أتدرب في مكان يسمح لي بالنمو والتطور».
لقد كان ألبرت ذكياً بما يكفي ليستغل الكتب القليلة الموجودة في الكنيسة، وقد سمح له الكهنة هناك أن يقرأ ويطالع. من خلالها أدرك وجود السحر منذ زمن، وعرف أن الكنيسة تخفي عنه طبيعة التقارب الخاص به. لكنه، على الرغم من كتمانهم، كان يشعر دائماً بطاقة سحرية غامضة تسري في جسده، طاقة تملك القدرة على مداواة جراحه سريعاً، وتمنحه قوة تجعله يحتمل تدريبات شاقة لا يقدر عليها غيره.
منذ كان في الحادية عشرة من عمره، اعتاد أن يتسلل إلى تلك الغابة بالخفاء. مضت خمس سنوات وهو يمارس هناك تدريباته، يشحذ قوته ويعزز مهاراته في المبارزة. لم يكن مجرد تمرين جسدي، بل كان رحلة صراع داخلي مع نفسه، مع ضعفه وخوفه. ولطالما كان يتفوق على رفاقه في القتال، حتى إنهم شعروا بالملل من مقاتلته بسبب تفوقه المستمر. لكنه لم يتوقف قط؛ لأن التوقف يعني الركود، والركود يعني أن يظل تابعاً لا سيداً.
كان يحدث نفسه كثيراً: «مقارنة بالنبلاء، قد لا أكون شيئاً يُذكر. إن الإيمان الأعمى بلا دليل هو مجرد ترف يفعله الضعفاء». هذه الجملة لم تكن وليدة اللحظة، بل قرأها ذات يوم في كتاب حينما كان صغيراً، كما أنها ارتبطت بذاكرته منذ وفاة والده. كان يرى أن الحياة لا ترحم، وأن من لا يصنع لنفسه طريقاً، سيبتلعه الظل.
رفع سيفه في قلب الغابة، وأخذ يهاجم الصخور والأرض بحركات متتابعة. كان الهواء يتشقق مع كل ضربة، والغبار يتطاير، فيما تتجاوب الأشجار بصدى متكرر. قطعات عنيفة غاصت في التراب والحجر، حركاته سريعة ودقيقة كأنها رقصة موت يؤديها مع الطبيعة ذاتها. كان السيف القديم الرقيق بالكاد يطيق سرعته، ومع ذلك ظل يصرّ عليه كأنه يختبر صموده. وبعد ساعات من التدريب المتواصل، حين بدأت أشعة الشمس تميل إلى الغروب، كان جسده يقطر عرقاً وملابسه التصقت ببشرته من شدة الإجهاد.
تنفس بعمق، واستند إلى سيفه، وفكر: «يجب أن أعود… لقد وعدت أمي أن أرجع قبل منتصف الليل». لكن ما إن همّ بالعودة حتى اخترق أذنه صوت غريب، صوت لم يسمعه من قبل، جاء من جهة مظلمة من الغابة. رفع رأسه نحو الاتجاه، حدّق لدقائق متواصلة، شعور غريزي انبثق في قلبه: هناك خطر، خطر كبير إن ذهب إلى هناك. ومع ذلك، كان هناك نداء خفي يجذبه، نداء لم يستطع تفسيره.
تمتم لنفسه: «لماذا أشعر وكأن شيئاً يناديني؟ هناك خطأ… يجب ألا أذهب». لكنه اكتشف أن جسده يتحرك من تلقاء نفسه، خطوة إثر أخرى، وكأن إرادة غامضة تدفعه قدماً. تسارعت خطواته شيئاً فشيئاً، حتى وجد نفسه يقطع مئات الأمتار خلال دقائق، إلى أن وصل إلى مكان لم يره قط من قبل.
توقف مذهولاً أمام مشهد لم يتذكر أن الغابة خبأته بين طياتها: شلال هائل يتساقط من الأعالي، يتلألأ ماؤه كحبات من البلور، ويصب في بحيرة صافية كأنها مرآة كبرى. اقترب، فرأى وجهه ينعكس على سطح الماء: شعره الأبيض، عيناه السوداوان، بشرته الشاحبة. في تلك اللحظة، تردد صدى غريب في أذنه، همس منخفض أشبه بهسيس، لكنه بدا كما لو أنه يُلقى مباشرة في أعماقه.
«مثير للاهتمام… هل حان الوقت أخيراً كي أخرج؟ لم أظن أنني سألتقي بشرياً آخر بعد موتي في هذا المكان وختمي هنا. لكن لا بأس… لا يبدو الأمر سيئاً». ارتجف قلب ألبرت، وأمسك بسيفه من فوره، عيونه تلتقط كل تفصيل: الأشجار الملتفة، الشلال المتدفق، البحيرة العميقة، الصخور الداكنة. صرخ وهو يحاول أن يغالب الخوف المتسرب إلى عروقه: «من أنت؟! تكلّم! كيف جئت بي إلى هنا؟ أشعر أن جسدي يتحرك من تلقاء نفسه!».
لكن صرخته لم تلق جواباً. كان الصمت كثيفاً كالغبار، يخيّم على المكان بدقائق بدت له دهراً. ثم فجأة، التفت برعب حين التقط أذنه صوتاً آخر، لكن هذه المرة جاء من بعيد، من جهة القرية. رفع بصره نحو السماء، ليرى ما لم يتخيله أبداً: الغيوم تبدّلت فجأة إلى حمرة دموية، والقمر الذي كان يتهيأ للصعود انغمر بضوء أرجواني مزّق الأفق.
وبعد ثانية واحدة، وقع الانفجار. ارتجت الأرض، وترددت السماء بأصوات عميقة كأنها طبول القيامة. فتح ألبرت فمه في ذهول، والألم يعصف بصدره، وهو يحدّق نحو اتجاه قريته. في تلك اللحظة، عاد صدى صوت أمه في رأسه: «عد قبل منتصف الليل يا ألبرت». شعر بدمائه تغلي، والذعر يتملكه.
وبينما كانت السماء تتمزق بالضوء الأرجواني، ظهر حشد أسود كأنه أسراب من النمل، جيوش تسقط بلا توقف من الأعالي. كانت كائنات غريبة، ظلالها كثيفة لا نهاية لها. شهق ألبرت وقال مرتجفاً: «عليّ العودة… أمي في خطر! ما الذي يحدث؟ لا يهمني شيء، يجب أن أعود حالاً!».
لكن الغريب أن جسده ظل مكانه، عاجزاً عن التقدم خطوة واحدة. وفي اللحظة التالية عاد الصوت الهمسي، هذه المرة أقرب، أكثر حدة، كأنه يزحف مباشرة في أعصابه: «ترغب بالعودة؟ ربما لم تدرك بعد، لكنك بمجرد وصولك إليّ، صار قدرك محسوماً. لقد بدأت أبواب النهاية تُفتح على العالم البشري، وهذه القرية البشرية قد تكون أول من يسقط».
وفي وسط القرية البعيدة، كانت أم ألبرت تقف أمام كائن لم تره عين بشر من قبل: مخلوق عملاق، تتدلى من ظهره أجنحة سوداء وتعلو رأسه قرون ملتوية. معالمه مشوّهة غير بشرية، أشبه بتجسد شيطاني. ابتسم ابتسامة مليئة بالحقد، وفي الوقت نفسه بالتسلية، وقال بصوت أجش: «كم مرّ من الوقت منذ آخر مرة التقيت بالبشر؟ يبدو أن وقتهم قد حان ليدفعوا ثمن ما اقترفوه ضد جنس الشياطين. وربما…» توقف للحظة، ثم رفع سيفاً عظيماً مصنوعاً من عظام بيضاء نقية، مستلة من كائنات شيطانية منسية. «سأبدأ بهذه القرية، وبعدها بعالمكم البائس بأسره».
كان صوته مبحوحاً غامضاً، لم تفهم الأم كلماته كاملة، لكن المعنى وصل إلى قلبها كطعنة. تداخلت أفكارها، وتدفقت صور ابنها وزوجها الراحل أمام عينيها. ارتجفت يداها، لكن عينيها امتلأتا بالدموع. وحين رفع الشيطان سيفه نحوها، أدركت أن نهايتها قد اقتربت. صاحت بصوت يائس، مفعم بالحزن: «ألبرت… أرجوك، اهرب يا بني… لا تعد إلى المنزل!».
كان ألبرت يعيش الصراع بين الرغبة في النجاة والخوف من المجهول، وبين صوت أمه العالق في ذاكرته وصوت الهمس الذي يطارده. كل تفصيل في الغابة صار أكثر حدة: رائحة الطحالب، خرير الماء، صوت الريح بين الأشجار، كلها بدت كأنها تكتب نبوءة قادمة. القلب يخفق بقوة، العرق يتصبب، واليد المرتجفة على السيف تقاوم الانكسار. … … …
ـــــــــ
مرحبا يا اصدقاء هذا الفصل يتحدث عن بطل روايه الاصلي البرت الذي يقراها استر
هذا الفصل هو المشهد الاول لبدايه الروايه التي قراها اتمنى ان تكون شخصيه البرت الذي كنت احاول اظهارها تكون جيده بالنسبه لكم
اتمنى اذا كان هناك اي اخطاء او كلمات زائده ان تعذروني ورجاء ان تعلقوا .. حول الاشياء الذي احببتموها لك وكثير منها
هذا الفصل هو ما قبل الاحداث الخاصه بالاكاديميه وايضا سوف يكون هناك فصل قادم سيكون حول احداث النهايه الخاصه بعزبه الشياطين الذي ظهرت
لذلك اتمنى ان تتابعوا القصه حتى النهايه وتستمتع وا بكلمات التي احاول اظهارها لكم وان تتركوا لي تعليقا لطيفا ليس فقط عن الاستمرار عن الاشياء الذي احببتها حقا... شكرا لكم يا رفاق في امان الله