الفصل الرابع عشر: الأكاديمية – الجزء الأول

فوق الأراضي الجنوبية الشاسعة، حيث تنبسط المروج الخضراء وتمتد التلال المتموجة حتى يكاد الأفق يبتلعها في سرابه الذهبي، هناك مشهد لا يشبه ما ألفته العيون ولا ما خبرته الأرواح في رحلة الوجود.

في السماء العالية، تتدلّى جزيرة عظيمة كأنها اقتطعت من جسد قارة كاملة ثم عُلّقت بقدرة غامضة فوق الفضاء، جزيرة تفوق في مساحتها مدناً هائلة، وتحتضن بين جنباتها جبالاً متراصة شامخة، وأحراجاً متشابكة الأغصان، وغابات تفيض بالحياة.

تتخللها أنهار صغيرة وجداول تنحدر في مسالك متعرجة لتصب في بحيراتها الداخلية، فينعكس ضوء الشمس على صفحة المياه بلمعان يشبه انكسار الزجاج المصقول. كان المشهد في ذاته يبعث في النفس رهبة جليلة، وكأن تلك الجزيرة المعلّقة ليست سوى جزء من أسطورة حيّة، أو صورة من صور الفردوس التي انفصلت عن الأرض لترتفع إلى السماء.

على تلك الجزيرة ينهض صرحٌ من أعظم صروح الإمبراطورية الخالدة "نوفا كرون"، وهو الأكاديمية المقدّسة المعروفة باسم "توتنهام". لم تكن مجرد مكان للتعلم أو التدريب، بل وُصفت بأنها من أكثر الأكاديميات قداسة في أرجاء الإمبراطورية، حتى غدت رمزاً للطموح والرفعة ومهوى أفئدة النبلاء والباحثين عن المجد.

وفي قلب تلك الجزيرة، حيث تتشابك الأشجار العملاقة وتتشابى الظلال فوق الأرض الرطبة، ينتصب معبد قديم غارق في الغابة، معبد لا يشبه أي شيء من صروح الدنيا، كأنه وُلد من رحم الأسرار الأولى، تحف به نقوش غامضة وتماثيل صامتة تنضح بالهيبة.

في ذلك المعبد، وسط باحة حجرية تتوسطها دائرة سحرية تتلألأ باللون الأزرق كبحر من ضوءٍ نقيّ، انطلقت ومضة خاطفة، فتوهج المكان كله. لم تكد اللحظة تكتمل حتى تجسدت وسط الدائرة عربة سوداء فخمة، يكسوها طلاء أسود لماع كالمرآة، وعلى أبوابها رُسم شعار العنقاء الذهبي، ذلك الطائر الأسطوري الذي يرمز إلى البعث والقوة، رمز النبل القديم والسلطة الراسخة. كان وصولها مفاجئاً كأنها خرجت من بُعد آخر، ومع اختفائها التدريجي لم يبق سوى الشرارات الزرقاء المتناثرة كالبرق الخاطف.

وفي تلك اللحظة بالذات، كان يقف على مقربة من الباحة رجل شاب، لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمره. شعره بنيّ يتدرج في ألوانه كأرض الخريف، ووجنتاه تلمعان بصفاء الشباب، بينما تنعكس خلف عدسات نظاراته عينان رماديتان باردتان كغيم الشتاء. كان يرتدي ثياباً سوداء

رسمية شديدة الأناقة، تنضح بالانضباط والصرامة، لكن على وجهه ارتسمت ابتسامة هادئة، تكاد تبدو مرسومة بريشة فنانٍ صبور، ابتسامة تحمل مسحة من الثقة وربما شيئاً من الغموض. وقف يحدّق بالعربة كأنها قطعة نادرة من فن سماوي، عيناه تتأملان تفاصيلها البديعة، وكلما انعكس الضوء الأزرق على هيكلها شعر أن بينه وبينها حواراً صامتاً لا يسمعه سواه.

لم يطل الانتظار حتى انفتح باب العربة ببطء، وانبثق منه صوت شبابي قوي، صوت رجل بدا وكأنه يحمل في طبقاته طباع القيادة وجرس الكبرياء. خرج أولاً شاب أشقر الشعر،

تنسدل خصلاته كالذهب تحت ضوء الشمس، كان يرتدي ثياباً زرقاء غامقة، محفورة على صدرها العلامة الذهبية للعنقاء. وفي نبرة صوته امتزج شيء من الفخر مع نفَسٍ من الراحة، حين قال وهو ينظر من حوله:

"توتنهام... يبدو أنني وصلت إلى الأكاديمية أخيراً."

كان يتحدث كمن يصل إلى محطة كان ينتظرها منذ زمن بعيد، كمن يخطو في أرض يعرف قيمتها، وإن لم يطأها من قبل. نزل بخطوات ثابتة، عاكساً ثقة النبلاء في مشيته، ثم ما لبث أن تبعته فتاة شابة. كانت مختلفة عنه في حضورها،

شعرها أزرق لامع يصل إلى كتفيها، يتحرك مع نسائم الغابة كأمواج صغيرة، وعيناها خضراوان صافيتان كبحيرة جبلية. كانت ترتدي ملابس خادمة مستوحاة من العصر الفيكتوري، ثوباً أسود محكماً يتخلله بياض عند الياقة والأكمام، يبعث مزيجاً من الرصانة والجمال. تبعت سيدها بصمت، لكن عينيها كانتا تتنقلان في فضول بين أعمدة المعبد ونقوشه وأحجاره، كأنها تستكشف سراً جديداً لم يُفتح لها من قبل.

وقف الشاب الأشقر لبرهة يتأمل الفضاء المحيط، فيما ألقت الفتاة نظرة سريعة نحوه وقالت بصوت خافت مطيع:

"نعم أيها السيد الشاب..."

كان الرد قصيراً، لكنه حمل في طياته احتراماً لا تخطئه الأذن، بل كان أقرب إلى القسم الصامت بالولاء. ومع ذلك، لم يتوقف نظر سيدها عندها طويلاً، بل عاد يتفحص المكان بعينٍ يقظة، وكأن ما يراه أمامه هو أكثر ما يستحق اهتمامه في تلك اللحظة.

اقترب منهم الرجل ذو النظارات، متمهلاً، خطواته محسوبة بدقة كمن يعرف ما يعنيه كل اقتراب. كان الشاب الأشقر يراقبه بدقة، وكأن بينهما تواصلاً خفياً يتشكل قبل أن تنطق الأفواه.

وحين أصبح قريباً بما يكفي، تكلم بصوت عميق واضح:

"مرحباً بكم في أكاديمية توتنهام... اسمي زفير، وأنا مساعد معلم هنا في الأكاديمية."

بعد أن قدّم نفسه، أخذ نفساً عميقاً بدا وكأنه يستجمع به وقاره، ثم أضاف بنبرة لا تخلو من الاحترام:

"يسعدني أنكم وصلتم في الوقت المحدد. لقد تفاجأ سيدي حين علم أن أحد النبلاء اختار القدوم قبل الموعد المقرر."

لكن الشاب الأشقر لم يبد عليه التأثر، بل تمتم بصوت منخفض كأنه يحدث نفسه أكثر مما يخاطب غيره:

"شيء من هذا... الآن أريدك أن تأخذني إلى غرفتي."

جاء الطلب بارداً مباشراً، حتى إن زفير نفسه أصيب بالدهشة. لم يكن معتاداً أن يرى طلاب الأكاديمية الجدد يتجاهلون رهبة المعبد ومهابة المكان. تذكّر نفسه يوم وطأت قدماه هذه الأرض أول مرة،

كيف ملأته الدهشة حتى أنه لم يستطع مقاومة الرغبة في أن يطلب جولة واسعة ليرى كل شيء بعينيه. أما هذا النبيل، فقد اختصر كل ذلك في أمر واحد، وكأن المشهد كله لا يساوي عنده شيئاً بجانب رغبته في الوصول إلى غرفته.

ومع ذلك، لم يكن أمام زفير إلا الطاعة. فالشاب الذي يقف أمامه ليس من عامة الطلاب، بل من عائلة مرموقة، عائلة مركيز لها صلات وثيقة مع الدوق الجنوبي كاسبر. مكانته تجعله في موقع لا يسمح لأحد بمساءلته أو الاعتراض على طلباته.

مضى زفير إذن يؤدي مهمته، وأخذ يقود الضيفين عبر أروقة المعبد، يشرح لهما بعض الملامح ويبين الوظائف، ليس حباً في الإطالة، بل لأن طبيعة المكان تفرض ذلك. فالمعبد يضم بلورات سحرية نادرة،

تُستخدم كبوابات انتقالية، بحيث يستطيع حامل الرمز الخاص بالأكاديمية أن ينتقل بواسطتها إلى أي غرفة أو قطاع يرغب فيه. لم يكن مجرد بناء عادي، بل شبكة متكاملة من المسارات الخفية التي تربط أقسام الأكاديمية جميعها.

لم يطل الأمر حتى وصلوا إلى الغرفة المخصصة للطالب الجديد. عند الباب توقّف زفير، وألقى نظرة نحو الفتاة ذات الشعر الأزرق التي كانت تلازم سيدها كظلّه. كان يحدق بها للحظة كمن يتردّد في قول ما يجب، ثم نطق بلهجة معتذرة:

"آسف... لكن يجب أن أخبرك بأن مكانك في قسم العامة، لا في قسم النبلاء."

تلقّت الفتاة كلامه بعينين ثابتتين، لم تفضحا انفعالاً ولا اعتراضاً، ثم ردت بصوت هادئ لا يحمل اكتراثاً:

"بالتأكيد..."

وبعد لحظة التفتت نحو سيدها، وانحنت قليلاً وهي تقول:

"أعتذر يا سيد الشاب... إن احتجت إلى أي شيء، يمكنك مناداتي في الحال."

أما الشاب الأشقر فلم يزد على أن هز كتفيه ببرود، إيماءة صغيرة تكفي لتدل على أنه لا يولي الأمر اهتماماً. ثم دفع الباب بخطوات واثقة ودخل إلى غرفته. كان الباب ذاته محمّلاً بطاقة سحرية، شأنه شأن أبواب جميع الغرف في الأكاديمية،

فلا يُفتح إلا لمن يحمل رمز القبول الذي تمنحه المدرسة. وبذلك انتهت لحظة الوصول الأولى، معلنة بداية فصل جديد في حياة الشاب النبيل الذي اختار أن يسبق الزمن ويصل إلى توتنهام قبل غيره.

---

جيد يا رفاق لا تقوم بتعليق انا اشكركم

2025/09/18 · 32 مشاهدة · 1102 كلمة
ONE FOR ME
نادي الروايات - 2025