التاسع : سفيريا مون لايت ـــ شخصيه التقارب 85%
لقد جمعتُ جميع أمتعتي بدقّة وعناية عبر يد الخدم، أولئك الذين اعتادوا على القيام بهذه المهام بصمت مطبق لا يخرجه سوى خشخشة الأقمشة واحتكاك الخشب عند ترتيب الصناديق الصغيرة داخل العربة. كنت واقفاً أتابع حركتهم، أنظر إلى الأشياء التي تمثل امتداداً لي، وكأنني أراقب قطعة من حياتي تُقتلع من مكانها لتُحمل إلى مكان آخر.
نحو مسار جديد لا عودة منه. لم يكن في الأمر ما يثير الدهشة لو أنّها عربة عادية تجرّها الخيول كما اعتاد الناس في الأزمنة السابقة، لكنّ هذه العربة مختلفة؛ إنها تنتمي إلى عصرٍ لم يتقدّم صناعياً بعد، ومع ذلك تجلّت فيه لمحات من سحر غامض يزيح عن الذاكرة ثقل البدائية.
كانت العربة في غاية الجمال، بلونها الأسود اللامع الذي يعكس الضوء وكأنه سطح مرآةٍ مصقولة بدقة. لم تكن تُقاد بأيدٍ ماهرة تحمل اللجام وتلوّح بالسوط فوق صهوات الجياد، بل كانت تسير بواسطة أحجارٍ سحرية مطعّمة في هيكلها، أحجار تضخ فيها قوةً لا يراها أحد لكن أثرها يملأ الفضاء. كان ذلك التفصيل وحده كافياً ليشعر المرء بأنّه يعيش في عالمٍ يتقاطع فيه الخيال مع الملموس، عالمٍ يحكمه السحر كما تحكم الصناعاتُ العوالم الأخرى.
عرفتُ طبيعة هذه العربة لأنني كنت مطلعاً على الرواية التي تحكم مسار هذا العالم. لم يكن شيءٌ يحدث من حولي إلا وأستحضرتُ من ذاكرتي تفاصيله كما قرأتُها سابقاً. ومع ذلك، ورغم معرفتي السابقة، كانت تلك هي المرة الأولى التي أركب فيها عربة كهذه بنفسي. كان الأمر جديداً على حواسي، مختلفاً في وقعِه عن القراءة الباردة في صفحات الورق.
تقدمت نحوي إيميلي، تلك الفتاة ذات الشعر الأزرق الذي ينساب بخفة كخيوط الحرير المبلّل، وعيونها الخضراء التي تعكس صفاء الغابة في يوم ربيعي. نظرت إليّ نظرةً فيها شيء من الاحترام العميق، ثم أشارت بيدها الناعمة إلى العربة قائلة:
ـ "تفضل سيدي، يمكنك الركوب."
كانت كلماتها بسيطة، لكنها محملة بما يكفي من الرصانة لتذكرني بالفاصل الذي لا ينكسر بين سيدة وخادم. تبعتها بعيني للحظة، ثم رفعت بصري قليلاً ورأيت فوق رأسها المؤشر الذي لا تستطيع هي رؤيته. كان مكتوباً فيه: "مستوى العلاقة: 20%".
زفرتُ في داخلي تنهيدة طويلة، كأنّها أنين يثقل صدري. فكرتُ في نفسي: "حقاً... هذه الفتاة لا تستطيع أن ترفع مستواها قليلاً؟ حتى بعد أن منحتها الفرصة الذهبية للذهاب إلى الأكاديمية؟ عشرون بالمئة فقط... أيعقل؟"
الأكاديمية التي أقصدها، أكاديمية "توتنهام"، ليست مكاناً مفتوحاً للعامة. لا يُسمح لأي شخصٍ عادي بالاقتراب منها، فما بالك بالدخول إلى قاعاتها والتعلّم بين جدرانها. وحدهم ذوو القدرات الخاصة أو الذين يحملون صفات نبيلة، تلك الصفات التي تتجسد بختمٍ أو موافقةٍ من رئيس عائلة نبيلة، هم من يحق لهم التشرّف بخطواتٍ على أرضها.
أنا مثلاً، لولا أنني ابن المركيز، لما كان لي أن أحلم بالذهاب إليها. قدراتي وحدها، مهما بلغت، لم تكن لتفتح لي بوابات الأكاديمية. في حياةٍ أخرى، لو أنني وُلدت في بيتٍ غير بيت المركيز.
لما كنت سوى شابٍّ عادي يكدح ليبحث عن موطئ قدمٍ بين النقابات الخاصة بالمغامرين، أولئك الذين يغامرون بحياتهم في سبيل لقمةٍ أو مجدٍ عابر. كان عليّ عندها أن أفتش عن طريقة أكسب بها المال، وأُرضي بها جوعي وطموحي.
أما هي، إيميلي، فهي الآن سعيدة لا شكّ، وإن أخفت ذلك خلف ملامحها الهادئة وصوتها المنضبط. لكنني أراها بوضوح، أرى بريق الرغبة في عينيها، ذلك البريق الذي لا تخطئه فراسة من يعرف خبايا القلوب.
ومع ذلك، لم يكن الأمر يهمني كثيراً. صحيح أن قدراتها عالية جداً، بل تفوق العباقرة أنفسهم، كما جاء في الرواية: لقد ذكر الكاتب أن تقاربها مع السحر يصل إلى 85%. وهذه نسبة نادرة، تكاد أن تكون أسطورية، إذ تسمح لصاحبها أن يخطو نحو آفاقٍ عالية، أن يكتب اسمه في التاريخ بحروفٍ لا تمحى، وربما أن يتجاوز حدود البشر ليبلغ مرتبة الخالدين.
لو لم تكن إيميلي خادمتي الآن، ولو علم الآخرون بما تمتلكه من تقارب، لما تركوها لحالها. كان الجميع سيتصارع ليظفر بها، سيحاولون ربطها بعقد زواجٍ من إحدى العائلات النبيلة، فقط ليستغلوا تلك الموهبة الهائلة التي تجري في عروقها. هي الآن مجرد فتاة من العامة بعد أن كانت تنتمي لعائلة نبيلة، وهذا وحده يزيد الأمر تعقيداً. النبلاء لن يغفروا سقوطها، لكنهم أيضاً لن يسمحوا لمثل هذه الجوهرة أن تُستنزف في طريقٍ لا يخدم مصالحهم.
ومع ذلك، أعلم يقيناً أنّها تحمل كبرياءً نبيلاً في أعماقها، كبرياءً لا ينكسر بسهولة. لن ترضى أن تكون مجرد زوجة تُستخدم كأداة. وربما لا تفكر الآن إلا في اللحظة الراهنة، في الوصول إلى الأكاديمية، في أن تنال ثوب الطالب وتضع قدميها في القاعة الكبيرة. المستقبل بالنسبة لها ليس سوى حلمٍ غامض لم يتضح بعد.
ابتسمتُ ببرود داخلي، وقلت في نفسي باستهزاء:
"لديك خططك الخاصة، يا إيميلي... لكن المستقبل لا يكون دائماً كما يتخيل المرء. قد لا يكون جميلاً كما تتوقعين."
دخلنا إلى العربة أخيراً. كانت بحقّ تليق بنبلاء، من الداخل كما من الخارج. المقاعد واسعة، مغطاة بجلدٍ ناعم تفوح منه رائحة عطرة تدل على اعتناءٍ خاص. النقوش الخشبية على الجدران بدت كأعمالٍ فنية، والستائر السميكة المحيطة بالنوافذ تحمل ألواناً قاتمة تليق بمقام العائلات الكبيرة.
جلستُ في مكاني المعتاد، ثم جلست إيميلي أمامي مباشرة، محتفظة بحقيبتها الصغيرة بين يديها، وكأنها تخشى أن تُسلب منها.
كان من الطبيعي أن لا يُسمح لخادمة أن تضع أغراضها بجانب أمتعة النبلاء، ومع ذلك لم تأتِ خالية اليدين. تلك الحقيبة التي تحملها لا بد أنها تحوي أشياءً خاصة، بعضاً من بقايا عالمها الذي لا تريد أن تفقده. كانت ما تزال ترتدي زيّ الخادمة، لكنه زيٌّ مؤقت، أعرف أنه سيتغير حال وصولنا إلى الأكاديمية، حيث سيُمنح الطلاب ملابسهم الخاصة التي تميزهم.
على أي حال، أعرف أنّها في المستقبل ستصبح "ساحرة الجليد الأبيض"، الشهيرة بقوتها الجليدية التي تبهر العالم. ربما تكون السنوات الأربع التي سنقضيها في الأكاديمية سنوات فرقة، أو سنوات تختلط فيها المسارات قبل أن تصل الأحداث إلى ما يجب أن تصل إليه.
الرواية مليئة بالأشرار، وكثير منهم يختبئون داخل أسوار الأكاديمية نفسها. لكنني لا أشعر بالخوف من لقائهم. ليس لأنني قوي بما يكفي لأهزمهم، بل لأن مركزي الحالي لا يجعلني محطّ أنظارهم أصلاً.
أنا لست وريث المركيز، بل أخي الأكبر هو الذي يحمل هذا العبء. إنهم لن يهتموا بي كثيراً، وهذا يمنحني مساحة أتحرك فيها بعيداً عن أعينهم.
في النهاية، لا أنسى أن البطل الحقيقي للقصة سيظهر قريباً. سيأتي من بعيد، من قريةٍ دمرها فتح بوابة، ليعيش تحت كنف عائلة "مون لايت"، إحدى الدوقيات الأربع الكبرى. هناك، سيخضع لأوامر الأميرة "سيفيريا مون لايت"، الابنة الثانية لتلك العائلة العريقة.
إن سارت الأحداث كما في الرواية، فلا بد أن البطل الآن قد هرب فعلاً من قريته المدمّرة، والتقى بالأميرة في الغابات القريبة. ربما حصل بالفعل على "الغش" الخاص به، تلك الميزة السرية التي ستجعله يتفوّق على الجميع. لعلّه الآن يفكر بالانتقام، يخطط للعودة ليحرق الماضي بمن فيه.
عندما وصلتني هذه الفكرة، تمتمتُ في برود، وعيناي تحدقان في الفراغ: "ذلك الوقت... ذلك الاناني." كان ازدرائي يقطر من بين حروف أفكاري، لا أملك إلا أن أستصغر ما يظنه الآخرون عظيماً.
---
بصراحه فكرت انكم قد لا تستمتعون بالفصول الطويله احاول تقصير الفصول يا اصدقاء
تذكروا اذا امكنكم ارجوكم اتركوا تعليق في خانه التعليقات بالاشياء التي تفضلونها والاشياء التي تتوقعونها اتمنى ان تفعلوا ذلك فسيكون مساعده كبيره
وانا اشكرك حقا يا زي على تعليقك واتمنى ان تكرر ذلك كثيرا بالنسبه الى سؤال هذا الفصل( ما هو سبب هروب بطل القصه من قريته؟)اتمنى ان تجيبو في خانه التعليقات❤️❤️❤️❤️