تعليق بالاضافه الى.. كلمه استمرار ستكون رائعه
تستطيعون فعلها يا ابطال انا اثق بكم
السؤال؟ما رايكم بصوره جيسيكا فاليريو وهل شكلها جيد
الفصل الواحد والعشرون: إليانور زيبيكيان ـــ كهف الصعود
"سمو الأمير… سامحني، ولكنني أشعر وكأن هذه القاعة العجيبة تمتص شيئًا من جوهرنا، كأنها تشرب طاقتنا السحرية قطرة بعد قطرة، دون أن نملك وسيلة لصدّها أو منعها"
كانت القاعة التي وقفت فيها إليانور زيبيكيان فسيحة إلى حدّ يثير القلق، اتساعها يسمح لمئة شخص بالتحرك فيها دون أن يتصادموا أو يضيق بهم المكان، ومع ذلك أحاطت بهم جدرانها السوداء الفاخرة، ورخام أرضها اللامع الذي يعكس بريق البلّورات المعلقة على السقف. البلّورات البيضاء المتوهجة لم تكن مصدر ضوء عادي؛ إذ بدت وكأنها تراقب الداخلين بعين خفيّة، تنشر نورًا باهتًا يشبه نور القمر في ليلة غائمة، نورًا يكشف الملامح بقدر ما يخفيها، ويزرع في النفس ريبة غامضة، وارتعاشة لا سبب ظاهر لها.
إليانور نفسها، تلك الفتاة الشقراء، كان شعرها ينسدل حتى أسفل ظهرها مثل شلال ذهبي يلمع تحت الضوء الأبيض المائل إلى البرودة. بشرتها البيضاء الناعمة تشبه صفاء الثلج، لكن عينيها، اللتين طالما كانتا كبحيرتين زرقاوين صافيتين، غطّتهما قماشة رقيقة شفافة، أشبه بستار بين عالم الرؤية وعالم الغيب. لم يبدُ من ملامح وجهها سوى نصفه الأسفل؛ فمها الرقيق، ابتسامتها المقيّدة، وأنفاسها التي تختلط بالهواء الرطب للقاعة، لتكشف شيئًا من قلق دفين تحاول أن تخفيه خلف تلك السكينة المزيّفة.
وبالقرب منها، كان يقف الشاب الذي خاطبته بقولها "سمو الأمير". لم يكن مجرد طالب آخر في أكاديمية توتنهام، بل كان محور أنظار الجميع. في السادسة عشرة من عمره، طويل القامة بما يكفي ليبدو أكبر من سنّه، يحمل سيفه بيد متكاسلة كأن السلاح مجرد امتداد طبيعي لجسده لا يشعر بثقله ولا ببرودته المعدنية. الغريب أنه لم ينظر إلى رفاقه، بل ترك عينيه الذهبيتين تتأملان الجدران السوداء من حوله، وكأن النقوش الخفيّة المنحوتة عليها تخبره بأسرار لا يراها سواه. شعره الذهبي أيضًا كان يعكس ضوء البلّورات، فيتوهّج كوهج نارٍ مكتومة تنتظر أن تشبّ في العاصفة. أما ثوبه الأكاديمي فكان مألوفًا، إلا أن صدره حَمَل شعارًا خاصًا: تنين منقوش بمهارة، يثير في النفوس رهبة عتيقة وفضولًا لا يهدأ.
صوته حين أجابها كان ثابتًا، كأنه لا ينتمي إلى أجواء القلق التي تملأ القاعة:
"أنت محقّة يا آنسة زيبيكيان. هذه الغرفة تسرق منا ما تقدر عليه من الطاقة. لكن صدقيني، ما يُنتزع منّا ليس شيئًا يُذكر، مقارنة بما نملك من قوة كامنة لم تُستدعَ بعد."
انصت بقية الطلاب إلى كلماته كأنها قانون غير مكتوب. قبض بعضهم على أسلحتهم بارتباك، ووجوههم متوترة كمن يتهيأ لمجهول مخيف. آخرون التفتوا إلى الظلال الممتدة في الزوايا، كأنهم يتوقعون وحشًا سيخرج منها في أي لحظة.
لم يكن هذا التشاؤم بلا سبب. قبل قليل فقط، تعرّضوا لهجوم مفاجئ من قطيع ذئاب جائعة، أعقبته معركة مع قرود حجرية ضخمة كأنها بُعثت من الأساطير القديمة. ومع ذلك، نجوا جميعًا بفضل التوجيهات الهادئة للأمير، وكلماته التي بثّت فيهم يقينًا عجيبًا. كانوا يقاتلون بدقة متوازية، كل حركة تصبّ في الأخرى كأنهم فرقة موسيقية يعزف أفرادها نغمة واحدة.
ووسط كل هذا، كانت هناك إليانور، المرشحة لأن تكون قديسة في الكنيسة العظمى، تقف إلى جوار الأمير كأنها ظله الملاصق. نظراتها كانت تتأرجح بين السقف والجدران، محاوِلة أن تستشف ما تخبئه تلك القاعة المريبة. القماشة البيضاء التي غطّت عينيها لم تمنعها من رؤية ما يفوق المظاهر المادية، إذ كانت بصيرتها الداخلية أعمق من أعين كثيرة.
غير أنّ اللحظة التالية حملت لهم مفاجأة مروّعة. اهتزّت الأرض تحت أقدامهم اهتزازًا عنيفًا، أول الأمر بدا كزلازل صغيرة، ثم تصاعد حتى جعل الحجارة تئن، والجدران السوداء تصدر صدى مدوّياً. لكن هذا لم يكن أغرب ما حدث، إذ فجأة، انبثقت في الهواء دائرة سحرية متوهجة، خطوطها تتشابك بنقوش لم يرها أحد من قبل. ارتفع الصوت بين الطلاب، وقال أحدهم بصوت متوتر:
"ماذا يجري؟! إنها دائرة نقل… سوف يتم انتزاعنا من هنا إلى مكان آخر!"
طالب آخر، من النبلاء المعروفين ببرودة أعصابهم، شدّ قبضته على سيفه حتى ابيضّت مفاصله، ثم التفت إلى رفيقه وهمس:
"ابقَ بجانبي. أشعر أن ما سيأتي أخطر مما مررنا به. يبدو أنهم سيفصلوننا الآن."
أما الأمير، فلم يبدُ عليه أي قلق، على العكس، ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، وعيونه الذهبية انعكست فيها قناعة غامضة، بل نوع من اللامبالاة الصارمة التي أربكت الجميع. لم ينتظروا طويلاً، إذ غمر المكانَ ضوءٌ أبيض ساطع محا سواد الجدران، وتحوّل كل شيء إلى فراغ مشرق، أعمى الأبصار وابتلع الأصوات.
…
حين استعادت إليانور وعيها، كان أول ما سمعته أنفاسها المضطربة ترتدّ من جدران صخرية. نظرت من حولها، فإذا بالأرضية خشنة، والجدران ملتفّة من الحجر الخام. لم يكن ثمة أثر للقاعة السوداء ولا للطلاب الآخرين، بل كل ما يحيطها يوحي بأنها داخل جبل أجوف أو كهف عميق. الضوء الذي غمرها قبل قليل ترك في عينيها ارتعاشة مزعجة، حتى إنها رفعت يدها تلمس القماشة لتتأكد أنها لا تزال هناك.
"أين سمو الأمير؟" تساءلت بقلق، صوتها يتردد في الفراغ كصدى وحيد. كانت متأكدة أن رفاقها يفترض أن يكونوا بجوارها، لكن الواقع خالف ظنها. هنا، وحدها، باستثناء ذلك النفس البعيد الذي أخذ يقترب شيئًا فشيئًا.
وفي اللحظة التالية، تجسّد أمامها شاب نبيل يرتدي زي أكاديمية توتنهام، ثوبه الأحمر بخطوطه الذهبية اللامعة يشير إلى مكانته. على صدره شعار العنقاء، رمز إحدى العائلات النبيلة العريقة. إليانور، التي درست في الكنيسة تاريخ النبلاء وأسرارهم، تعرّفت على الشعار في لحظة.
الشاب لم يلتفت إليها بدايةً، بل تابع سيره في الممر الصخري حتى أدرك وجودها، فتوقف خطوات قليلة عنها. بدافع العادة والتربية، بادرت هي إلى التحية:
"مرحبًا بك، اسمي إليانور زيبيكيان."
كانت كلماتها نابعة من أدبها، فهي مرشحة للقداسة، وتعلم أن الكنيسة في مرتبة تفوق مرتبة كثير من النبلاء، لكن ذلك لا يمنعها من مراعاة البروتوكول. توقعت منه أن يرد بالمثل، لكنه اكتفى بانحناءة سريعة بالكاد تُرى.
سألته بلطف: "هل كنت أيضًا في تلك القاعة السوداء؟ هل كنت مع مجموعة من الطلاب؟" لكنها لم تتلق جوابًا. كل ما فعله أنه ثبت نظره عليها لثانية، ثم حوّل بصره إلى جدران الكهف، ومضى متجاوزًا إياها بخطوات بطيئة واثقة.
أثار هذا التصرف استغرابها، بل وشيئًا من الامتعاض. لم تعتد أن يتجاهلها أحد وهي تخاطبه مباشرة. ومع ذلك، تمسكت بصبرها، وتبعت خطواته محاولة أن تفهم.
"سيدي، هل هناك ما يمنعك من الحديث؟ لِمَ لا تردّ عليّ؟"
لكنه استمر في سيره، صامتًا، كأنه اعتاد على العزلة أو أن الصمت عنده لغة بليغة لا تحتاج إلى شرح.
بعد فترة من المشي داخل الممرات المظلمة، ارتفع صوت طقطقة غريبة، أشبه بانكسار حجر تحت وطأة قوة خفية، لكنها كانت أعلى بكثير من مجرد صدًى طبيعي. عندها توقف الشاب فجأة، وقال بصوت منخفض لكنه واضح:
"يبدو أن مستوى الاختبار هذه المرة مختلف. لكن لا يهم، هذا ما ينبغي أن يكون."
أدركت إليانور من كلماته أنه يعرف أكثر مما يظهر، وأنه يعي طبيعة ما هم فيه. لذلك حاولت من جديد أن تدفعه إلى التعاون:
"أعلم أنك ربما لا تميل إلى الحديث، لكننا في اختبار، والتعاون بيننا سيكون أفضل. لا أظن أنهم سيُفرقون الطلاب هكذا بلا سبب، أليس كذلك؟"
التفت إليها هذه المرة، بعينيه الزرقاوين الحادتين، يتأملها ببرود. لم يكن في نظرته سوء نية، بل تقييم هادئ كمن يقيس إن كان الطرف الآخر جديرًا بالثقة أم لا. وبعد لحظة صمت، تنهد وقال بنبرة فارغة:
"أنت محقة. لكن تذكري شيئًا واحدًا: لا تلمسي أي شيء. هذا المكان مليء بالفخاخ، والخطأ فيه قاتل."
لم تفهم تمامًا ما يقصده، لكنها أومأت برأسها. لم ترغب أن تستفزه بالاعتراض، خاصة أنه بدا أدرى بخفايا هذا المكان.
وبما أنها لا تزال تجهل الكثير، قررت أن تتابع الحوار، علّها تستخرج منه ما ينفع.
"هل تسمح لي بمعرفة اسمك؟ لقد أخبرتك باسمي، وسيكون من الطبيعي أن أعرف من ترافقني."
تذكرت في تلك اللحظة ما كانت درسته عن العائلات النبيلة، والكاهن الذي حدثها ذات يوم عن بيت فينكس. الاسم الذي ورد إلى ذهنها كان يوجين دي فينكس، الطالب الشهير في السنة الثانية، ثاني أفضل مرتبة في الأكاديمية. تساءلت في نفسها: أيمكن أن يكون هذا هو؟
لكن الشاب أجاب أخيرًا، بعد تردد قصير:
"اسمي هو أستر دي فينكس. والآن، من الأفضل أن نستمر في التقدّم. استمعي إلى كلماتي بدقة إن أردتي النجاح "
هكذا استمرت رحلتهما معًا داخل الكهف، حتى بلغا مفترق طرق؛ ممرّين يتفرعان، أحدهما يتجه يسارًا والآخر يمينًا. عندها سألت إليانور بصوت يغلّفه التردد:
"أي طريق سنسلك؟ هل لديك فكرة عن الوجهة الصحيحة؟"
***
سمع أَستر صوتَ إليانور وهي تسأله عن الطريق، غير أنّ قلبه كان في تلك اللحظة يغلي بشتائمٍ مكتومة، تتدفق في أعماقه كما يتدفق تيارٌ مظلم تحت صخورٍ باردة. أيُّ سخريةٍ من القدر أن تكون رفيقته في هذا المسار بالذات هي الفتاة التي لُقّبت في الروايات والقصص بالقدّيسة، الفتاة التي يراها الجميع رمزاً للنقاء والنور، فيما هو يرى فيها مرآةً تعكس عبئاً ثقيلاً لا يودُّ أن يواجهه الآن.
كان أَستر لا يزال يتذكّر اللحظات السابقة قبل سقوط الضوء الذي ابتلع القاعة بأسرها ثم قذفه إلى هنا. كان يقف هناك إلى جانب جوي وجيسيكا، يتهيأ للانتقال مثلهم، غير أنّه في اللحظة الحاسمة لم يشأ أن يرافقهما. لقد كان يعرف أنّهما من الشخصيات الرئيسة، وأنّ وجوده برفقتهما سيكشف أوراقه باكراً، بينما هو لا يرغب أن يعرّي نفسه سريعاً أمام الآخرين.
إن معرفته بتفاصيل الاختبارات الخاصة بالقبول هي سلاحه الخفي، الامتياز الذي يمنحه القدرة على التقدّم في الأكاديمية بخطواتٍ محسوبة.
وحتى إن كان الثلاثة ينتمون إلى مستوى اجتماعي متقارب من حيث العائلات، فذلك لا يعني أنّهم متساوون في القوة. فجوي وجيسيكا ينتميان إلى الدرجة الثانية، في حين أنّه هو، أَستر، ينتمي إلى الدرجة الأولى المتوسطة، وتلك منزلة تمنحه ثقلاً لا يسمح له أن يتعامل معهما باستخفاف،
ولا أن يجرؤ على استفزازهما بكلمة أو إشارة. لذلك قرر في اللحظة الأخيرة أن يتشبث بالجدار، متخلّفاً عن الانتقال، وقد حالفه الحظ إذ لم يلحظا فعلته إلا في اللحظة النهائية قبل أن يختفيا بعيداً.
حين فتح عينيه ووجد نفسه في هذا المكان، بدأ يتقدّم بخطواتٍ مترددة، فيما ذاكرته تستحضر ما قرأه في الرواية: هذا هو المستوى الثالث من الامتحان، المرحلة التي تسبق الأخيرة، والمعروفة باسم "كهف الصعود". كان سبب هذه التسمية، كما ورد في الرواية، أنّ هذا الكهف الصخري لا يُعد مجرد فضاءٍ معتمٍ بين جدران، بل هو امتحان عسير يجرّد الداخلين من حواسهم السحرية تقريباً.
إن استشعار الطاقة السحرية هنا يكاد يكون مستحيلاً ما لم يكن المرء قد درّب نفسه على التحكم بطاقة الروح سنواتٍ طوال.
معظم النبلاء يملكون مثل هذا التدريب، وكذلك الشخصيات الرئيسة، أما هو ـ وقد لم يكد يمضي سوى أسابيع قليلة في صقل قدراته ـ فقد بدا له البقاء في كهفٍ كهذا، والاعتماد على الاستشعار للخروج، ضرباً من المحال. غير أنّ إدراكه لخطورة الوضع لم يمنعه من التقدّم.
توقّف عند مفترق طرق: أمامه بوابتان صخريتان، إحداهما عن اليمين والأخرى عن اليسار. وخلفه مباشرةً كانت تقف إليانور. الفتاة التي يلقبها الجميع بالقدّيسة المنتظرة، ذات الشعر الذهبي الطويل والعينين الزرقاوين اللتين يختبئان خلف قماشٍ رقيقٍ يحجب بريقهما عن العيون،
لكنها لا تخفي حضورها الطاغي. تسعون بالمئة من طاقتها مكرّسة لعنصر الضوء، إضافةً إلى سلالة دم الحاكم المقدّس التي تجري في عروقها، مانحةً إياها قدراتٍ علاجية ودفاعية تفوق كل من في جيلها.
لم يكن سحرها وحده ما يثير الحذر، بل شخصيتها كذلك. طيبة القلب، نعم، لكنها عميقة التفكير، تحلل المواقف على طبقات، وتفكك أقوال الآخرين وإيماءاتهم كطبيبةٍ نفسية بارعة. هكذا وصفها المعجبون في الرواية، لا مجرد قدّيسة، بل قارئة خفية للنفوس، تكشف ما وراء الوجوه والابتسامات.
لهذا السبب بالذات كان أَستر يعدّها أسوأ رفيقة يمكن أن يعلق بها في هذا الامتحان. لو أُتيح له الاختيار، لفضل جيسيكا التي تعشق القتال وتكره الغموض، والتي ما كانت لتتردّد في استخدام القوة للحصول على إجابة، أو حتى جوي الهادئ المتّزن الذي يناقش الأمور بعقلٍ مفتوح. أمّا أن تكون إليانور خلفه، تحدق إليه بصمتٍ نافذ، فهذا ما يثير في صدره ضيقاً لا يحتمل، ويجعله يفضّل الصمت المطلق على تبادل كلمة واحدة معها.
كان يعلم أنّ مثل هذه الشخصيات قادرة على استشعار المشاعر نفسها، لا الطاقة فحسب. والاستشعار العاطفي أشد بدائيةً، وأكثر نفاذاً من استشعار الطاقة السحرية، إذ يتخطى الحواجز ليقرأ النبض الداخلي للفرد.
عند مفترق الطريق وقف الاثنان، والبوابتان تحدّقان بهما كفكين مظلمين يبتلعان الداخل بلا رحمة. سمع أَستر سؤال إليانور يتردّد، لكنه لم يرغب في الإجابة. تمتم في صدره، محاولةً منه أن يقلّل من الكلمات إلى الحد الأدنى، خصوصاً معها في هذا الوقت.
قد يتساءل المرء: لماذا يختار أحدٌ طريقاً محفوفاً بالأفخاخ، مع أنّ الوسيلة الوحيدة للخروج السريع من هنا هي الاستشعار الدقيق للطاقة السحرية، وهو أمر شبه مستحيل في هذا المكان؟ لكن أَستر كان يعرف من الرواية أنّ هناك حيلةً بسيطة يمكن أن تقوده إلى المخرج.
اقترب من الجدار الملاصق للبوابة اليمنى، ثم من الجدار الآخر عند البوابة اليسرى، ووضع كفّه على كلٍّ منهما. أخذ نفساً عميقاً، وأغمض عينيه. لم يكن يملك سيطرة كبيرة على طاقته السحرية، لكنّه كان يجيد أبسط أشكال الاستخدام: تركيزها في نقطة واحدة فقط.
رأت إليانور ما فعله بدهشةٍ صامتة. فجأةً، اهتز الجدار الصخري كما لو تحرك من أعماقه، وخرج منه خيطٌ من الضوء ينبعث من بين الشقوق، من جهة الجدار الأيسر. شهقت قائلةً، وقد تسلّل الذهول إلى صوتها: «ما هذا؟ كيف فعلت ذلك؟». كانت عيناها، من خلف القماش الرقيق، تتسعان، تحاولان اختراق غموضه.
لكن أَستر لم يُجبها. حدّق إليها للحظة ببرود، كأنّ نظراته تقول ما لا يود لسانه أن ينطق به، ثم التفت ومضى نحو البوابة اليمنى، تاركاً إياها خلفه. لحقت به بخطواتٍ سريعة، مسرعة كي لا تبتعد عنه كثيراً، وما إن صارت قريبة حتى سمعت صوته ينساب من أمامها، هادئاً لكنه مشبع بالمعنى:
«إن وجود أي طاقة سحرية يعني أنّ هناك دائرةً تعمل خلفها. فإذا لم يكن بوسعك استشعارها، يمكنك على الأقل إثارتها. هذا ما فعلتُه».
كانت كلماته مقتضبة، غامضة، كأنّه لا يريد أن يشرح أكثر. غير أنّ عقلها لم يترك المسألة دون تحليل. أجل، لقد بدا من المستحيل عليها أن تستشعر الطاقة في هذه الممرات، فظنت أنّ الخلل في المكان نفسه. لكن ما فعله أَستر جعل الأمر جليّاً: هذه الجدران الصخرية تعيق الاستشعار، ولا تلغيه تماماً. بدلاً من أن يزيد تركيزه ليحاول اختراق العائق، اكتفى بالبحث عن الجدار الذي يحمل أقل قدرٍ من الطاقة، ثم أثاره بما يكفي ليفضح الدائرة السحرية الخفية.
لقد شوّش على الدائرة، وفتح لنفسه الطريق. وبما أنّه اختار البوابة التي لم ينبعث منها أي أثر للطاقة، فهذا يعني أنّها وحدها الخالية من الفخاخ السحرية.
شعرت إليانور بدهشةٍ غامرة. لم يكن السبب أنّ الطريقة صعبة أو معقدة، بل أنّه توصل إليها بهذه السرعة، دون تردّد أو ارتباك. نظرت إلى ظهره وهو يمضي أمامه
ا، وتردّدت الكلمات في عقلها كهمسٍ داخلي: «يبدو أنّني أحسنت حين انتقلت إلى جانبه… لعل هذا الشاب ليس أدنى من أخيه الأكبر كما كنت أظن».