الفصل الثالث: اللقاء الاول مع المركيز
كانت إيميلي تقف خلفي مباشرة، حضورها الصامت كظلٍّ ملتصق بكياني، يثقل أنفاسي من شدّة قربه. بدا وكأنها تنتظر مني أن أخطو الخطوة الحاسمة، أن أتجاوز العتبة وأدخل إلى الداخل. غير أن داخلي كان يغلي بأسئلة مضطربة: هل أدخل الآن، أم أمهل نفسي لحظة أتنفّس فيها قبل المواجهة؟ كنت أحتاج إلى فسحة للتفكير، إلى هدنة قصيرة أرتّب فيها ما يتنازعني من هواجس قبل أن أجد نفسي وجهًا لوجه أمام المركيز. لكن الزمن لم يكن يعترف بحاجتي، كان متصلبًا كجدارٍ يرفض أن يلين، وكان الحدث نفسه يسوقني إلى قلبه من دون أن يمنحني تلك الاستراحة التي تواسي الروح.
لم يكد ينقضي شهيق واحد حتى انفتح الباب من تلقاء نفسه، وكأن إرادة الغرفة أقوى من ترددي. أمام العتبة، انكشف رجل يرتدي زيًّا يدل من أول نظرة على أنّه كبير الخدم. لا أدري من أين جاءني هذا اليقين، فلم يقدّم أحد نفسه ولم يخبرني أحد بمن يكون، ومع ذلك كان الشعور داخلي صلبًا لا يتزحزح: هذا هو كبير الخدم. كان شعره رماديًّا يذكّرني برماد مدفأة انطفأت منذ زمن، عيناه زرقاوان كبحيرة جليدية لا يذيبها دفء، وبشرته شاحبة أقرب إلى ورقة بيضاء لم تُكتب بعد.
يزيد من غرابة هيئته أنّه كان يضع نظارات بلون أبيض، كأنها مصنوعة من ضوء مسكوب، وفي يده كتاب صغير غُلِّف باللون نفسه، مرسوم على غلافه شعار العنقاء، الرمز الذي تتردّد أصداؤه في دمي. فتح الباب على مصراعيه وانحنى نحوي بخفة مدروسة، ثم قال بصوت خالٍ من الزيف، ممتلئ باحترام متماسك: ــ مرحبًا بك أيها السيد الشاب، إنّ المركيز سعيد بوصولك.
كان صوته خاليًا من أي تكلّف، لكن في أعماقي لم أشعر بالدفء. البرود الذي سكنني لم يكن صادرًا من الخادم، بل من الداخل، من الغرفة ذاتها، من أعماق لا تُرى. أحسست وكأن هاوية بلا قرار تحدّق بي، عيون سوداء عميقة لا نهاية لها تترصّدني من الداخل. لم أدرِ لماذا خطرت ببالي مقولة قديمة: "إذا حدّقت في الهاوية، فإن الهاوية تحدّق فيك". كأن هذا القول وُلد من أجل هذه اللحظة تحديدًا. تلك النظرات التي لم أرها مباشرة بعد، لكنها كانت تحاصرني من مكان ما وراء المكتب المزخرف، بدت لي تجسيدًا للهاوية التي تحاول ابتلاع البصر والبصيرة معًا.
دخلتُ الغرفة، وما إن خطوت بقدمي حتى أحسست أنّ كل تصوّراتي السابقة عن الفخامة والترف تتهاوى. كنت أظن أني رأيت غرفًا فخمة من قبل، لكن هذه بدت مختلفة تمامًا، متحوّلة إلى صفحة يمكن إعادة كتابتها ألف مرة. شعرت أن الجمال لم يعد مجرد تكرار لصيغ معروفة، بل تحول إلى حضور متحوّل قادر على أن يزرع الدهشة في كل تفصيل.
انهمرت نظراتي على المكان كما ينهمر ضوء جهاز مسح ضوئي يعمل بأقصى طاقته. التقطت بصري الحيطان السوداء التي غُلّفت بخامات نفيسة، منسوجة على الطراز الفاخر، محاكة بدقّة تثير الإعجاب. كنت مأخوذًا بكل تفصيلة، حتى خُيّل إليّ أن جدران الغرفة تتنفس عظمة تاريخٍ لا يُروى إلا من خلال النقوش والأقمشة واللمعان.
لكن جمال الغرفة لم يستطع أن يطرد وطأة تلك العيون السوداء التي شعرت بها تلاحقني. كنت أحاول أن أشيح بذهني عنها، لكن عبثًا. وفجأة، قطع الصمت صوت مهيمن خرج من عمق الغرفة، موجّهًا إليّ مباشرة: ــ يمكنك الدخول إلى هنا، أستر.
ابتعد الخادم بهدوء، انسحب إلى الخلف، وبقيت أنا وحدي في مواجهة الغرفة وما تحمله من ثقل. أدركت حينها أن الرجل الذي شعرت أن عينيه تحدّقان بي لم يكن في الواقع يفعل ذلك. كان غارقًا في الأوراق الممتدة أمامه على المكتب الكبير، أوراق كثيرة متراكمة حتى بدت كأعمدة لا نهاية لها. لم يرفع رأسه، كان يكتب بإصرار، مركزًا كأنه لا يرى ولا يسمع سواها. وهذا ما منحني فسحة للتأمل في ملامحه بلا استعجال.
كان الرجل بلا شك في الأربعينات من عمره. لم تدلّ على ذلك تجاعيد وجهه، إذ لم تكن هناك واضحة، لكن شعره الأشقر كان قد بدأ يستقبل بعض الخصلات الرمادية، علامة على ثقل السنوات. ارتدى ملابس سوداء أنيقة، على صدرها خُطَّ شعار العنقاء المطرَّز بدقة، رمز العائلة الذي يعرّفني كما يعرّفه. لم يكن ذلك مجرّد تطريز، بل إعلان عن الهوية والسلطة، إعلان أن هذا الرجل هو المركيز، لورد عائلة فينيكس، الحاكم الذي يقود هذه السلالة بكل ما تحمله من إرث وقوة.
أمام هذا المكتب الضخم، الذي بدا ككتلة جذب مغناطيسي تمنعني من الاقتراب أكثر مما ينبغي، تقدمت بخطوات مترددة. كان صمته بمثابة أمرٍ غير منطوق، شرح نفسه من غير حاجة إلى كلمات: اقترب، قف، انتظر. فعلت ما أوحى به صمته.
وأخيرًا، توقّف عن الكتابة. وضع قلمه بدقّة بجانب الأوراق، حركة أنيقة تشي بانضباط طويل. رفع رأسه، وبدا شعره الأشقر الموشّى بخصل رمادية كأنه لوحة فنية صاغها رسام ماهر. لكن أكثر ما استوقفني كان عينيه: سوداوين عميقتين، كأنهما هاويتان تنظران إليّ مباشرة. نظرت فيهما، أو لعلّهما هما اللتان جذبتاني إلى داخلهما. ضاع الزمن بيننا، لم أعد أعرف كم لحظة انقضت ونحن نتبادل هذا التحديق الصامت. كنت أحدّق، وهو أحدّق، وكلانا يختبر الآخر من خلف سوادٍ لا ينتهي.
قطع الصمت صوته أخيرًا، صوت الأب الذي يفترض أن يكون أبًا، لكنه بدا لي أكثر من ذلك وأقل: ــ أظنّك تعرف أن الأكاديمية سوف تفتح أبوابها بعد أقل من شهر واحد. هل أعددت كل أغراضك؟
من يسمع هذا من الخارج سيظن أن في نبرته اهتمامًا أبوّيًا، لكن العيون فضحت ما وراء الكلمات. لم يكن يسأل ليطمئن، بل كان يدرسني كما يدرس لاعب بارع قطعة جديدة على رقعة شطرنج. كنت في نظره جزءًا من لوحة أكبر، لا أكثر.
أجبت بما هيّأت نفسي له مسبقًا: ــ بالطبع، لقد تأكّدت من جمع كل أغراضي. سأكون جاهزًا للذهاب إلى الأكاديمية.
كنت قد توقعت هذا الحوار، بل رتبت داخلي سيناريوهات متعدّدة لهذه المواجهة. فالعائلة في هذه الرواية ـــ التي وجد نفسي فيها ـــ تُعرّف مكانتها عبر مناسباتها، عبر قوتها، عبر ما يحققه أبناؤها في الأكاديمية. أما عامة الناس فيرون الأكاديميات بوابة للارتقاء الاجتماعي، وسُلّمًا يمكن أن يحوّلهم من مجرد بشر عاديين إلى نبلاء. غير أن النبيل المولود في طبقته لا يُسمح له بأن يكون زائدًا عن الحاجة، فالمنظومة كلها تمقت القطع الزائدة، وتقصيها بلا رحمة. كنت أعرف ذلك لأنني قرأت الرواية من قبل، وأدركت أن الرجل الذي أمامي يفكّر بالمنطق نفسه.
رفع المركيز يده ووضعها على المكتب، كأنه استحضر فكرة جديدة قبل أن يقول ببرود صلب: ــ جيد أنك قمت بذلك. أنت تعلم أن أخاك سيبدأ عامه الثاني، أليس كذلك؟ من الأفضل ألّا ترتكب أي تصرّف محرج. أنت تدرك العواقب.
لم تكن كلماته مجرد طلب من أبٍ يحرص على ابنه، بل أمرًا مباشرًا من رئيس إلى تابعه. هكذا شعرت وأنا أصغي إليه. ورغم ذلك، ظللت أكرّر في داخلي جملة كال mantra: "العلاقات مجرد كلام فارغ... التفكير فيها مضيعة للوقت".
لكن كلماته أوحت لي بأكثر من ذلك. بدا لي أنّ هذا الجسد، الذي ورثته في هذه الرواية، قد ارتكب من قبل أفعالًا شنيعة، أو على الأقل أعمالًا جعلت الآخرين يكرهونه ويضمرون له مشاعر سلبية. لم أكن مكروهًا فحسب، بل ربما مَوصومًا بذنوب لم أرتكبها بنفسي.
قلت لنفسي: "جميل... التحديات لن تكون أقل إثارة مما توقعت. ربما نهاية الرواية ليست الخطر الوحيد، بل إن كل ما يحدث في هذا المكان يحمل بذور تهديده الخاص".
في تلك الأثناء، انسحبت إيميلي بصمت، ومعها الخادم الذي فتح لي الباب. تركاني وحدي مع المركيز والغرفة. لكن وجودهما أو غيابهما لم يكن مهمًا. كان كل شيء متركّزًا في كلماته وفي عيونه السوداء.
تساءلت بيني وبين نفسي: ما الذي يمكن أن أستفيده من هذا الموقف؟ هل عليّ أن أطلب شيئًا؟ أم أن المركيز استدعاني إلى هنا فقط ليغمرني ببعض التشجيع الأسود الممزوج بالتهديد؟ بقيت واقفًا في مكاني، أنتظر أمره لأغادر. كنت أعلم قوانين هذا العالم جيدًا: لا يجوز للابن، مهما كان، أن يغادر حضرة ربّ الأسرة من تلقاء نفسه.
بعد بضع ثوانٍ ثقيلة، أخذ المركيز نفسًا عميقًا وقال وهو يحدّق بي بعينيه السوداوين الفارغتين من العاطفة: ــ هناك شيء إضافي عليك أن تحققه. يجب أن تكون في المراتب الأولى. أنا لا أطلب الكثير، لكن بالنسبة لعائلة فينيكس، لا بد أن تكون من بين الأوائل. إن عجزت، فالعقوبة النفي من العائلة بالكامل.
التزمت الصمت. لم أجادل ولم أعلّق. كنت فقط أنتظر ما سيتلوه. ولم يُمهلني طويلاً قبل أن يضيف بصرامة قاطعة: ــ يمكنك الآن الانصراف. لا أريد أن أسمع عن أي مشاكل تثيرها. خلال وجودك هنا، المكان الوحيد المسموح لك ارتياده هو غرفتك، الحديقة، أو ساحة التدريب. هذا كل شيء. يمكنك المغادرة الآن.
---
يا اخي انا اشكرك حقا على قراءتك قصتي وشكرا هذا الفصل برعايتك لانك كنت التعليق الاول بالنسبه الي وسوف اتابع في كل مره تعلق على قصتي اشكرك لكونك البطل الاول الذي يساعدني على الحصول على الطاقه لانك دائما المفتاح الذي يقودني نحو كوني اكثر قوه ككاتب
لذلك اريدك ان تستمر حتى نتابع زياده القوه حتى نصبح الاقوى بين جميع الكتب وندخل الى التوب بالاضافه لكم يا رفاق كونوا اصدقاء الرائعين وقوموا بالتعليق وسؤالي اي شيء ترغبون به
لذلك سؤالي هذا المر يا صديقي انت ولجميع( ما هو الانمي المفضل لديك ؟)