الفصل السابع: البطل يحاول ان يرتاح

تَبقّى أربعةُ أيّام.

هكذا كان يردّد صدى داخلي كلّما توقّفت لحظةً ألتقط فيها أنفاسي، وكأنّ صوتاً خفيّاً يتعقّبني في كلّ لحظة، يذكّرني بأنّ الزمن لا ينتظر، وأنّ العدّ التنازلي يواصل انحداره الهادئ نحو النهاية المجهولة.

كنتُ آنذاك في حديقة القصر، المكان الوحيد الذي شعرتُ أنّه يخفّف عني وطأة التدريب المستمرّ والدروس المتلاحقة.

أيّام طويلة مرّت عليّ وأنا أرهق نفسي، أضغط على جسدي كما لو أنّه قطعة صلب أريد تشكيلها بيديّ، لكنّ هذا الجسد بدأ يعلن بوضوح أنّه لم يعُد قادراً على الاحتمال أكثر.

الطاقة السحرية التي تسري في داخلي كانت تعالجني على نحوٍ عجيب، ترمّم الخدوش، وتنعش الأعصاب المنهكة، وتعيد الحيوية إلى العظام والعضلات، غير أنّني، رغم ذلك، كنتُ أدرك أنّ لكلّ طاقة حدوداً، ولكلّ صبرٍ نفاداً، وأنّ الإفراط في الضغط على الجسد لا بدّ أن يترك أثراً غائراً مهما بلغ عُمق العناية الخفيّة التي تحيط به.

الحديقة نفسها كانت عالماً آخر مختلفاً عن سائر أركان هذا القصر. كلّ زاوية فيها كانت تفوح بعبق الورود المتناثرة على نحوٍ لا يشبه البرودة المتجمّدة التي تطبع وجوه معظم الأشخاص القاطنين في هذا المكان.

معظم من التقيتهم هنا كانوا صامتين، مغلّفين بهالة من الجفاء النبيل، لا يبدون سوى كلمات مقتضبة حين تمرّ بهم الصدفة، وكأنّ أرواحهم معلّقة بأفق بعيد لا يسمح لهم بالنزول إلى أرض البشر.

لم أتبادل معهم الكثير من الحديث؛ ربما فقط مررتُ على "إيميلي" بضع مرّات، تبادلنا خلالها كلمات سريعة أشبه بالهمسات العابرة. كنت امرها فيها

جلستُ على كرسيّ مصنوع بإتقان لا يصدّقه عقل، خشب فاخر مصقول بعناية نادرة. لو أنّي كنتُ في عالمي السابق، لما خطر في بال أحدٍ أن يُنفق أموالاً طائلة لصنع مقعد واحد بهذه الفخامة. هنا، الأمر مختلف؛ هنا الفخامة ليست ترفاً، بل هي جزء من بديهيات الحياة اليومية.

أسندت ظهري إلى الكرسي، وأرخيت كتفي المتعبتين، ثمّ أطلقت نظري إلى بحر الألوان المتناثر أمامي: ورودٌ زرقاء تبرق كأحجار اللازورد، أخرى حمراء كالجمر المشتعل، وثالثة صفراء تتلألأ مثل ذرات الشمس حين تنسكب على صفحة نهر صافٍ.

الهدوء كان يغلّف المكان. نسيمٌ عليل يتسلّل بين الأغصان، يحمل معه أصواتاً خفيّة أشبه بالهمس: حفيف الأوراق، تغريد طائر بعيد، وقع خطوات خفيفة على الحصى ثمّ تتلاشى. في ذلك السكون العميق، شعرتُ أنني أتأمل لا الحديقة فحسب، بل أعماقي كذلك.

كنتُ منشغلاً على نحوٍ مفرط في هذه الأيام. دروس متلاحقة تليها تدريبات مرهقة، ثمّ عودة إلى الدروس من جديد. جدول لا يرحم، أشبه بدوامة تدور بي من دون توقف.

حتى في عالمي السابق، وأنا اليتيم الذي لم يعرف عائلة تحتضنه، لم أفرض على نفسي يوماً هذا القدر من الانضباط.

هناك، كان الزمن يتسع للهروب، للتسكّع، للبحث عن أيّ معنى في تفاصيل صغيرة. هنا، لا مجال للهروب، بل هناك شعور داخلي قاسٍ يدفعني نحو العمل المستمرّ، وكأنّ حياة أخرى تُصاغ من جديد، حياة لا تقبل التهاون.

رفعتُ يدي ببطء، أتأمّلها كما لو أنّني أبحث عن شيء غير مرئي يسكنها. في اللحظة نفسها ظهرت أمامي شاشة باللون الأزرق، شفافة متلألئة، كأنّها نافذة بين عالمي الداخلي والعالم الذي أُلقيتُ فيه فجأة.

---

الاسم: أستر دي فينكس

العمر: 16 عاماً

المكانة: الابن الثاني للمركيز

سحر البرق ـ نسبة التوافق: 60%

سحر الرياح ـ نسبة التوافق: 30%

سحر الماء ـ نسبة التوافق: 30%

---

ظللتُ أحدّق في تلك الشاشة دون أن يعتري وجهي أيّ ذهول. لم أعد أُفاجأ بظهورها كما كنتُ في الأيام الأولى؛ صرتُ معتاداً على حضورها المباغت، كأنّها جزء من نَسَق حياتي اليومي، صديق صامت يطلّ عليّ متى وجد فسحة زمنية.

هذه الشاشة أصبحت جزءاً من أيامي، تذكّرني بما أنا عليه، تكشف لي تفاصيل عن ذاتي وعن الآخرين حين تقتضي الظروف.

حين ظهرت للمرّة الأولى كنتُ مذهولاً. لكنّ الوقت كفيل بأن يحوّل الغرابة إلى اعتياد، حتى لو ظلّت الأسئلة قائمة في أعماق النفس. صرتُ أعلم أنّها تكشف لي أسماء الأشخاص المحيطين بي أحياناً، مثلما فعلت مع "إيميلي" أو حتى مع "المركيز"، غير أنّها لم تتجاوز ذلك. لم تفتح لي أبواباً إلى أسرار أخرى، لم تمنحني قوّة مباشرة أو معرفة مطلقة، بل بدت أشبه بمرآة صغيرة تكتفي بإظهار معلومات سطحية، نافعة أحياناً، لكنّها بعيدة عن الوعد الكبير الذي كنتُ أتخيّله حين ظهرت لأوّل مرة.

كنتُ أُدرك أنّ التدريب وحده هو الذي سيصنع الفرق. لم أعتمد على هذه الشاشة بوصفها معجزة، بل عاملتها كوسيلة محدودة، وكأنّها هامش مساعد فقط. ربما كانت تشبه أنظمة الألعاب أو الروايات الخيالية التي طالما قرأتها في عالمي السابق، حيث يمتلك البطل أداة سحرية ترافقه. غير أنّ ما بدا لي من خصائصها حتى الآن لم يتجاوز الحدود البسيطة: كشف الأسماء، تحديد النسب، وتسجيل بعض التفاصيل عن المكانة أو التوافق السحري.

لذلك لم أسمح لنفسي بالتعلّق بها. تركتها كأداة جانبية، بينما صببتُ جهدي في الاتجاه الأهمّ: التدريب. بدأتُ منذ فترة أتمرّن على السيف، أشعر شيئاً فشيئاً بالتيار السحري الذي يتغلغل في عروقي، ينساب بين عضلاتي، ويمنحني يقيناً بأنّ هذه القوة ليست وهماً، بل هي موجودة فعلاً.

رفعت يدي مرة أخرى، أتأمّل الفراغ الذي يملؤها. الطاقة السحرية لم تكن مرئية للعين البشرية؛ هي كائن خفيّ، أشبه بنسمة ليل تتسرّب من النافذة دون أن تراها. ومع ذلك، كان كلّ شخص في هذا العالم يمتلك شيئاً منها، ولو بنسبة ضئيلة. غير أنّ قلّة قليلة فقط هم الذين تترتّب لديهم النسب العالية التي تجعل من طاقتهم شيئاً واضحاً، محسوساً، ملموساً.

لهذا السبب كنتُ أتدرّب بإصرار. أردتُ أن أُطوّع جسدي ليتّكئ على تلك الطاقة السحرية، أن أجعلها جزءاً من بنيته الداخلية. وأهمّ ما رغبتُ فيه هو الاستفادة من خاصيّتها العلاجية. القدرة الشفائية الكامنة في هذه الطاقة كانت مذهلة بحقّ: فالجروح تلتئم أسرع، والعضلات تستعيد قوتها، والروح نفسها كأنّها تتطهّر من التعب. وأنا، الذي جئتُ إلى هنا بلا ذكريات، لم أعرف الإحساس الدقيق المطلوب لإطلاق هذه الطاقة كما يفعل السحرة المتمرّسون، لكنّني لم أكن أحمقاً لأجازف بحياتي سعياً وراء اكتشاف سريع كما يفعل بعض أبطال القصص الذين يندفعون إلى المجهول بتهوّر.

تخيّلت نفسي أحياناً لو خرجتُ إلى الغابة لمواجهة وحش ما، وحاولتُ هناك إطلاق طاقتي السحرية للمرة الأولى في لحظة يأس. ماذا لو أنّها لم تعمل؟ ماذا لو تُركتُ بلا حماية وسط مخالب الوحش؟ لم أرغب في أن أختبر ذلك السيناريو العبثي.

في هذا العالم، ليست نسب التوافق وحدها هي المعيار. الأمر يتجاوز ذلك بكثير؛ يتعلّق بالنوع، بالموهبة، بالتربية، وبالانضباط. الشخص قد يمتلك نسبة عالية مع عنصر النار مثلاً، لكنّ ذلك لا يعني أنّه سيشعل النيران لمجرّد رغبته. ما يتطلّبه الأمر هو التدريب الصارم، الانضباط، الفهم، والقدرة على التوجيه. ولهذا السبب يتفوّق النبلاء عادةً على العامّة؛ فحتى لو امتلك أحد العامة نسبة توافق عالية، فإنّ غياب التدريب الممنهج يجعل قدرته بلا قيمة تُذكر.

التوافق إذن ليس سوى البذرة. أمّا الشجرة فتنمو بالتربية والتدريب والصبر. النسب العالية تشكّل الإمكانيات القصوى، لكن من دون صرامة الانضباط تتحوّل إلى مجرد أرقام باردة. هنا، وحدهم النبلاء أو الأفراد الذين خضعوا لتأهيل خاص يستطيعون استثمار تلك البذور إلى أقصى مداها.

تذكّرتُ في تلك اللحظة مشاهد من الرواية التي كنتُ أقرأها يوماً ما. هناك، كان البطل يدرس في الأكاديمية، يحاول أن يفهم جوهر الطاقة السحرية. كم بدت معقّدة آنذاك، وكأنّها بحر لا شاطئ له. الطاقة السحرية تشبه حاسّة سادسة نائمة، تستيقظ فجأة حين يُدفع الجسد إلى أقصى درجات التوتر: إمّا في لحظة ارتياح قصوى أو في لحظة خوف مطبق. أشبه بآلية دفاع بدائية في أعماق الكائن الحيّ، يطلقها الجسد بلا وعي لحماية نفسه.

وهؤلاء الذين يستيقظ فيهم ذلك الحسّ السحري يُقسّمون عادةً إلى ثلاث فئات كبرى:

الفئة الأولى: السحرة. وهم أولئك الذين يوجّهون طاقتهم نحو الخارج، يستخدمونها لخلق هجمات بعيدة المدى، أو لتوليد دفاعات جبّارة تحجب عنهم ضربات العدو. هم رسّامو الطاقة، يحوّلونها إلى أشكال متنوّعة، من نار تتأجج، أو جليد يتجمّد، أو عواصف تهدر.

الفئة الثانية: الفرسان. هؤلاء يختلفون تماماً؛ فهم لا يكتفون بإطلاق الطاقة، بل يدمجونها في أسلحتهم ودروعهم. يصبح السيف في أيديهم أداة تفوق المعدن، يغدو امتداداً للطاقة نفسها، قادراً على شطر الصخور وإحداث دمار لا يُقاس بالقوة الجسدية وحدها. الفرسان أشبه بوحوش بشرية في ساحة القتال، لا يرحمون ولا ينهزمون بسهولة.

الفئة الثالثة: الفرسان السحريون. وهي الفئة النادرة القليلة، تلك التي تجمع بين الموهبتين معاً. يمتلكون قدرة السحرة على التلاعب بالطاقات البعيدة، وقوة الفرسان في الدمج مع الأسلحة. غير أنّ هذه الفئة لا يولد أفرادها بكثرة؛ إنّهم استثناء نادر، أشخاص جمعوا بين الموهبة الفطرية والذكاء الحادّ والانضباط الصارم. الوصول إلى هذه الفئة لا يتطلّب موهبة فقط، بل يتطلّب كذلك عزيمة فولاذية وقدرة على التعلّم والابتكار.

تأملتُ الفكرة مليّاً، وعدتُ بذاكرتي إلى ما قرأتُه في الرواية. هناك، لم يكن الأبطال جميعهم نبلاء. بل ظهر من بين العامة أشخاص مميّزون، بعضهم صار شريراً، وبعضهم صار بطلاً. وحين حاولتُ أن أحدّد في ذهني تعريفاً للشرّ في هذا العالم، لم أجد سوى عبارة واحدة تتردّد داخلي:

"لا وجود لشرير يولد من تلقاء نفسه؛ الشرّ يُصنع. إنّه نتاج أفعال الآخرين، انعكاس لانكسارات البشر وصراعاتهم. هي دورة الحياة الوحيدة التي لا مفرّ منها. ولعلّها أفضل من دورة الموت التي تسحق الناس بلا رحمة، لأنّها على الأقل تمنح معنى، تمنح سبباً."

تردّدت العبارة في داخلي كأنّها حكمة منقوشة في أعماقي. وبين الورود المتلألئة والألوان المبهرة، وبين الإرهاق الجاثم على عضلاتي، وجدتُ نفسي في تلك اللحظة أتأمّل العالم بعين أخرى: عالم لا يُقسم ببساطة إلى خير وشرّ، بل يُصاغ من تفاعلات معقّدة، من ضغوط، من ظروف، من قلوب مكسورة ونفوس مشوّهة.

***

بعد عودتي إلى غرفتي تلك الليلة، وقد قد ارتحت بما يكفي في الحديقه ، التفتُّ إلى إيميلي التي كانت تتهيأ كعادتها لإعداد ما يلزمني من طعامٍ وشراب، وقلت بصوت هادئ أقرب إلى الجزم:

"لا داعي لأن تحضري العشاء اليوم… لديّ أمرٌ عليّ القيام به."

كانت كلماتي بسيطة، غير أنّ وقعها بدا أثقل مما توقعت؛ إذ رأيت من طرف عيني، وقبل أن أستدير كليًّا، اهتزازًا عابرًا في عينيها؛ ارتعاشة لا تكاد تدوم أكثر من جزء يسير من الثانية، لكنها كانت كافية لتكشف ما يضطرب خلف ابتسامتها المتكلفة وصمتها المهذب. لم تكن تدرك ـ ولا يمكنها أن تدرك ـ أنّ فوق رأسها مباشرة يطفو مؤشرٌ غريب، مؤشرٌ لا تراه عيناها ولكنّ عيني ترصده على الدوام. كان ذلك المؤشر يلمع بخطوط دقيقة، وقد ثبت عند لحظتها تلك على رقم مألوف لديّ:

( مستوى العلاقة: 16% )

ذلك الرقم، في حركته البطيئة صعودًا وهبوطًا، كان أشبه بمرآةٍ لمشاعرها المتقلبة. لحظات يرتفع فيها قليلًا كأنها اقتربت خطوةً مني، وأخرى يهبط فيها كأن حاجزًا خفيًا ارتفع بيننا. لم يكن الأمر مجرد أرقام جامدة، بل كان انعكاسًا لشيءٍ أعمق؛ روحها التي تحاول فهمي، عقلها الذي يراقب تحولي، وقلبها الذي يرتاب أحيانًا في صمتي.

وفي تلك اللحظة بالتحديد تسللت إلى داخلي سخرية باردة، فكرت بلا مبالاة قاسية: "لن تعرف أبدًا أنني لست ذلك الشخص… لن تكتشف قط أنّ ما تراه أمامها ليس سوى قشرة، وأن الجوهر قد تبدل منذ زمن بعيد. شخص آخر يعيش في هذا الجسد، شخص يختلف كليًا عمّا عرفت."

غادرت جانبها متجهًا إلى الغرفة الملكية الخاصة بي، وهي الغرفة التي ورثت فخامتها من المقام الذي وُلدت فيه. عند دخولي إليها، هبطت على صدري تلك الرائحة المميزة التي اعتدت عليها، مزيج من خشب الأثاث المصقول وزيوت التنظيف التي تحرص إيميلي على استخدامها. بدا المكتب مرتبًا بعناية تامة؛ الأوراق مكدسة في نظام صارم، الكتب مصطفة وفق أحجامها وألوانها، والغبار كأن لم يجد سبيلًا إلى هنا قط. كان أثر يديها ظاهرًا بجلاء، وقد اعتدت أن أجد لمستها في كل زاوية، في كل تفصيلة صغيرة لا يلحظها سواي.

جلست على مقعدي الكبير ذي المسند العالي، متأملًا السطح الخشبي الناعم للمكتب، وتركت عقلي يغرق في دوامة الأفكار التي لم تفارقني منذ أن خرجت قبل قليل إلى الحديقة. هناك، وسط الورود المترامية بألوانها، كنت قد شعرت لأول مرة بأن جسدي يوشك على الانهيار، على الرغم من أن الطاقة السحرية التي تسري في عروقي تمنحني دائمًا تعافيًا أسرع من أي إنسان عادي. إلا أنني تعلمت ـ بمرارة ـ أنّ لكل قوة حدًا، وأن تجاوز ذلك الحد ليس سوى دعوة مبكرة للفناء.

كانت تلك الحقيقة تدقّ في ذهني مثل مطرقة بطيئة، تدعوني أن أتحول من التفكير في جسدي إلى التفكير فيما هو أبعد: جوهر العالم نفسه. فكما أن الطاقة ـ مهما عظمت ـ لا تكفي لإنقاذ الجسد بلا حدود، فكذلك البنية السياسية والاجتماعية لهذا العالم؛ هرم قاسٍ يتحكم في مصائر البشر جميعًا، لا يترك مجالًا إلا للنزر اليسير من المحظوظين.

تمتمت بصوتٍ خفيض كأنني أحدث نفسي أو كأنّ شبحًا من ذكرياتي البعيدة تسلل عبر الحائط ليشارك أفكاري: "الهرم السياسي… هو المفتاح الذي يحكم هذا العالم."

وما إن لفظت الكلمات حتى شعرت كأنها تردد صدىً بعيد لرواية مألوفة لي، رواية كنت قد حفظت تفاصيلها في عالمي الآخر، رواية حملت عنوان "أبطال المملكة المنبوذة". كم بدت المفارقة ساخرة؛ أن أعيش الآن داخل عالمٍ كان في ذاكرتي مجرد حبرٍ على ورق، وأجد نفسي أرى ملامحه ماثلة بصرامة لا تعرف الرحمة.

ذلك الهرم ليس تشبيهًا عابرًا، بل نظام متكامل، يسيطر على كل زاوية من القارة الخالدة. في قمته يقبع الإمبراطور، الكلمة العليا، والقوة المطلقة، وتحت ظله تتوزع الطبقات طبقةً بعد أخرى: دوقيات، ثم مراتب الماركيزات، ثم الكونتات، وصولًا إلى القرى التي لا يملك أهلها سوى الخضوع.

النبلاء والعامة… فاصل شاسع لا يمكن لجسر أن يربطه. العاديون يولدون ويعيشون ويموتون وهم يدورون في فلك خدمة الآخرين، أما النبلاء فيحملون القوة والسلطان، لا بفضل أعمالهم الشخصية، بل بفضل الدماء التي تجري في عروقهم. ورغم ذلك، حتى النبلاء ليسوا متساوين فيما بينهم؛ إذ إن موهبة الفرد وقدرته على استدعاء السحر أو السيطرة على السيوف قد تكون هبة من السماء، لكنها أيضًا لعنة قد تجذب الوحوش قبل أن يتمكن صاحبها من السيطرة عليها.

تذكرت أن بداية الرواية كانت تصف هذه الحقائق مشوهة، تقدمها للقارئ على نحو مبسط، وكأنها حكاية خيالية. أما أنا، وقد غصت في قلب هذا العالم، فقد رأيت وجهه الحقيقي. كان ينبغي أن يكون هناك خمسون كونتًا، وعشرون مركزًا، وأربع دوقيات عظيمة، جميعها موزعة تحت راية الإمبراطورية، تلك الإمبراطورية التي تزين شعارها صورة التنين الذهبي، أو كما يسمونه أحيانًا "التنين السماوي".

كل حجر من قصور النبلاء، كل ستارةٍ في قاعاتهم، كل شعار يرفرف فوق جدرانهم، كل ذلك ما هو إلا انعكاس لترتيب هرمي صارم وضعته العائلة الإمبراطورية منذ قرون. لا مجال هنا للفوضى أو التغيير العفوي؛ كل شيء مضبوط بعددٍ محدد، لا يزيد ولا ينقص.

وكمثال صارخ على ذلك، عائلة إيميلي نفسها، عائلة "دوكي" الجنوبية. حين مات والداها وقتل أفراد أسرتها، لم يسمح النظام بأن تترك فراغًا. لم يكن هناك مجال للحزن أو الاستثناء؛ ببساطة تم استبدالها بعائلة أخرى لتأخذ مكانها، كأن العائلات ليست سوى قطع على رقعة شطرنج. لم يكن ذلك ليتم أبدًا إلا بأمرٍ مباشر من الإمبراطور نفسه، فسلطته مطلقة لا ينازعه فيها أحد.

في داخلي، انعكست تلك الحقائق بمرارة؛ إذ تذكرت أن إيميلي في المستقبل ـ حسب ما أعرفه من الرواية ـ ستكتشف هذه الحقيقة القاسية: أنّ سقوط عائلتها لم يكن نتيجة صدفة أو مكيدة محلية، بل قرارًا صادرًا من رأس الإمبراطورية نفسها. لن يكون من المستغرب أن يغمرها الغضب حينها إلى حد الجنون.

لكنني طردت تلك الخاطرة من رأسي مؤقتًا، فهذا لم يكن وقت الانغماس في قصص الآخرين. ما كان يهمني حقًا هو موقعي أنا داخل هذا الهرم الجبار.

أنا ابن الماركيز الثاني، ولادة جعلتني أعيش بين الامتيازات، لكنها في الوقت نفسه وضعت أمامي جدارًا سميكًا من القيود. فبصفتي الابن الثاني، فإن لقب الوريث لا يعود إليّ بل إلى أخي الأكبر. غير أن الأمر لا يتوقف على الأسبقية في الولادة؛ فبين النبلاء هنا، المعيار الأول والأخير هو القوة. إن كنت الأقوى، فإنك الأحق باللقب، وإن كنت الأضعف، فمصيرك أن تخضع، حتى لو كنت الأكبر سنًا أو الأنقى دمًا.

القوة، ولا شيء غير القوة، هي التي تمنح صاحبها الحق في أن يرفع صوته ويطالب بمكانه. أما من عجز عن امتلاكها، فليصمت، وليقبل أن يخدم باسم العائلة النبيلة التي ولد بين جدرانها. هذه هي القاعدة الصارمة، وهذه هي اللعنة التي تحكم مصيري أنا أيضًا.

كان عليّ أن أفكر في تقسيم السلطات بتجرد، كأنني أرسم خريطة في رأسي: خمسون كونتًا، كل واحد منهم يحكم القرى المتوسطة والكبيرة، ويوزع سلطته على أطراف الحدود. هؤلاء الكونتات أنفسهم يخضعون لماركيز واحد، في منظومة غير عادلة بطبيعتها، إذ قد يحصل ماركيز على عددٍ أكبر من بيوت الكونتات وفقًا لقوة عائلته.

ولذلك تحديدًا، كان بوسع عائلتي "فينكس" أن تجبر إيميلي على العمل خادمة في القصر. فبعد أن فقدت عائلتها سلطتها، لم يكن أمامها مفر، وعائلتنا كانت الأعلى سلطة في منطقتها. لكن الأمر لا يعني أنّ الكونتات مجرد أتباع بلا إرادة؛ فهم يستطيعون، إن أرادوا، أن ينضموا إلى ماركيز آخر، غير أن شهرة العائلة النبيلة وسمعتها تظلّ العنصر الحاسم في جذبهم أو تنفيرهم.

وعلى قمة هذا السلم، هناك عشرون ماركيزًا، يتوزعون جميعًا تحت لواء أربع دوقيات كبرى. كل دوقية تحمل شعارها الخاص، وتبسط نفوذها على نطاق واسع أشبه بالدولة. وفوقهم جميعًا يقف الإمبراطور، سيِّد القارة كلها، لا يُردّ له أمر.

ولكي أقرّب الأمر لعقلي، بحثت عن مثالٍ أو صورة تساعدني على التبسيط. فوجدت أنني أشبّه الكونت بمالك قرية متوسطة أو كبيرة، بينما يسيطر الماركيز على مدينة كاملة، والدوق على دولة واسعة، وأخيرًا الإمبراطور على القارة برمتها. تسلسلٌ صارم لا يقبل النقاش، كل مرتبة تخضع لمن فوقها، حتى تنتهي عند العرش الأعلى.

هذا هو النظام الذي يحكمنا، وهذا هو السياج الذي يطوقني ويحدد مصيري، سواء شئت أو أبيت.

----

لم يكن الشرح مفصلا بشكل كبير ولكن ذلك لان الاكاديميه ستكون قادمه ولا ارغب بان تكون الامور متكرره وارغب ان اشرح الامور البديهيه في البدايه

لذلك انا اعتذر مقدما ولكنني بصراحه كتبت هذا الفصل الطويل بالنسبه لك لذلك اتمنى ان يكون شيئا جيدا ومفيدا لافكارك صحيح ان هناك اشياء مكرره ولكنني اردت ان يكون كل شيء واضحا واكثر وضوحا

بالنسبه الى سؤالي هذه المره( ما هو شعار عائله الامبراطور في الروايه؟)😁😁😁😁

2025/09/14 · 56 مشاهدة · 2734 كلمة
ONE FOR ME
نادي الروايات - 2025