الفصل الأول: العلاقات الإنسانية وهم

"هذا غريب..."

كانت هذه الكلمات أول ما تفلت من شفتي بعد صمتٍ امتد لما يقارب العشرين دقيقة، صمت أثقل الهواء من حولي وجعلني أكاد أسمع خفقات قلبي كأنها مطرقة تضرب على جدار صدري. لم أكن واثقًا إن كنت قد تلفظت بها حقًّا بصوت مسموع أم أنها لم تتجاوز حدود فكري المضطرب، لكنني أدركت على الفور أنّها التعبير الأقرب لما يعتمل في داخلي.

اسمي... أو هكذا أذكر، هو جاكي فورتنايت. وما يثير الاستغراب أنّني لم أجد نفسي في بيتي، ولا في أي مكان مألوف لذاكرتي القصيرة أو الطويلة. حين فتحت عيني وجدتني محاطًا بجدران شاهقة مكسوّة بنقوش وزخارف مذهلة. كنتُ أقف وسط غرفةٍ لا توصف إلا بالملكيّة. كل شيء فيها يشي بالعظمة والترف: الستائر المخملية الثقيلة بلونٍ قرمزي داكن تتدلى بكسلٍ على جانبي النوافذ العالية، الأرضية اللامعة التي عكست الأضواء الخافتة المتسللة من الشمعدانات النحاسية المتناثرة على الجدران، الأثاث المصنوع بدقّة فائقة من خشبٍ غامق مصقول، مزخرف بتذهيب رقيق. كان المشهد بأسره أشبه ما يكون بصفحةٍ مطويّة من كتابٍ قديم يحكي عن لندن في عهدها الفيكتوري.

حين تأملت تصميم الغرفة، هاجمتني ذكريات قراءاتي وصوري الذهنية عن تلك الحقبة: مزيجٌ من الوقار والصرامة والأناقة المتحفظة. كان كل تفصيل في المكان يفرض عليّ شعورًا بالفخامة المهيبة، وكأنّني لست سوى دخيل في متحفٍ حيّ.

خطفت بصري مرآة ضخمة مثبتة بإطارٍ مزخرف، تقف قبالة السرير المرتفع ذي الأغطية المطرّزة. اقتربتُ منها بتردد، وشيء في داخلي يخبرني أنّ الانعكاس لن يكون عاديًّا. وقفت أمامها، فإذا بي أرى وجهاً أعرفه تمام المعرفة، ومع ذلك لا أعرفه البتة. لقد كان وجهي، أو على الأقل ما يُفترض أن يكون وجهي.

حدّقت طويلاً في ذاك الشاب الذي يحدّق إليّ من وراء الزجاج: ملامح دقيقة مشدودة، بشرة بيضاء خالية من العيوب، شعر أشقر ينساب بانسيابٍ مرتبك على كتفيه، وعينان زرقاوان صافيـتان كسطح بحرٍ هادئ تحت ضوء القمر. كان وجهه ساكنًا، بلا أي أثرٍ لانفعال، أقرب إلى قناعٍ جميل أو صورةٍ ملتقطة بعناية من لوحة زيتية قديمة. لم يكن سحر جماله في كونه وسيماً فحسب، بل في ذلك الغموض البارد الذي يلفّه.

تصلّبت أنفاسي. ذلك الشاب... كان أنا. نعم، إنّه أنا ولكن ليس أنا الذي عهدت نفسي عليه. ففي حياتي السابقة كان شعري أسود داكنًا يميل إلى الزرقة في ضوء النهار، وكانت عيناي بنيتين قاتمتين، تحيط بهما هالات سمراء. لم يكن بينهما وبين هذا الوجه الجديد أي شبهٍ سوى الخطوط الكبرى التي تشكّل هيكل ملامحي. كانت تلك الصدمة الأولى.

وفي اللحظة التالية مباشرة، قطعت الطقطقة الخفيفة صمتي وشرودي. كان الصوت واضحًا، منتظمًا، قادمًا من اتجاه الباب. خُيّل إليّ أنّه طرقٌ مهذّب، مقصود بعناية. تجمّدت مكاني، وقلبي يخفق بتسارع.

ثم تردّد صوت أنثوي رقيق من خلف الباب:

ــ "مرحبًا يا سيدي، هل استيقظت؟ أنا إيميلي... لقد أرسلني كبير الخدم جورج. أتمنى أن تفتح الباب."

كان صوتها عذبًا، شفيفًا، يحمل رنينًا طفوليًا ولكنه مفعم بالاحترام والوقار. استمعت إليه وأنا مأخوذ، لا أدري كيف عليّ أن أجيب. لم يسبق أن سمعت باسم "إيميلي" في حياتي، ومع ذلك بدا مألوفًا كأنني صادفته بين صفحات رواية.

بدأت خيوط إدراك جديدة تنسج نفسها داخلي. نعم... لا بدّ أنّ ما حدث هو انتقال، أو بالأحرى تناسخ إلى عالمٍ آخر. الغرابة في الأمر أنّ الفكرة لم تثر ذعري بقدر ما أثارت حماسي. فقد كنت دائمًا مهووسًا بالأساطير والقصص المصوّرة والمانجا اليابانية، وأمضيت طفولتي ومراهقتي ألهث وراء عوالمها الخيالية. ربما لهذا بدا التكيّف مع وضعي الجديد أقلّ وطأة مما توقعت. لكن رغم ذلك، تسلّل إلى ذهني سؤال مقلق: ماذا سيحدث لو اكتشف الناس هنا أنّني لست صاحب هذا الجسد الأصلي، بل دخيل احتل مكانه؟ ماذا سيكون رد فعلهم؟ هل سيعدّونني وحشًا؟ شيطانًا؟ أم أنّ الأمر سيقودني إلى مصير مجهول؟

كانت فرضياتي تتداعى بسرعة، لكن الأدلة البسيطة أمامي أشارت بوضوح إلى أنني في قصرٍ ضخم، وربما من طرازٍ فيكتوري أو ما شابهه. الفتاة التي تقف خلف الباب تخاطبني بعبارات الاحترام والتهذيب، ما يعني أنني لست مجرد ضيف عادي، بل قد أكون سيدًا ذا شأن. الاحتمال المنطقي الوحيد: أنّني وريث لعائلة نبيلة، أو على الأقل أن وضعي الاجتماعي يفوق وضعها.

لم أُطل التفكير أكثر. سعَلتُ بخفة، لا لأنني كنت أعاني من ضيقٍ في حلقي، بل كحيلةٍ لقتل التوتر الذي اجتاحني. ثم رفعت صوتي بقدر ما يكفي ليصل إليها:

ــ "تفضّلي بالدخول يا آنسة."

دوّى صرير الباب لحظة انفتح ببطء، وكان صداه يتردّد في أركان الغرفة كأنّني أسمع حفيفًا قادمًا من زمن آخر. دخلت الفتاة بخطواتٍ محسوبة. كانت ترتدي زيًّا أسود وأبيض لا يُرى عادة إلا في الرسومات أو القصص الخيالية؛ زيّ الخادمات كما يصوّره الأدب الياباني والأنمي. رفعت بصري إليها، فأسرني المشهد. شعرها كان أزرق داكنًا ينساب برقةٍ حول كتفيها، وعيناها خضراوان زاهيتان كالزمرد تحت ضوءٍ خافت. بدت رقيقة، لكن في ملامحها بقايا صلابة وخوف دفين.

شعرتُ بارتباكٍ داخلي، وقلت في سري: "إنها ظريفة حقًّا." ومع ذلك لم يكن في نفسي أي ميل للاقتراب منها. لطالما كنت في حياتي السابقة شخصًا منطويًا، أفضّل الوحدة على الزحام، وأستسيغ العزلة أكثر من أي علاقة قد تُقيد حريتي. لم أؤمن يومًا بالعلاقات، ولم أرَ فيها سوى قيدٍ يلتف حول عنق الحرية الإنسانية. لذلك لم تكن الفتاة بالنسبة لي أكثر من جزءٍ من المشهد.

كانت تحمل صينية فضية لامعة فوقها إبريق شاي مصنوع من زجاجٍ فاخر محفور بزخارف دقيقة، وحوله عدة أكوابٍ صغيرة مرتبة بعناية. بجانبها علبة صغيرة تحتوي مسحوقًا أبيض أدركت فورًا أنّه السكر. تقدّمت بخطوات حذرة، تضع كل قدمٍ أمام الأخرى كما لو كانت تمشي فوق أرضٍ مجهولة. بدا واضحًا أنّها كانت تراقب ردّ فعلي، تترقب أي تصرّف قد يصدر مني.

في الغرفة طاولة منخفضة أمام أريكة وثيرة. وضعت الصينية عليها بهدوء، ثم انحنت برشاقةٍ عميقة قائلة:

ــ "أعتذر يا سيدي الشاب عن التأخر. أتمنى أن لا أكون قد قصّرت في خدمتك."

هزني الموقف قليلًا. لم يكن السبب لهجتها الاعتذارية فحسب، بل لأن المشهد برمته أعاد إلى ذاكرتي صورة كنت قد قرأتها في إحدى المانجا اليابانية. الأمر بدا كما لو أنّ الكتاب الذي كنت أطالعه بالأمس قد انفتح فجأة وتحول إلى واقع ملموس حولي.

اقتربت من المقعد الموضوع أمام الطاولة. الغريب أنّ جسدي تحرك كما لو أنّ قوة خفية تسيره. جلست بانسيابٍ مدروس، وساقاي تستقران في الوضعية المثلى، وكتفاي يرخوان نفسيهما على المقعد دون تكلف. شعرت بأنني لست سوى دمية تحركها أيادٍ خفية غير مرئية، أسلاك دقيقة تتحكم بكل حركة وتضعني في الموضع "الأنسب".

بعد أن جلست، خرجت مني همهمة قصيرة كأنني أفكر في شأنٍ جلل. بقيت إيميلي منحنية أمامي، لا ترفع عينيها عن الأرض، مخلصة تمامًا لدورها كخادمة متواضعة. وهنا تجدد الإحساس الغريب: "لقد عشت هذا المشهد من قبل... قرأته ورأيته بين صفحات قصة ما."

ثم، فجأة، ظهر أمام ناظريّ ما لا يمكن تفسيره بعقلٍ عادي: شاشة زرقاء مضيئة، عائمة في الفراغ، تحمل كلماتٍ غريبة بلغةٍ مفهومة بالنسبة لي على نحوٍ عجيب. كان الأمر مألوفًا، كأنني انتظر ظهوره منذ البداية. تسارعت أنفاسي، لكن الغريب أنّني بقيت هادئًا في العمق، كما لو أن روحي كانت تتوقع هذا.

قرأت المكتوب:

---

الاسم: أستر دي فينكس

الانتماء: ابن عائلة فينكس، سليل المركيز الخاص بإمبراطورية نوفا كرون الخالدة في قارة الخلود.

المكانة: الابن الثاني للمركيز ألكسندر دي فينكس.

القدرات:

سحر البرق ـ نسبة التوافق: 60%

سحر الرياح ـ نسبة التوافق: 30%

سحر الماء ـ نسبة التوافق: 30%

السلالة: دماء طائر العنقاء (الحالة: غير مفعّلة).

---

ابتلعت ريقي ببطء. داخليًا، تمتمتُ: "كنتُ على حق... هناك نظام، أو لعله برنامجٌ غامض، أو ربما يدٌ خفية تراقبني وتزوّدني بالمعلومات. لا أعرف المصدر بعد، لكنني سأكتشف الحقيقة عاجلًا أم آجلًا."

مددت يدي إلى الكوب الذي سكبت فيه إيميلي الشاي. تصاعد البخار من السائل الداكن، ممزوجًا برائحة عطرية منعشة تُشبه عبق الأعشاب البرية الممزوجة بالياسمين. رفعت الكوب بين أناملي وأخذت أراقب انعكاس الضوء على سطحه، كأنه بحيرة ساكنة تهتز مع كل حركة بسيطة. رحت أحرّك السائل برفق، وأفكاري تتحرك معه في دوائر متداخلة.

نظرت بطرف عيني إلى إيميلي. وفي اللحظة نفسها تغير محتوى الشاشة الزرقاء أمامي لتعرض معلومات جديدة:

---

المعلومات الشخصية: إيميلي دوكي

ابنة عائلة فرعية برتبة كونت من الأراضي الخالدة الجنوبية.

بعد مقتل عائلتها بالكامل وضياع إرثها، تبنتها عائلة المركيز فينكس لتصبح الخادمة الشخصية لأستر دي فينكس.

تنويه ـ مستوى العلاقة: 20%

علاقتها بك علاقة عمل بحتة بصفتها خادمة.

تنفذ أوامرها بحرص، لكنها لا تبدي أي اهتمام شخصي بك ولا ترى فيك أكثر من سيدها.

---

ارتسمت ابتسامة هادئة على شفتي، شعرت معها بالرضا عن نفسي. قلت في داخلي: "مثير للاهتمام. كما توقعت، العلاقات بين البشر ليست إلا أوهامًا، قشرة زائفة سرعان ما تتبخر أمام الحقائق. لم أخطئ يومًا حين اعتقدت أنّها لا تستحق العناء."

ذكرياتي كيتيم، كطفلٍ نشأ بعيدًا عن أي دفء أسري، بدت الآن وكأنها سلاح سرّي يمنحني قدرةً على رؤية الشخصيات من حولي دون التعلق بهم. ومع ذلك، لم أستطع تجاهل صدمة جديدة حين قرأت اسمها جيدًا: "إيميلي دوكي"... كان الاسم مألوفًا على نحوٍ مرعب. نعم! لقد قرأته من قبل.

اتسعت عيناي بدهشة، وارتجفت ابتسامة خافتة على وجهي، كطيفٍ عابرٍ لا يدوم. عادت إليّ دفعةٌ من الذاكرة: لقد كانت إيميلي شخصية بارزة في رواية قرأتها قبل زمن قصير، رواية بعنوان "أبطال المملكة المنبوذة".

تدفقت الأحداث في رأسي. تذكرت كيف بدأت الرواية: بطل قروي صغير تُدمر قريته على يد الشياطين إثر ظهور بوابة سحرية. ثم انتقاله إلى أكاديمية القدرات المطلقة، الأكاديمية التي تحكم عالم "أبطال المملكة المنبوذة". وهناك... نعم، كانت إيميلي دوكي إحدى البطلات الرئيسيات في القصة، معروفة بلقب: "سيدة السحر الجليد الأبيض".

جفلت روحي من الدهشة. إن كنتُ حقًّا داخل هذه الرواية، فإن كل خطوة أخطوها ستكون محفوفة بالمخاطر.

أنهَيت شرب الشاي بهدوء، ثم التفتُ إليها وأمرتُها بالمغادرة. أطاعت بلا تردد، وانسحبت بخطواتٍ خفيفة حتى أُغلق الباب خلفها. بقيت وحدي في الغرفة، والهدوء يبتلعني من جديد.

توجهت نحو المكتب الكبير في زاوية الغرفة. فوقه كدست كتب عديدة ومجلدات ضخمة ذات أغلفة سميكة. وقفت أمامه، وضعت يدي على أحد الكتب، وشعرت ببرودته تحت أصابعي. رفعت رأسي إلى السقف المزيّن بالنقوش، وعيناي تكتسبان قسوةً غير مألوفة، وكأنّ جليدًا يغزو أعماقي. تمتمت بصوتٍ مبحوح:

ــ "سأتأكد الآن... إن كنتُ حقًّا في هذه الرواية. إن كان قدري أن أعيش داخلها، فعليّ أن أستعد... لأن الموت قد يأتي في أي لحظة."

---

في لحظة كنت قد اصبحت جالسًا على كرسيٍ متين أمام مكتب فخم، مكتب بدا لي منذ الوهلة الأولى وكأنه تحفة نادرة صُنعت بعناية لتليق فقط بالأمراء أو بأصحاب الثراء الفاحش الذين اعتدنا أن نقرأ عنهم في القصص الخيالية القديمة. سطح المكتب كان يلمع تحت الضوء الذي انسكب عليه من نافذة عالية مزخرفة بستائر سميكة، وكان الخشب يحمل لونًا داكنًا يوحي بالقدم والرسوخ، وكأن الحرفيين الذين صنعوه أرادوا أن يحفروا فيه معنى البذخ والهيبة معًا. لا شك أنه لم يكن شيئًا عاديًا؛ لقد كان مصنوعًا من مواد نادرة، ربما جُلبت من أماكن بعيدة لا يعرفها سوى الرحالة أو الملوك.

توقفت لبرهة عن التفكير في ماهية هذا المكتب وعن تفاصيله الدقيقة، وأبعدت نظري عنه، محاولًا التشبث بما هو أهم وأعمق. كان هناك شيء آخر يفرض نفسه عليّ، شيء يشدّ انتباهي بقوة أكبر: الكتب. كانت الكتب مصطفة أمامي، بعضها فوق بعض، وبعضها الآخر مرصوص بعناية على رفوف جانبية، وكأنها تنتظر من يمد يده إليها. هذه الغرفة لم تكن عادية، بل كانت أنيقة على نحو يثير الدهشة، منظمة بطريقة دقيقة إلى حد جعلني أشعر للحظة أنني لست في مكان واقعي، بل في حلم صيغت تفاصيله ليغويني بالسحر والجمال. كل زاوية من الغرفة كانت تشهد على ذلك الترتيب الباهر الذي يفوق حدود التوقع.

ومع أن المشهد برمته كان فاتنًا، فإن شعورًا غريبًا بدأ يثقل روحي. كان هناك همس داخلي يردد بلا توقف أن كل هذا ليس إلا حلمًا، وأنني سأستيقظ في أي لحظة لأجد نفسي عائدًا إلى غرفتي الضيقة، تلك الغرفة الكئيبة في شقة بالية لا تتجاوز مساحتها مساحة شقة متوسطة، تقع في حي متدنٍ، حيث ضجيج الحياة اليومية يبتلع أي محاولة للهدوء. كأن وجودي هنا مجرد ومضة، سراب سينقشع.

ومع ذلك، لم يكن هذا الإحساس بالزيف يبدد رهبة الموقف. بالعكس، كان يعمّق في داخلي ألمًا يصعب وصفه. روحي نفسها بدت وكأنها تتألم لمجرد معرفتها بأشياء كثيرة لا ينبغي أن أعرفها. ربما كان السبب أنني أدركت أنني داخل رواية، أنني أعرف أحداثًا ستأتي لاحقًا، أنني محاصر بمعرفة مسبقة تجعل العودة إلى حياة طبيعية حلمًا بعيدًا. لم تكن رغبتي بالعودة إلى عالمي القديم، بضعفي وعاديته، مجرد نزوة، بل كانت أقوى من كل شيء آخر.

رحت أحدّق في الكتب الموضوعة أمامي. لم تكن كتبًا عادية، بل كتبًا ذات طابع سحري، عناوينها موشّاة برموز غامضة، وحروفها تتوهج بخفوت. رحت أفتح بعضًا منها بحذر، متعجبًا من أنني، أو بالأحرى هذا الجسد الذي أسكنه الآن، يملك قدرة على قراءة الأسماء وفهم المحتوى وكأن اللغة محفورة في داخلي منذ ولادتي. حتى أنا نفسي أصابتني الدهشة من سهولة ذلك الفهم. كان الأمر يزداد غرابة كل لحظة: أن تنتقل إلى عالم رواية أمر عجيب بحد ذاته، لكن أن تمتلك أيضًا معرفة لم تكن لك من قبل، معرفة مسطورة في هذه الكتب، فهذا فوق التصور. الأمر لم يكن نتيجة تقنية أو تكنولوجيا مألوفة، بل كان نتيجة معاهدة سحرية غامضة.

أستر ــ الاسم الذي كان لهذا الجسد قبلي ــ لم يكن يومًا شخصًا عاطفيًا، بل كان عقلانيًا، علميًا، يميل إلى التحليل البارد. شخصية انطوائية قليلة التعاطف، تميل إلى الانعزال أكثر مما تميل إلى الانفتاح. وجوده، أو بالأحرى وجودي عبره، في هذا المكان جعله يشعر بريبة عميقة لا تهدأ، ريبة تنغرس في القلب ولا تقاوم. ومع ذلك، لم يجد أمامه سوى أن يحاول أن يحلل الموقف ويستوعبه قدر المستطاع، وكأن عقلانيته القديمة هي الملجأ الأخير.

وبينما كنت أتأمل المكان، فتحت أحد الأدراج الصغيرة في المكتب. هناك وجدت شارة معدنية صغيرة تلمع تحت الضوء. كانت هذه الشارة تحمل نقشًا خاصًا بالأكاديمية، "أكاديمية القوة المطلقة". لم أحتج إلى وقت طويل حتى أتذكر أن هذه الشارة تخص الطلاب المنتسبين إلى تلك الأكاديمية. حملتُها بين أصابعي وتأملتها مطولًا. كان عليها نجم واحد فقط. وهذا يعني أنني، أو هذا الجسد الذي أسكنه، طالب في السنة الأولى.

تدفقت إلى ذهني معلومات كثيرة كنت قد قرأتها في الرواية. الطلاب في هذه الأكاديمية يقيمون فيها مدة أربع سنوات، يبدأون من سن السادسة عشرة حتى العشرين. النبلاء فقط هم من يُسمح لهم بالعودة إلى عائلاتهم في المراسم الرسمية أو المناسبات الكبرى الخاصة بالمجتمع الأرستقراطي. أما البقية، فيبقون داخل أسوار الأكاديمية، حيث الحياة محكومة بقوانين صارمة.

لم يكن صعبًا أن أستنتج المرحلة التي أنا فيها الآن. شارة بنجمة واحدة تعني أنني في السنة الأولى، وربما لم تبدأ الدراسة بعد. فتحت بعض الكتب الموضوعة على الطاولة لأتأكد من حالها. كما توقعت، لم تكن مفتوحة من قبل؛ بدا أن أستر، صاحب الجسد الأصلي، لم يكترث بها قط. أوراقها ناصعة، حروفها لم تمسّ.

ذاكرتي عن الرواية التي كنت قد قرأتها في عالمي القديم لم تكن كاملة. كانت مشوشة بعض الشيء، ربما لأني أنهيت قراءتها منذ فترة قصيرة فقط. لكن رغم ذلك، كانت هناك بعض الأسماء التي لم أنسها، أسماء بقيت عالقة في الذهن. من بينها "إيميلي دوكي".

إيميلي… تذكرتُها جيدًا. فتاة من عائلة الكونت دوكي. لقد مات والدها ووالدتها أثناء قتالهم ضد الشياطين التي تسللت من القارة السفلية. كانت عائلة الكونت دوكي مسؤولة عن الدفاع عن حدود الإمبراطورية، شأنها شأن بقية عائلات الكونت الخمسين المنتشرين حول أطراف الإمبراطورية، والذين يشكّلون جميعًا الدرع الذي يحميها من الأخطار.

تنهدتُ بعمق وأنا أستحضر القصة. لقد مات والدها على يد شيطان من رتبة عليا، شيطان لم يستطع أحد إيقافه في الوقت المناسب. وكنتيجة لذلك، أصدر الإمبراطور قرارًا قاسيًا بسحب لقب الكونت من عائلة دوكي، فانهارت مكانتهم، وأصبحت إيميلي فجأة مجرد فتاة عادية لا سند لها.

في تلك اللحظة، قام والد أستر، أي الأب الذي ينتمي لهذا الجسد، بأخذها تحت جناحه، درّبها واحتضنها. لكن ما بدا في حينه فعلًا نبيلًا مليئًا بالرحمة، كان في الحقيقة بداية كارثة مقبلة. لم يكن يدرك أنه جلب بذرة دمار إلى عائلة فينكس. في المستقبل، ووفقًا لما أعرفه من الرواية، ستكون إيميلي السبب في انهيار هذه العائلة.

لقد كانت فتاة ذات طموحات جامحة، مجنونة بأحلامها، لا تلتفت إلى ما يعيقها. وجودها في هذه العائلة لم يكن بدافع الامتنان، بل كان بسبب حاجتها إلى الدعم المؤقت. كانت مضطرة للبقاء هنا فقط لأنها تحتاج إلى سند يساعدها على دخول الأكاديمية. دخول الأكاديمية كان شرطًا أساسيًا لتصبح أحد الفرسان، تلك الرتبة الخاصة التي لا ينالها إلا الموهوبون بالفطرة. الفرسان وحدهم يمكنهم بعد التخرج أن يحصلوا على لقب رسمي في الإمبراطورية.

كل هذه التفاصيل لم تكن سوى أجزاء متناثرة تذكرتها من الرواية، صورًا ضبابية لكنها كافية لتجعلني متوترًا. أستر ــ أو أنا الآن ــ لم يكن مذكورًا في الرواية الأصلية، أو ربما لم يكن له دور بارز يعلق في الذهن. هذا الغموض بحد ذاته كان يربكني، يجعلني أتساءل إن كان وجودي في هذا الجسد سيغير مسار الأحداث التي أعرفها.

مرّت ساعات وأنا غارق في الكتب. رحت أفتح صفحاتها واحدة تلو الأخرى، أقرأ السطور بعين يملؤها الفضول والخوف في آن واحد. كانت هذه الكتب بمثابة مفاتيح لفهم هذا العالم الجديد، لفهم قواعده، سحره، تاريخه، وأسراره. وكلما غصت فيها، ازداد شعور ثقيل يخنق قلبي. شعور يدفعني دفعًا إلى التعمق أكثر، وكأن قوة خفية تجبرني على ذلك.

كنت أفتقد عالمي القديم؟ الحقيقة أنني لم أكن أملك هناك ما أفتقده. لم يكن لدي أهل أو عائلة؛ كنت مجرد يتيم آخر يعيش في عالم جشع، عالم لا يرحم. ومع ذلك، كان ذلك العالم ــ بكل قسوته ــ مألوفًا. كان على الأقل مفهومًا بالنسبة لي. أما هنا، فالأرض نفسها تبدو وكأنها تختزن نذرًا كارثيًا.

قد يكون البقاء على قيد الحياة حتى نهاية هذه الرواية أصعب مهمة سأواجهها في حياتي كلها. في عالمي القديم، كان البقاء مجرد صراع مع الفقر والخذلان. أما هنا، فالبقاء يعني مواجهة وحوش، شياطين، مؤامرات، ونهاية مكتوبة سلفًا.

ومع ذلك، كان داخلي يتمسك بخيط ضعيف من الأمل. ربما، فقط ربما، أستطيع أن أجد في هذا الكون فرصة لم أجدها في عالمي السابق. فرصة أن أعيش حقًا، لا أن أُسحق تحت وطأة مجتمع لا يرحم. ومع ذلك، لم يكن هذا الوعد البعيد يخفف من رهبة اللحظة. كل ما استطعت فعله هو أن أستمر في القراءة، في الفهم، وفي محاولة الاستعداد لمصير مجهول ينتظرني.

---

ما رايكم يا رفاق بالفصل

اتمنى منكم ان ارى تعليق لكي يساعدني ذلك على اكمال القصه اذا كنتم تعتقدون انها جميله

اتمنى ان يكون سردي جيدا بالنسبه لكم وليس سيئا اذا كان لديكم اي انتقادات فسوف اكون سعيدا بسماعها كونوا متاكدين ان الفصل القادم سيكون سريعا بالتنزيل

واخيرا انا اشكركم جزيلا على قراءتكم الفصل واستمتاعكم احب دائما اتكلم مع الرائعين لذلك اذا كنتم مهتم

ين يمكنكم انضمام من خلال خانه الداعم الى مجموعه

الواتساب او التيليجرام حسب الذي تختارونه يا رفاق كون واثقين انني ساكون مهتما بالتحدث مع اي شخص منكم يا ابطال

2025/09/13 · 207 مشاهدة · 2894 كلمة
ONE FOR ME
نادي الروايات - 2025