تعليق وضع الروايه في المفضله رجاء
الفصل الثاني والعشرون: البرت ونيفر ــ كهف الصعود
لقد كان نيفر، إلى جانب البرت، يسيران بخطى ثابتة داخل دهاليز الكهف الصخري المظلم، وقد مرّ على انغماسهما في هذه المتاهة الصامتة ما يزيد على عشر دقائق كاملة، دون أن يتوقفا لحظة واحدة. الهواء هنا كثيف، بارد رطب، يلامس وجهيهما كما لو كان ستاراً خفياً من الغبار والندى المتكلس. كل خطوة كانت تصدر رجع صدى غريباً، يردّد نفسه في جدران الكهف الضيقة الملتوية، وكأن المكان بلا نهاية، بلا مخرج، بلا بداية.
الذكريات تتقافز في ذهن البرت كلما ارتفع صوت وقع حذائه على الحصى، كان لا يزال يذكر تلك اللحظة الأولى، حين انبثق ضوء أبيض ساطع من قلب القاعة التي اجتمع فيها مع مجموعة الطلاب الآخرين، ضوء لم يُتح لهم فرصة التفكير أو الفرار، بل اجتثّهم من أماكنهم وانتزعهم انتزاعاً إلى عالم آخر. لحظة كانوا واقفين بين الحشود، ولحظة أخرى إذا بهم يجدون أنفسهم في هذا الكهف القاسي، كأن الزمن نفسه قد تعثّر وجرّهم إلى جوف الأرض.
كان البرت ينطلق إلى الأمام بهدوء محسوب، عيناه تترقبان كل فجوة وكل شق في الجدار، فيما نيفر يتبعه بخطى أبطأ، مراقباً، متأملاً. صوته الخافت كسر الصمت الذي هيمن على الممر:
ــ «أنا لا أستطيع الشعور بأي شيء هنا… كأن استشعار الطاقة السحرية أصبح مستحيلاً.»
كلماته انطلقت متقطعة، مترددة، لكنها حملت في طياتها حقيقة مربكة. لم يتأخر نيفر في الرد، وقد بدا صوته مزيجاً من اليقين والهدوء:
ــ «توقعت ذلك… يبدو أنهم يقيدون القدرة على الاستشعار، وهذا مقصود. عليك أن تدرك يا البرت أنّ من الطبيعي لأي ساحر أو فارس يسعى للانضمام إلى الأكاديمية أن يمتلك هذه الموهبة الأولية، أن يشعر بطاقة العالم من حوله. ربما يريدون أن يمتحنوا قدرتنا على التكيّف في غياب هذه الحاسة الأولى.»
ساد الصمت بعد ذلك دقيقة كاملة، دقيقة بدت أطول من أي وقت مضى، كأن أنفاسهما وحدها تحاور جدران الكهف. عندها تنفّس البرت بعمق، وقال بصوت تخللته نبرة فضول مشوب بالحذر:
ــ «ماذا تظن أننا سنجد في هذا المكان؟ بصراحة، هذه الاختبارات غريبة للغاية… في البداية جعلونا نقاتل قطيعاً من الذئاب المظلمة في قاعة الاستقبال، ثم أرسلونا إلى الغابة حيث هاجمتنا الغوريلات الحجرية من كل صوب، حتى أن بعض الطلاب أصيبوا بجراح بالغة… والآن نجد أنفسنا هنا، في متاهة صخرية لا نعلم لها حدوداً.»
أعاد ذهنه استحضار صور الطلاب الآخرين حين كانوا يتعرضون للضرب الوحشي من تلك الغوريلات، كيف تهشمت عزائم البعض، وكيف تجمد البعض الآخر خوفاً. مشاهد محفورة في ذاكرته، صور للضعف البشري أمام قوة الطبيعة السحرية.
ثم أضاف بنبرة تفكير عميق:
ــ «يبدو أن الامتحان مقسم على مراحل غريبة، كأنه يقيس كل جانب من جوانبنا بشكل منفصل، يقيس قدرتنا على القتال، على التحمل، على البقاء… وربما شيئاً آخر لا نعلمه بعد.»
كان نيفر قد تحرك ليقف إلى جانبه، عينيه تلمعان بتأمل بعيد وهو يتحدث:
ــ «لا تظن أنّ الأمر بهذه البساطة يا البرت. في الحقيقة، هناك الكثير مما لا تعرفه عن الأكاديمية. أشياء لم يبح بها إلا للقلة، وأنا لم أتعرف عليها إلا لكوني ابن دوق، وبسبب صلتي بأختي سفيريا.»
البرت واصل السير دون أن يعلق، لكنه بالتأكيد كان ينصت بانتباه بالغ. لم يتوقف بصره عن التحديق في الممر أمامه، غير أنّ أذنيه كانتا مشدودتين لكل كلمة تصدر من فم نيفر.
أكمل الأخير حديثه بنبرة خافتة، كأنه يبوح بسرّ عظيم:
ــ «أكاديمية توتنهام ليست مجرد مدرسة عادية، إنها جزء من القصر الإمبراطوري نفسه، جزء من نسيج إمبراطورية نوفا كرون، وهي مسؤولة عن صقل وتطوير نخبة من الفرسان والسحرة ليكونوا ذراع الإمبراطور وسيفه في مواجهة العالم.»
لم ينبس البرت ببنت شفة، لكنه أومأ برأسه بهدوء، إيماءة تدل على أنّه يستمع بجدية. لاحظ نيفر تلك الإيماءة، فتابع:
ــ «لكن قبول الطلاب في الأكاديمية لا يتم بطريقة واحدة، بل يخضع لإجراءات معقدة. أحياناً يحتاج الشخص إلى توصية من أحد النبلاء، وأحياناً لا بد من اعتراف مجموعة من كهنة الكنيسة. وفي الغالب، لا يُسمح للعامة بالدخول إلا ليصبحوا فرساناً يخدمون العائلات النبيلة.»
سكت قليلاً، ثم أضاف بصوت عميق:
ــ «ومع ذلك، هناك شروط خاصة تختلف من حالة إلى أخرى.»
تدخل البرت عندها، صوته يحمل شيئاً من الفضول المتقد:
ــ «وما هي تلك الشروط الخاصة؟»
ابتسم نيفر ابتسامة غامضة، وقال:
ــ «الشرط ببساطة أن يمتلك الشخص قدرات استثنائية، أشياء تفوق الوصف، عناصر فرعية أو عناصر خاصة لا يمتلكها غيره. لكن حتى مع هذه القدرات، ليس مضموناً أن يجد مكاناً له في الأكاديمية. مسؤوليات الأكاديمية أكبر مما يتصور الكثيرون، فهي لا تصنع مجرد فرسان، بل فرساناً يحملون على عاتقهم القارة بأكملها.»
عينيه اتسعتا وهو يضيف:
ــ «ثم هناك البوابات… تلك البوابات الشيطانية التي تشكل تهديداً وجودياً. هي ليست مجرد فرص لزيادة قوتنا من خلال مواجهة الوحوش، بل هي أبواب حقيقية للجحيم، ينفلت منها سيل من الكائنات المرعبة القادمة من عوالم أخرى. تُفتح هذه البوابات بلا سابق إنذار، في أي مكان، ولا يمكن السيطرة عليها تماماً.»
كلماته حفرت صدى مرعباً في صدر البرت. لم يستطع منع نفسه من استدعاء ذكرى قريته، الذكرى التي تعود دائماً كجرح مفتوح لا يلتئم. تذكر تلك الأحداث، وتشنجت عضلاته بغضب مكتوم، لكنّه سرعان ما أخمد مشاعره، واستعاد هدوءه كي لا يفضح ما بداخله.
بعد لحظة صمت، قرر أن يسأل بجدية:
ــ «ولماذا تخبرني بكل هذا يا نيفر؟»
أجابه نيفر بنبرة لا مبالية، لكنها تحمل شيئاً من الاهتمام الخفي:
ــ «لا لشيء حقاً… لكنك مثير للاهتمام. أبي أوصاني أن أولي اهتماماً بك، ثم إن أختي أيضاً تتابعك بطريقة لافتة. هي لا تهتم إلا بالأشياء الخاصة والنادرة، ومع ذلك خصصت وقتاً للحديث عنك. هذا بحد ذاته كافٍ لأن يجعلك لغزاً يستحق المتابعة.»
ظل البرت صامتاً، كأنه غارق في تفكير معقد. لقد فهم تماماً ما يشير إليه نيفر، لكنه لم يستطع أن يبوح بما يثقل صدره. لاحظ نيفر صمته، فابتسم ابتسامة صغيرة وقال:
ــ «لا بأس… ليس عليك أن تخبرني بشيء. أنا بطبعي أستمتع بحل الألغاز، وربما تكون أنت أحد ألغازي الممتعة يا البرت.»
مرّت دقائق أخرى وهما يتقدمان في عمق الكهف. ثم وصلا إلى مفترق طرق، أحدهما يقود يساراً، والآخر يمضي يميناً. توقف الاثنان معاً، يدرسان الممرين بعينين متفحصتين، والجدران الصخرية تبتلع أنفاسهما.
تمتم نيفر بصوت مغمغم:
ــ «من أي طريق ينبغي أن نذهب يا ترى؟»
فكر في ما مضى: المرحلة الأولى كان جوهرها القتال، والثانية كانت قتالاً تحت ضغط متواصل، أما الثالثة… ربما تعتمد على القدرة على الاستنتاج ومعرفة الاتجاهات. هكذا دار استنتاجه في داخله.
أما البرت، فقد وقف يحدق في الطريقين، يده تمسك بمقبض سيفه. كان السيف باهت اللمعان، لكنه متين، كأنه رفيق صامت ينتظر أوامر صاحبه. فجأة، نطق البرت بكلمة واحدة:
ــ «الظلال.»
في اللحظة التالية، بدأت الظلال تتدفق من جسده، تخرج من قدميه وتتشكل في الهواء كأذرع حالكة. نظر نيفر إليه بدهشة ممزوجة بالإعجاب، عيناه تتسعان قليلاً، ثم قال بنبرة متأملة:
ــ «هذا المستوى من التحكم بالظلال… بالنسبة لشخص من العامة، إنه أمر مدهش حقاً يا البرت.»
الظلال امتدت ببطء في كلا الاتجاهين، كأنها عيون خفية تتلمس الطريق. في تلك اللحظة، اندمج البرت مع الظلام، شعر بقدر ضئيل من الطاقة السحرية الكامنة في الجدران الحجرية. كانت ضعيفة للغاية، تكاد لا تُلحظ، لكنه التقطها في النهاية.
استعاد ذكرى ما حدث في الغابة حين استخدم ذلك النبيل، ذو شعر العنقاء، قدرته على تعطيل فخ سحري بسرعة هائلة. لم يفهم حينها تفاصيل ما فعله، لكن تلك الذكرى ساعدته على استنتاج ما يحدث الآن.
قال بصوت موقن، كأنه يكشف قانوناً خفياً:
ــ «لكي يكون هناك فخ سحري، لا بد أن يكون له مصدر طاقة سحرية يغذيه. وجود الطاقة في أحد الطريقين يعني أن ذلك الطريق يحتوي على فخ بنسبة تتراوح بين خمسين وستين في المئة، وربما تصل إلى ثمانين.»
انحسرت الظلال ببطء، عائدة إلى جسده كما لو أنها لم تكن. التفت إلى نيفر وأشار بيده نحو البوابة اليمنى قائلاً:
ــ «سنسلك هذا الطريق.»
رفع نيفر كتفيه باسترخاء، ابتسامة صغيرة تزيّن وجهه. لقد فهم تماماً ما فعله البرت والسبب الذي دفعه للاختيار، في ثوانٍ معدودة فقط. ومع ذلك، ظل يفكر بدهشة:
ــ «ليس فقط أنه يملك عنصراً خارقاً مثل الظلال ويتحكم به بدقة مذهلة، بل إنه أيضاً قادر على تحليل البيئة واستنتاج وجود الفخاخ حتى قبل أن أشرحها.»
كان، بصفته ابن دوق، يملك معرفة واسعة بالفخاخ السحرية والحواجز، وكان يدرك تماماً كيف يخرج من هذا المكان وحده، لكنه أراد أن يختبر البرت.
الآن، وقد رأى النتيجة، اكتفى بالابتسام ومضى معه في الطريق، تاركاً الكهف يبتلع خطاهما في صمت غامض.