كان الليل مظلمًا والهواء ساكنًا على نحو غير طبيعي آثر وقف في منتصف الزقاق المعزول المكان الذي اختفت فيه آثار مانا أسيل كان جسده مشدودًا ويده ما زالت ممسكة بمقبض سيفه بقوة حتى كادت أنامله تفقد لونها
لم يكن هناك أي أثر... كأن أسيل تبخر
تأمل الأرض أغمض عينيه للحظة يركز على أي أثر طفيف للمانا أي اضطراب في الهواء ثم شعر به… خيط رفيع بالكاد محسوس لكنه كان هناك—نداء خافت في أعماق الغابة
فتح عينيه واتجه نحو الظلام
كل خطوة أخذها في الغابة كانت مدفوعة بشعور ثقيل يجثم على صدره كان غضبه حادًا باردًا كحد السيف لكنه لم يكن موجهًا فقط نحو من اختطفوا أسيل كان جزء منه موجّهًا لنفسه
لقد شكّ بأسيل
لقد نسي كم فقد أشخاصا في الماضي البعيد بسبب الشك لم يستطع فقط أن يسمح لاحتمال صغير أن يغيب عنه لأن خطأ واحد منه سيدمر كل شئ
أسيل ذالك الطفل علم جيداً أنه شخص لايستطيع حتى حمايه نفسه ...من الممكن أن تتبعثر روحه المطربه و يموت في أي لحظه
كان يشعر أنه غريب غير طبيعي فكر مرارًا أنه قد يكون أكثر مما يظهر عليه لكن الآن… الآن أسيل كان هناك في مكان مجهول محاطًا بأعداء قد ينهون حياته
وكان ذلك خطأه
أسرع خطواته مانته يتوهج حوله تتفاعل مع الأرض مع الأشجار مع الهواء لم يكن بحاجة لاستخدام القوة بعد لكن الغضب الذي في داخله كان ينذر بأنه لن يتردد لحظة إذا احتاج إليها
ثم… شعر به
ضعيفًا… متسارعًا… مانا أسيل كانت هناك، خافتة كأنها تحاول النجاة من الاختناق
رفع آثر رأسه وحدّق عبر الظلام عينيه المتوهجتين باللون الأزرق تلتقطان الحركة بين الأشجار رأى جسدًا صغيرًا يركض مترنحًا بين الأشجار المتشابكة يهرب كأن حياته تعتمد على ذلك
وكانت تعتمد على ذلك بالفعل
ثم رأى مطارديه
لم يتردد
بلمح البصر اختفت المسافة بينه وبينهم
لم يسمع أحد صوت خطواته لم يدرك أحد وجوده حتى اشتعلت النيران المقدسة تحت قدميه زاحفة على الأرض كوحش حي لم تكن تحرق فقط… كانت تمحو
توقفت الأصوات توقفت الحركة
سقط أحد الرجال دون أن يدرك أنه مات وآخر فتح فمه ليصرخ لكن صوته لم يخرج أبدًا كل شيء حدث في لحظة كأن الزمن نفسه انحنى أمام وجوده
ثم التفت ليرى أسيل
كان الصبي يحدق به بعينين واسعتين جسده يتشنج أنفاسه تتسارع في محاولة يائسة لاستيعاب ما يحدث آثر رأى كل ذلك… ورأى الرعب في عينيه
ذلك الرعب لم يكن موجهًا نحو خاطفيه
كان موجهًا نحوه
آثر لم يتحرك لم يحاول قول أي شيء لكنه كان يعلم أن الصمت وحده لم يكن كافيًا
ثم فجأة… اندفع أسيل نحوه جسده الصغير ارتطم به ذراعاه تطوقانه بقوة أنفاسه متقطعة وكأنه كان على وشك الانهيار
آثر لم يحرك يديه في البداية
لكنه شعر برجفة الصبي شعر بأصابعه الصغيره المتشبثة بملابسه شعر بحاجته اليائسة للتمسك بشيء… بأي شيء
وببطء رفع آثر يده ووضعها على رأسه أصابعه انزلقت بين خصلاته المرتجفة بحركة هادئة
همس بصوت بالكاد يسمع: "أنا هنا."
في تلك اللحظة، أدرك آثر شيئًا مهمًا—
أسيل لم يكن شخصًا يجب أن يشك به لم يكن تهديدًا لم يكن لغزًا يجب حله
كان مجرد طفل… ضعيف هش ومليء بالخوف
وآثر… آثر كان قد أخطأ في حقه علم ذلك منذ البداية لامنه لم يستطع الا للشك أن يتسللل إلى قلبه
شدّ أصابعه قليلًا في شعره كأنها طريقة صامتة ليقول له شيئًا لم يستطع النطق به:
"أنا آسف"
***************************************
استفاق أسيل على شعور غريب وكأن الأرض كانت تهتز تحت جسده فتح عينيه ببطء مع شعور وكأن الزمن يتسارع حوله كان هناك شيء ثقيل في صدره وكان الهواء خانقا
حاول أن ينهض لكن جسده كان ثقيلًا كانت الجدران بيضاء والأرض مغطاة بمربعات من البلاط البارد والأضواء الساطعة التي لا تعرف الرحمة كان يرقد على سرير ضيق جسده ضعيفًا شاحبًا والكثير من الأجهزة متصلة به كان يشعر بألم لا يوصف في كل زاوية من جسده كان يشعر بالمرض يلتهمه من الداخل كأن قوته تتسرب معه في كل نفس يأخذه
وكانت هناك امرأة تقف بالقرب منه
كان يعرف تلك المرأة
كانت والدته
لكنها لم تكن الأم التي يعرفها الآن لم تكن تلك الحنونة التي تضمه حين يمر بلحظات ضعف لم تكن تلك التي تهمس في أذنه بأن كل شيء سيكون على ما يرام كانت شخصًا آخر شخصًا باردًا وقاسيا يتجنب النظر إليه
"أنت بلا فائدة "
كانت كلماتها تتسلل ببرود إلى أذنه كلماتها تنغرس في قلبه وتغرس فيه شعورًا لا يوصف من العجز كانت تقولها وكأنها تظن أنه نائم وكأنها تخاطب شيئًا لا يستحق حتى الاهتمام
"كل هذا عبث لماذا لا تتركه يذهب فقط ؟"
كانت تقول ذلك وهي تنظر إلى الأطباء الذين كانوا يعملون حوله يعالجونه كما لو كان مجرد حالة طبية لا أهمية لها ولكن أسيل لم يكن مجرد حالة كان كائنًا حيًا كان طفلًا وكان يعلم أن هذا الشعور بالوحدة بالرفض كان يلتهمه أكثر من أي مرض
كان يحاول أن يتحدث أن ينطق لكن لسانه كان ثقيلًا كان قلبه يتسارع وعينيه متسعتين خوفًا من أن يغرق في هذا الكابوس لكن كل ما كان يفعله هو الصمت هو فقط… كان يشاهد في صمت
ثم في وسط تلك الغرفة الباردة كان هناك شخص آخر
شخص لا يتغير
كان يراه دائمًا في تلك اللحظات كان آثر
لكن آثر لم يكن كما يعرفه الآن كان فقط يقف هناك بوجهه البارد عينيه الزرقاوين اللتين لا تنطقان بشيء كما لو كان يراقب من بعيد لم يكن هناك حديث بينهما فقط صمت ثقيل كما لو كان آثر يعلم أن الكابوس لا يحتاج إلى كلام
أسيل حاول أن يمد يده إليه أن يصرخ لكن لا صوت يخرج من فمه
"ساعدني…" كان يهمس في داخله لكن كلماته اختنقت
ثم كما لو أن الوقت توقّف تحوّل كل شيء إلى ضباب أصبح آثر أقرب إليه يمد يده لكن لم يكن هناك شيء يمكن أن يصل إليه لم يكن في يد آثر سوى الفراغ وكأن العالم بأسره كان ينهار حوله وكل ما كان يشعر به كان الخوف الخوف من أن يظل عالقًا في تلك اللحظة في ذلك المرض في تلك الوحدة إلى الأبد
فجأة شعر بشيء دافئ يلامس يده شيء غير متوقع فتحت عيناه بسرعة ورأى أمامه والدته واقفًتا بجانبه يده تمتد إليه كانت تحاول الحفاظ على هدوءها لاكن عينها المحمرتين من الدموع كشفت كل شئ
"أنا هنا
" همست بصوتها المرتجف يدها تشد يده برقة
تسللت الدموع إلى وجهه بالكاد يستطيع فتح عينيه لروءيتها أنها أمانه الوحيد في هذا العالم
"أنت لست وحدك" مسحت على رأسه برفق
أغمض أسيل عينيه ببطء وأخذ أنفاسا براحه كما لو كان يخرج من كابوسه أخيرًا