الفصل الثاني: استدعاء المركيز
مرّ الوقت بسرعة غريبة، وكأن عقارب الساعة نفسها قد قررت أن تتجاوز حدود الواقع لتتقدم بخطوات متسارعة، تاركة شعوراً بالدهشة والغرابة في أعماقي. رأيت بطرف عيني الساعة، تلك التحفة المصممة ببراعة فائقة، المثبتة على جدار الغرفة الذي صُنعت جدارياته بعناية متناهية وزُخرفت بلمسات فنية تثير الانبهار. كان كل عنصر في الغرفة، من تفاصيل الأثاث إلى الزخارف الدقيقة على الحوائط، يصرخ بجماله الرصين، وكأن الغرفة نفسها تحاول أن تحكي قصة عصر لم أعهده.
أصبحت الساعة تشير إلى العاشرة تماماً، وكنت لا أزال غارقاً في مطالعة الكتب المكدسة على المكتب، محاولاً استيعاب كل معلومة وكل فكرة مخفية بين الصفحات. لم أدرك مرور الوقت إلا بعدما اصطدمت الحقيقة بعقلي: لقد انقضت ساعات طويلة وأنا أستغرق في بحر من الحروف والكلمات، مستعرضاً كل كتاب كما لو كنت أبحث عن قطعة مفقودة من نفسي أو لغز قد يفسر ما يحدث حولي. شعرت بارتباط غريب باللحظة التي استيقظت فيها هنا، حين كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة صباحاً، وتخيلت أن إيميلي قد جاءت في موعدها المعتاد، كما يفترض أن تفعل كل يوم، أو على الأقل هذا ما كنت أعتقده حينها.
لم تكن المعلومات التي بحوزتي كافية لصياغة استنتاجات دقيقة، لكنني كنت أعرف أن الاستنتاجات المبنية على القليل أحياناً تكون أكثر صدقاً من تلك المبنية على كثرة التفاصيل، فذهني اعتاد على التشبث بما هو متاح، مهما كان ضئيلاً. قبل أن أغرق أكثر في التحليل، اقتحم صمت الغرفة صوت رنين خافت.
جاء الصوت من الباب، طرق خفيف كاد أن يختلط بالهواء ذاته، وكأن من خلف الباب يحاول عدم إزعاج من بداخله. وبلا شك، كان ذلك الشخص أنا. شعرت بوعي كامل لشخصيتي، واستر، في تلك اللحظة، وكأنني أرى نفسي من زاوية أخرى، زاوية لم أعتد النظر من خلالها.
يبدو أن استر هنا ليست من الشخصيات التي تميل للقراءة، فقد كان عدد الكتب في الغرفة الفخمة محدوداً بالنسبة للقصص الخيالية التي كنت أستعرضها. معظم الشخصيات من هذا الطراز تميل إلى الكسل، وربما إلى القسوة في التعامل مع الخدم، وهو ما جعلني أستنتج أن علاقتها بإيميلي دوكي، الخادمة، لا تتجاوز نسبة عشرين بالمئة، وهو رقم مخزٍ لشخص يفترض أن يكون نبيلًا أو سيدا في هذا العالم. تنهدت بعمق، وأدركت أن هذه المسافة العاطفية ليست بالضرورة دلالة على كراهية، بل على التباعد الذي يفرضه الواقع نفسه.
ثم جاء الصوت من خلف الباب، هادئاً، يحمل لهجة محترمة، جعلتني أبتسم ابتسامة باردة، ليس سعيدة، بل ساخرة. “سيدي، هل يمكنني الدخول من فضلك؟” جاء الصوت بنفس أسلوبه السابق، مؤدباً ومحترماً، لكنني كنت أعلم أن الخادمة لا تحب صاحب الجسد الذي أتحكم فيه الآن. ومع ذلك، كجزء من النظام الاجتماعي في هذا العالم، كانت مضطرة للتمثل والاحترام، طامحة في تحقيق طموحها، على الأقل في الظاهر.
العالم ليس وردياً، ولا خصوصاً في الروايات الفانتازية، لذلك كان من الأفضل الرد بسرعة، لكن عقلي لم يستطع سوى التفكير بهدوء، محاولاً أن يوازن بين المعرفة المحدودة والتمثيل المطلوب. قلت في نفسي: العلاقات ليست سوى وسيلة لتحقيق منفعة متبادلة، وبهذا فقط يمكن السيطرة على الموقف. وبصوت هادئ، متظاهراً بالسيطرة والتوازن، دعوتها للدخول، كأنني أتقن دور الشخصية التي أنا فيها الآن، شخصية استر دي فينيكس.
فتحت الخادمة الباب بحركة متأنية، مصحوبة بصرير خفيف بالكاد مسموع، وهو الصوت الذي يخبرك بأن كل شيء في هذا القصر مصنوع بعناية فائقة. كانت ترتدي زي الخادمة المعتاد، ووجهها يحمل نفس النظرة السابقة، منحنياً باحترام، لكنني كنت أعلم أن الاحترام الذي يُعلن غالباً ما يخفي ولاءً أو طموحاً شخصياً.
قالت بصوتها المهذب: “سيدي، يطلب الماركيز مقابلتك في غرفته.” توقفت عند تلك الكلمات، وسحبت انتباهي إلى السؤال الذي يرن في رأسي: لماذا يناديني الماركيز في هذا الوقت بالذات؟ هل فعلت شيئاً قبل أن أمتلك جسدي الحالي، أم أن لديه هدفاً محدداً من استدعائي؟ وقفت لحظة أقل من ثانية، ثم أدركت أنه لا جدوى من التفكير المفرط، ربما كان النداء فقط جزءاً من البروتوكول الأكاديمي.
نظرت إلى إيميلي وقلت بصوت هادئ، متجاوزاً مجرد هدوئي المعتاد ليصبح أمراً بارداً: “قومي باخذي إلى غرفة والدي فوراً.” استدارت إيميلي في اللحظة نفسها، وظهرت أمامي شاشة زرقاء مائلة إلى السماوي بحروف ذهبية صغيرة، تُظهر مستوى العلاقة بينها وبيني: 19٪، تذكير دقيق بأنها قادرة على تنفيذ الأوامر بدقة لكنها لا تهتم بشأني أبداً.
تحركنا عبر أروقة القصر، وكل زاوية فيها كانت تحفة فنية تتجاوز قدرة العقل البشري على التصور. بينما كنت أراقب الشاشة، تساءلت عن سبب انخفاض مستوى العلاقة من 20٪ إلى 19٪، وبدأت أستعرض الأحداث منذ دخول الخادمة غرفتي. بعد تحليل طويل، توصلت إلى استنتاج واحد: لا تحمل لي إيميلي كراهية شخصية، إنها ببساطة لا تحبني. علاقتنا تتأثر بكلماتي ونسبياً فقط.
أدركت أن هذه الفتاة، التي كانت يومًا أميرة لعائلة كونت من العائلات الخمسين النبيلة، فقدت كل شيء بعد موت عائلتها، وأصبحت خادمة لعائلة ماركيز واحدة فقط أعلى منها بدرجة واحدة. هذا الفقدان، والحاجة إلى البقاء على قيد الحياة، صاغ شخصيتها الباردة والطموحة، تلك الشخصية التي تقبل أن تكون خادمة لأسباب عملية بحتة، لا عاطفية. كانت تسعى لأن تكون فاعلة، لا مجرد قطعة على رقعة الشطرنج.
كنت أراقب حركتها من الخلف، خطواتها البطيئة والمتأنية، كل حركة منها تحمل معنى، كل سلوك منها يعكس تجربة سنوات من الانحدار الاجتماعي والنبل المفقود. أدركت أن هذه الفتاة لن تقبل أن تكون مجرد ورقة عادية، وأن تصرفها الطبيعي كان نتيجة ماضي مليء بالمخاطر والطموحات المدفونة.
حين وصلنا إلى باب العملاق، المزخرف بأناقة تفوق الوصف، ورمز العنقاء الذهبية على وشك الانقضاض، توقفت إيميلي، وانحنت ببطء، وأعلنت بصوتها الناعم: “لقد وصلنا يا سيدي الشاب، يمكنك الدخول الآن.” وقفت خلفي، وكأن وجودها هناك جزء من البروتوكول، ولم أستطع تفسير السبب.
كنت أرتدي قفوفاً بيضاء، وأدركت أن أي شخص يلمحها سيرى العرق البارد يتساقط منها، مع الاهتزاز الخفيف الذي شعرت به في يدي وأنا أحدق بالباب المزخرف الذي يبدو كأنه يحرس عالمًا لا أعرفه سوى من خلال ذكريات الرواية القديمة التي قرأتها منذ وقت طويل.
كل شيء حولي كان يشير إلى غموض القصر، إلى النظام المعقد الذي تحكمه العائلات النبيلة، إلى الأدوار الدقيقة التي يضطر الجميع للتمثل فيها، وإلى الصراعات الخفية التي لم تُفصح عنها الكلمات بعد. وكل خطوة أخطوها نحو غرفة الماركيز كانت تذكرني بمدى ضآلة معرفتي بالعالم الذي أعيش فيه الآن، وبأن كل حركة وكل كلمة يمكن أن تغير مسار العلاقات، ولو بنسبة ضئيلة، كما حدث مع إيميلي.
في هذه اللحظة، شعرت بالبرودة تتسرب إلى عظامي من خلال القفوف البيضاء، والرهبة من المجهول الذي خلف الباب، لكنها كانت رهبة ممزوجة بالإدراك: أن هذا العالم، بعظمته وجماله وقسوته، يحتاج مني أن أكون حذرًا، أن أقرأ كل نظرة وحركة، وأن أفهم كل خيط خفي يربط بين الناس. وكل ذلك لم يكن مجرد اختبار للعقل، بل اختبار للروح، لقد كنت الآن على أعتاب مواجهة حقيقة أكبر من أي رواية قرأتها، حقيقة تتطلب أن أكون أكثر من مجرد مسترٍ للمعرفة، بل سائقاً للأحداث، متحكماً في لعب الشطرنج البشري المعقد الذي يمتد أمامي.
---
مرحبا يا رفاق
يسعدني ان اخبركم انكم اذا قراتم الروايه
ارغب بان يكون جيدا بالنسبه لكم هذه الروايه التي كتبتها واتمنى انت فوز بقلوبكم يا اصدقاء
ومناسب لاذواقكم الرائعه كلما ارغب فيه وتعليق والذي يساعدني بارضاء اذواقكم النبيله شكرا لكم يا ابطال
انا سعيد اذا احببت عملي ذلك كل ما اريدها بالنسبه لي ولكم لضمان الحصول على الاستمراريه رائعه في العالم اللانهائي الذي اريد ان اخلقه
هناك سؤال ارغب بسؤاله لكم اتمنى ان تجيبوه في قناه التعليقات ( ما هو لونكم المفضل؟)