اتمنى رفاق.. ان اشاهد تعليقاتكم في خانه التعليقات
يسرني دائما .. مشاهده دعمكم في خانه التعليقات هناك نستطيع التحدث بالاضافه يمكنكم ان تدخلوا الى رابط المجموعات لاي مجموعه تحبون لكم الاختيار هناك تيليجرام وهناك وتساب
اشكركم جدا من اعماق قلبي واراكم بالف خير
الفصل التاسع عشر : امتحان الاكاديميه ــ الجزء الثالث ــ مفاجات استر
كان استر يجرّ أنفاسًا عميقة، أنفاسًا ثقيلة كأنها محاولات بطيئة للتشبث بالواقع المرهق الذي يحيط به. كانت أصوات اصطدام الأسلحة تتردّد من حوله، جلبة معدنية خشنة تتعالى من هنا وهناك، صليل حديد على صخر، أنين شفرات وهي تلامس أجساد المخلوقات المتحجرة. كان الصوت حاضرًا بقوة في أذنيه، ولكنه اختار بإصرار أن يتجاهله. لم يكن التجاهل هروبًا، بل كان أشبه بمحاولة حادة للانسحاب إلى الداخل، إلى ذاته، بعيدًا عن الصخب الذي يشتّت ويبدّد التركيز.
في تلك اللحظة، ترددت في ذهنه عبارة ثقيلة المعنى: «إن جوهر هذا المكان ليس أننا انتقلنا، بل أننا في محاكاة». تمتم بها داخل عقله، بصوت خافت لم يسمعه سواه. كان في الأمر وعي خفي يتجاوز إدراك من حوله، وعي ينأى به عن سذاجة اللحظة.
لقد تذكّر ما قرأه في الرواية من قبل؛ هناك، حيث جرى الحديث عن البلورات المعلّقة في القاعة الكبرى، وكيف أنها تُستخدم لصنع بيئة افتراضية كاملة يُلقى فيها الطلاب. كان يدرك أن الآخرين، منغمسين في عراكهم، لا يعرفون أنهم محاصرون في طبقة وهمية مُحكمة، وأنهم في الحقيقة لم يخوضوا البوابات، ولم يعبروا عوالم مجهولة بأجسادهم كما يظنون. لم يدخلوا شيئًا، بل أُلقي بهم في صورةٍ متقنة لا يمكن التمييز بينها وبين الواقع.
استر، بصفته قارئًا للرواية الأصلية، كان يملك امتيازًا لا يدركه سواه. كان يعرف أن هذا الامتحان مراقب من الأعلى، وأن المعلمين يجلسون فوق هذه القشرة الافتراضية، يسجلون النقاط ويقيّمون استراتيجيات كل طالب، يرصدون قتالهم وتحركاتهم، بل حتى خوفهم وترددهم. هذا الإدراك جعل نظرته مختلفة، أعمق وأكثر برودة.
التفت إلى الطلاب الآخرين. كانوا يقاتلون الغوريلات الحجرية بضراوة، يتصبب العرق من جباههم، تتطاير الشظايا مع كل ضربة، وكان بعضهم يصرخ بعزم مصطنع، وبعضهم يلهث يائسًا. أطلق استر زفيرًا باردًا، كأنما يعلن انسحابه الصامت من هذا الجنون. لم يكن في مقدوره أن يخوض المعركة بالطريقة ذاتها. لم يكن الأمر مجرد قرار، بل حقيقة وجودية فرضها ضعفه.
كان مدركًا أن نواة طاقته السحرية لا تزال في مستوى متوسط بالكاد، لا أكثر، وأنه في أفضل أحواله عاجز عن مضاهاة من حوله. فوق ذلك، لم يمتلك أي خبرة قتالية عملية، لم يعرف كيف تُدار المواجهات حين تصبح المسألة حياة أو موت. على عكسه، كان زملاؤه يتقدمون حاملين نوى طاقة تتأرجح بين المستويات العليا أو الدنيا، ومعظمهم تجاوزوا تجربته المحدودة بمراحل.
في هذا العالم، تُقسَّم نوى الطاقة السحرية بصرامة إلى ثلاث طبقات: المنخفضة، المتوسطة، والعالية. ولكل طبقة درجات سبع متصاعدة من الأولى حتى السابعة. والفارق بين درجتين متتاليتين لم يكن مجرد رقم؛ بل كان هاوية واسعة، اختلافًا في الكثافة والنقاء والقدرة على التحكم في التدفق السحري. كان استر يدرك أن من يقف على الدرجة الثانية يُعَدُّ استثناءً مميزًا، وأن أولئك عادة ما يكونون شخصيات رئيسية لها نصيب أوفر من القدر.
بعد أن انتهى من مراجعة تلك الحقائق في ذهنه، شعر بضرورة ملحّة أن يجد طريقة مختلفة، حيلة ما تجعله يخرج من هذا الامتحان بشيء، أي شيء. فالأكاديمية، أكاديمية توتنهام، لم تكن مجرد مكان للتدريب، بل كانت بوابة إلى احتمالات هائلة. سر تميّزها أنها لم تكتفِ بتعليم الطلاب كيفية دخول البوابات، بل كانت تمنحهم، من خلال تلك التجارب، فرصة لملامسة إمكانات أبعد، عوالم غامضة تتجاوز المألوف.
كانت البوابات في هذا العالم لغزًا ومصدرًا للقوة. من خلالها تنفتح العوالم الفرعية: بعضها موصول بعالم الشياطين القاتم، حيث تهطل الكائنات المدمرة على الأرض، وبعضها ينفذ إلى أراضٍ مجهولة لا يعرف عنها البشر إلا شذرات قليلة. حتى العلماء وقفوا حائرين أمام سر تكوين تلك البوابات، وكرّسوا حياتهم لمحاولة فهم أسباب ظهورها.
وأي شخص سعى إلى القوة في هذا العالم كان مضطرًا إلى المرور عبر تلك البوابات، حيث تنبض الطاقات السحرية بأشد صورها تركيزًا. أما في العالم البشري، فالطاقة موجودة، نعم، لكنها متناثرة في الغلاف الجوي، متخففة كهواء لا يُمسك. على المرء أن يولّد نواة بداخله أولًا، وأن يفتح في قلب جسده منبعًا صغيرًا يستوعب هذا التدفق. وبعد تكوين النواة، تبدأ المرحلة الحقيقية من التدريب: مرحلة الصراع والاتقان، مرحلة الجمع بين القتال اليومي وفن السيطرة الدقيقة، مرحلة تكثيف الطاقة وتنقيتها إلى درجة أعلى.
استر كان يفكر في كل هذا بينما عينيه تجولان في الأفق، يبحثان عن منفذ، عن فرصة. بعيدًا عنه، كان هناك من يراقبه: جوي. وقف في الظل، يتأمله دون أن يثير الانتباه، كأن عينيه تتعقبان أثرًا خفيًا. لم يهتم جوي بالغوريلات الحجرية التي كانت تقترب، لم يأبه لأنيابها الصخرية، كان كل تركيزه منصبًا على استر. كان يراقب خطاه، ويمعن في ملامح حركاته، محاولًا أن يستشف ما يدور بداخله.
فجأة، تحرك استر بطريقة مختلفة. انسحب من مسار القتال واندفع إلى حيث تصطف أشجار الغابة، إلى الجهة الهادئة حيث لم تصل وحوش الغوريلات. كان الأمر مفاجئًا حتى لجوي نفسه.
«ما الذي يفعله؟» تساءل جوي في صمت، ثم ارتاب: «هل يعرف شيئًا عن طبيعة الامتحان؟ ربما لهذا علاقة بأخيه الأكبر». كان يعرف بعض التفاصيل عن عائلة فينكس التي ينتمي إليها استر، عائلة مرموقة تحمل لقب المركيز، تضاهي في مكانتها عائلة أندرسون الشهيرة التي وُلد جوي في كنفها.
في البداية، كان استر واقفًا يتأمل الطلاب الآخرين، يدرس قتالهم بعين ناقدة. بدا وكأنه يحلل الأنماط، يزن الخطوات، يقيس الفوارق. ثم، في اللحظة التالية، فعل شيئًا بدا غريبًا على الجميع. تقدّم نحو إحدى الأشجار، نظر إليها مطولًا بدقيقة كاملة، ثم مد يده ليلامس جذعها.
عندها تمزق الفضاء بصوت عاصف. اهتز الهواء فوق الساحة، وانتشرت موجات الاضطراب في الغابة، حتى أن الطلاب تجمدوا في أماكنهم. توقفت ضربات السيوف للحظة، تراجعت الغوريلات متشنجة، وبدأت أطرافها الحجرية تتشوه كأنها تذوب في العدم.
«ما الذي يحدث بحق الجحيم؟ هل انتهى الامتحان؟» صرخ أحد الطلاب، مبهوتًا.
طالب آخر، وقد ارتجف صوته، أشار إلى الساعة الطافية في السماء. «لا… قالت السيدة إنه سينتهي بعد ثلاث ساعات. انظروا… لقد مرّ فقط أربعون دقيقة. لا يزال هناك أكثر من ساعتين وعشرين دقيقة!»
التفتت جيسيكا، والبرت، ونيفر جميعًا نحو الأعلى، فرأوا طبقات الطاقة السحرية تتناقص شيئًا فشيئًا. كان المشهد مخيفًا: الهواء نفسه بدا أنه يفقد وزنه، والأشجار تتكسر مثل زجاج رقيق، والمخلوقات الحجرية تنحلّ إلى غبار.
جوي كان لا يزال يحدّق في استر، يرى الطاقات تتبدّد من حوله، ويشعر بالدهشة تتصاعد داخله. همس: «ما الذي فعل؟ هذا بالتأكيد من صنعه».
اقتربت جيسيكا بخطوات مترددة، سمعت ما قاله جوي، فسألته بقلق لا يخلو من غموض: «ماذا تعني؟». ثم استدارت نحو الاتجاه الذي ينظر إليه، وهناك وقع بصرها على المشهد الذي سيطر على أنفاس الجميع.
جميع الشخصيات في الساحة، طلابًا ومخلوقات، لم يجدوا إلا أن يحدّقوا في شخص واحد: شاب أشقر الشعر، يرتدي زي الأكاديمية الموشى بالأحمر والذهبي، وعلى كتفه يلمع شعار العنقاء، شعار عائلة فينكس. كان واقفًا داخل دائرة سحرية منقوشة ببراعة مذهلة، تدور خطوطها حوله بهدوء، كأنها نُسجت من خيوط ضوء. كان يتنهد ببطء، بملل واضح، كأن ما حدث للتو لم يكن ذا قيمة تُذكر.
ثم انطلق صوته الواضح يخترق الصمت: «يا له من أمر سخيف… أن يكون حل الامتحان مجرد الضغط على الشجرة الأكثر عادية».
لم يفهم الجميع مغزى كلماته، لكن قبل أن يسألوا أو يتساءلوا، تبدّل المشهد بأكمله. في ومضة واحدة، وجدوا أنفسهم في غرفة أخرى، بعيدة تمامًا عن القاعة الأولى أو الغابة الوهمية التي غاصوا فيها قبل قليل. انتهى المشهد كما لو أن الواقع ذاته قد انطوى على نفسه وأعاد تشكيله من جديد.
***
في غرفة الإدارة العليا للأكاديمية، حيث تتراصّ المقاعد الجلدية الداكنة وتنتشر على الجدران شاشات متوهّجة تبثّ صورًا حيّة من ساحات الامتحان، خيّم صمت ثقيل كأنّ الهواء نفسه قد جُمّد في مكانه. كانت الغرفة أشبه بمسرح مظلم تُسلَّط فيه أضواء على مشاهد متباينة، تتكشّف أمام أعين المراقبين بلا انقطاع. بعض الشاشات كانت تُظهر طلابًا يتقاتلون ضد الذئاب في الساحات الأولى، بينما أخرى تنقل صور الغابة الغامرة حيث تحرّكت وحوش الغوريلات الحجرية بثقل جبّار يزلزل الأرض مع كل خطوة.
وقف مجموعة من المعلمين، يرتدون عباءات طويلة مطرّزة بخيوط فضيّة وذهبية، تحيط بهم هالة من السلطة والهيبة. لم تكن أنظارهم مجرد متابعة عابرة، بل كانت حادّة نافذة، كأنها تحاول اختراق ما وراء الصور والبحث في جوهر كل حركة وكل قرار يتخذه الطلاب.
في تلك اللحظة، انحنى أحد المعلمين إلى الأمام، عيناه مثبتتان على شاشة بعينها. كان اسمه ديلان، رجل بشعر أحمر ناري يلمع تحت أضواء القاعة. تجمّدت ملامحه للحظة قبل أن تتسع عيناه بدهشة، فبدت المفاجأة على وجهه واضحة حتى دون أن ينطق بكلمة. كان جسده مشدودًا، أنفاسه بطيئة لكنها عميقة، وكأنه وجد أمامه أمرًا يتجاوز التصوّر.
قال فجأة بصوت متوتّر، شدّ انتباه الحاضرين إليه:
ــ "من هذا الطالب؟... لقد اكتشف سر الخروج من الامتحان بشكل أسرع من المتوقع."
تحرّكت الرؤوس نحوه على الفور، وتجمّعت الأعين عند الشاشة التي كان يراقبها. اقترب منه معلم آخر، طويل القامة، ذو وجه صارم وخطوط دقيقة محفورة على جبينه. كان يُدعى جين. صوته حمل طبقة من القلق الممزوج بالفضول وهو يسأل:
ــ "ما الذي يحدث يا ديلان؟"
لكن ديلان لم يجب مباشرة. اكتفى بأن أشار بإصبعه إلى الشاشة، حيث كانت الصور تهتزّ كأنها لوح ماء ألقي فيه حجر. كان الفضاء الافتراضي يُظهر علامات التفكّك، أشجار الغابة تتكسر وتذوب، الصخور تتناثر كغبار يذروه الهواء، والمخلوقات الحجرية تترنّح قبل أن تتحلل إلى لا شيء. كان المشهد كله يتفتت أمامهم في لحظات سريعة، ثم يعود بعد ذلك إلى الاستقرار كما لو أنّ شيئًا لم يحدث، لكن المعلمين عرفوا أنّ خللًا ما قد وقع، خللًا لم يكن ينبغي حدوثه.
ارتفعت الأصوات متداخلة:
ــ "هذا مستحيل!" صاح أحدهم، كان رجلاً ممتلئًا، له لحية قصيرة سوداء تلمع من أثر العرق. "كان من المفترض أن يستمر الامتحان نصف ساعة على الأقل! إن كل مرحلة محددة زمنياً بدقة... كيف يمكن لشخص أن يتجاوز وهمًا بهذا التعقيد في وقت أقل؟"
تبادل المعلمون النظرات، وقد غلبت على ملامحهم علامات الصدمة.
لقد كانت الامتحانات في الأكاديمية من أعقد ما صُمّم من اختبارات سحرية في هذا العالم. إذ تقوم على إدخال الطلاب إلى واقع افتراضي مُحكم الصنع باستخدام بلورات سحرية خاصة، تصوغ عالماً يكاد لا يختلف عن الواقع المادي. ذلك الواقع لا يقتصر على المشاهد البصرية فقط، بل يمتد ليشمل الحواس كافة: اللمس، الرائحة، الصوت، بل وحتى الإحساس بالألم. كان الطالب إذا أصيب في هذا العالم الافتراضي، يشعر بالجرح وكأنه حقيقي، وإذا ضُربت عظامه، تردّد الألم في جسده كما لو انكسر بحق.
لكن مع ذلك، كان النظام آمنًا تمامًا. فالمعلمون يملكون القدرة على التدخل في أي لحظة، يستطيعون فصل أي طالب عن التجربة فورًا إذا بلغ الخطر حداً لا يحتمل. لم يكن الهدف إهلاك الطلاب، بل اختبار أعماقهم، قدراتهم على التحمل والتفكير والتكيّف.
وبينما يراقبون الصور، انحنى معلم آخر كان يرتدي نظارات رفيعة الإطار، اسمه جلين. كان يحمل في يده ملفًا سميكًا تزيّن غلافه صور وأسماء الطلاب. قلب الأوراق بسرعة حتى توقف عند صفحة محددة. رفع صوته بهدوء قائلاً:
ــ "لقد وجدت اسمه... الطالب: أستر دي فينكس."
مدّ ديلان يده بسرعة وأخذ الورقة، حدّق فيها مطولًا، عيونه تتنقّل بين الاسم والصورة المثبتة في أعلاها. قال بصوت متأمل، فيه نبرة عميقة من التفكير:
ــ "إنه من عائلة المركيز... هل يمكن أنه اكتشف سر الامتحان بنفسه؟ أم أنّه يمتلك بالفعل مهارة خاصة مكّنته من الخروج من ذلك المكان؟"
كان عقله يموج بالأسئلة، وعيناه لا تفارقان الشاشة التي بدأت تعرض انتقال مجموعة الطلاب إلى مستوى جديد من الاختبار.
في داخله، كان يعرف أنّ نظام الامتحان لا يقوم فقط على التحديات القتالية. سرّه الأعمق يكمن في عنصر الزمن. كل مرحلة صُمّمت لتستغرق وقتًا محددًا، وكان معيار النجاح والتميّز ليس فقط في النجاة من الخطر، بل أيضًا في سرعة تجاوزه. الخروج المبكر من مرحلة ما يعني ببساطة تحقيق نتيجة أعلى، ومرتبة متقدّمة في سجلات الأكاديمية.
قال جين وقد تقطّبت حاجباه:
ــ "لقد حقّق هذا الفريق الرقم الأول بالفعل، إنهم خرجوا من المستوى الثاني بسرعة لم يسبق لها مثيل. بينما ما يزال الآخرون يقاتلون في الغابة، هم الآن انتقلوا إلى الاختبار التالي."
ثم التفت إلى جلين، وسأله بصوت ينطوي على حرص:
ــ "وماذا عن بقية العائلات؟ هل هناك أي تطورات أخرى غير متوقعة؟"
هزّ جلين كتفيه بهدوء، وأجاب:
ــ "لا. البقية يسيرون في المسار المعتاد. نتائجهم لا تختلف عما توقّعناه."
ساد صمت للحظة، تخللته أصوات الأجهزة وهي تصدر طنينًا متقطعًا، بينما تابعوا بتركيز ما يحدث على الشاشات.
كان الامتحان الأول، كما عرف الجميع، اختبار مواجهة الذئاب. لم يكن الهدف قياس القوة الجسدية فحسب، بل أيضًا رصد ردود الفعل الأولى أمام الخطر. فقد صُمّمت الذئاب لتبدو أكثر رعبًا مما هي عليه في الحقيقة: أنياب طويلة، عيون متوهجة، وأصوات عواء تمزق السكون. كان الخوف الأول هو العقبة الأساسية، وكان على الطلاب تجاوزه حتى يتمكنوا من القتال.
وقد أثبتت الإحصاءات أنّ أكثر من تسعين بالمئة من الطلاب نجحوا في ذلك، إذ تغلّبوا على الخوف الأولي، وأظهروا شجاعة كافية للدخول في مواجهة حقيقية. لذلك، كان لزامًا على إدارة الامتحان أن تنقلهم إلى المستوى الثاني: الغابة.
هذه الغابة لم تكن مجرّد أشجار مظلمة ووحوش ضخمة، بل كانت اختبارًا مركّبًا للخوف من زاويتين: أولاهما المظهر المهيب للمخلوقات، وثانيهما عنصر المباغتة. على عكس الذئاب التي تهاجم من الأمام غالبًا، جاءت هجمات الغوريلات الحجرية من كل الاتجاهات، في وقت واحد. وجد الطلاب أنفسهم محاصرين، عاجزين عن التركيز على جهة واحدة، وهذا ما جعل قرابة ثلاثين بالمئة منهم ينهارون أو يفقدون القدرة على القتال.
لقد قُسّم الطلاب إلى مجموعات من عشرة تقريبًا، وُزّعوا على مناطق مختلفة من الخريطة الافتراضية، بحيث يواجه كل فريق الظروف نفسها، مع اختلافات طفيفة. هكذا كان التقييم شاملاً، دقيقًا، يضع كل طالب أمام امتحان صريح لا مجال فيه للهرب.
وعلى الشاشة التي عرضت غابة أستر ورفاقه، كانت الصور تتبدّل. اختفت معالم الغابة فجأة كما لو أُسدل ستار على مسرح قديم. وجد الطلاب أنفسهم في مكان جديد تمامًا. وقفوا للحظة مبهوتين، أنظارهم تتجه كلها إلى شاب واحد: أستر دي فينكس.
بخطوات متردّدة، تقدّم نيفير مون لايت نحوه. كان وجهه متماسكًا، لكن عينيه تحملان تساؤلاً لا يمكن كتمانه. اقترب حتى صار بينه وبين أستر بضع خطوات فقط، ثم قال بصوت منخفض لكنه واضح:
ــ "ما الذي قمت به؟"
كان سؤاله مشحونًا، ليس فقط بالدهشة بل أيضًا بالرهبة.
رفع أستر رأسه ببطء، قابل نظراته، وانحنى احترامًا خفيفًا كما تقتضي قوانين الأكاديمية. ورغم أنّ تلك القوانين تساوي بين جميع الطلاب، نبلاءً وعامة، إلا أنّ العرف الاجتماعي لا يختفي بسهولة. كان من الصعب على أبناء العائلات الكبرى، مثل عائلة نيفير، أن يروا أنفسهم في مستوى واحد مع الآخرين. ومع ذلك، كان القانون يحاول فرض هذا المبدأ: في أرض الأكاديمية لا قيمة للقب أو نسب، بل للقوة فقط.
لكن هذه المساواة لم تكن كاملة في الواقع. فالنظرات، والإيماءات الصغيرة، وأحاديث الظل، كلها كانت تفضح أن الفوارق الاجتماعية لا تزال حاضرة، وأنّ قبول النبلاء لهذا القانون لم يكن مطلقًا.
أستر، وقد أدرك حساسية الموقف، لم يرد أن يكشف حقيقة معرفته. فقد كان يعرف من الرواية الأصلية أنّ المستويات ليست مجرد معارك عشوائية، بل هي اختبارات متعددة الأبعاد، تقيس القوة الجسدية، المهارة القتالية، وكذلك الذكاء التحليلي والقدرة على الاستنتاج. لذلك، قرر أن يجيب بعبارة غامضة، لا تصرّح ولا تنفي.
قال بصوت هادئ، عميق النبرة:
ــ "ألم تشعر أنّ هناك اختلافًا كبيرًا بين هذا المكان والغابة السابقة؟"
تبادل الطلاب النظرات، وارتسمت على وجوههم علامات الاستغراب. حتى ألبرت وجوي وجيسيكا، الذين كانوا يتابعون بصمت، رفعوا حواجبهم بدهشة. كانوا ينتظرون تفسيرًا، لكن أستر لم يتعجّل. اختار أن يترك كلماته تثير فضولهم، وتجعلهم أكثر استعدادًا للإصغاء.
حتى المعلمون في غرفة المراقبة، حين وصلهم الصوت عبر القنوات السحرية المرتبطة بالشاشات، مالوا إلى الأمام ليصغوا بانتباه. كان من النادر أن يتحدث طالب بهذا الوضوح عن طبيعة الامتحان أمام الآخرين.
تابع أستر كلامه، وصوته ينساب ببطء، كأنه يضع لبنة فوق أخرى:
ــ "نحن لم نكن نقاتل داخل ميدان حقيقي، ولم نعبر بوابة حقيقية. ما رأيناه، وما عشناه، كان مجرد محاكاة... نظام افتراضي مصنوع بالسحر."
ترددت كلماته في الهواء كالصاعقة. ارتجف بعض الطلاب، وظهرت على وجوههم علامات الذهول. لم يصدّقوا ما سمعوه في البداية. فكرة أنّ ما واجهوه لم يكن واقعًا، بل مجرد وهم متقن، كانت كافية لإرباك حتى أقوى القلوب.
أما ألبرت ونيفير وجوي وجيسيكا، فقد ثبتت أنظارهم على أستر، يدرسون ملامحه بعناية. كان في أعماقهم سؤال واحد يتردّد: "كيف عرف هذا؟"
حتى المعلمين أنفسهم تبادلوا النظرات في غرفة المراقبة، وقد ازدادت دهشتهم. فالأكاديمية لم تكشف هذا السر للطلاب من قبل، ولم يكن من المفترض أن يدركوه بهذه السرعة.