كانت الغرفة تغمرها أشعة الشمس الدافئة التي تتسلل عبر الستائر المخملية الثقيلة تلقي بوهج ذهبي على الأثاث الفاخر دفع آثر البريش الباب بهدوء متوقعًا أن يجد أسيل نائمًا كما اعتاد لكنه تجمد عندما رأى الطفل جالسًا على سريره رأسه منخفض وكتفاه تهتزان قليلًا
اقترب آثر ببطء ثم جلس على طرف السرير ونظر إلى الصغير بعينين متفحصتين كانت الدموع تتساقط بصمت على خديه الصغيرين بينما أصابعه الصغيرة تعتصر الغطاء الأبيض بين يديه
"ما الخطب.. لما تبكي؟" ناداه بصوت هادئ لكن الطفل لم يرفع رأسه
مد آثر يده ومسح على شعر أسيل برفق فازدادت دموعه أخيرًا تمتم بصوت منخفض
"....أنا أشعر بالملل" قال ذالك بصوت مبحوح قليلاً
رفع آثر حاجبًا لم يكن هذا ما توقعه أبدًا نظر إليه لوهلة . ما خطب هذا الطفل .... توتر للحظات لم يعلم ماذا يقول
التوتر الذي غمر ملامح آثر للحظة لكنه لم يُعلّق عليه . ما حدث في الحديقة ذالك اليوم ... ثم الاختطاف... كان إخراجه يأتي دائما بنتائج سيءه
تنهد آثر بصمت
لا يزال طفلًا في النهاية
جلس على السرير بجانبه وأسند ظهره إلى أحد الأعمدة الخشبية المنحوتة متجاهلًا الأفكار التي كانت تتدفق إلى ذهنه مثل دوامة لا تنتهي
هل كان قد التقى بأسيل من قبل؟
لا، مستحيل لكن لماذا يراوده هذا الشعور المزعج؟ لماذا يبدو له مألوفًا بطريقة لا يمكن تفسيرها؟
كان آثر قد فقد كل من بقي في الحرب الأخيرة الأشخاص الذين لُعنوا من الشياطين كانوا آخر الناجين وكان يعرفهم جميعًا حتى عندما كان يمتلك السيف المقدس في حياته السابقة لم يستطع فعل شئ
لكن أسيل... لم يكن واحدًا منهم
"ما الذي تفكر فيه؟" سأل أسيل فجأة ينظر إليه بعينين متورمتين قليلاً
أجبر آثر نفسه على الابتسام بابتسامة هادئه
"كنت أفكر في كيفية حل مشكلة الملل لديك"
اتسعت عينا أسيل قليلًا وكأن بصيص أمل قد وُلد في داخله قفز من مكانه وهرع إلى صندوق كبير نسبيا بجانب السرير فتحه بحماس وأخرج ألعابه واحدة تلو الأخرى
نظر آثر إلى الأشياء التي لم يرها من قبل قطار صغير يسير على سكة سحرية تتوهج بألوان مختلفة قطع غريبة تشابكت معًا لتشكل أبراجًا وهياكل مدهشة وطائرة ورقية مزينة بأحجار مانا صغيرة تحلق في الهواء كأنها على قيد الحياة
راقب الطفل وهو يشرح بحماس كيف تعمل كل لعبة كيف يُمكنه التحكم في القطار بحركات يديه وكيف تتحول القطع السحرية إلى أشكال لا حصر لها
كان ذلك مملا حقا.... لكنه لم يشأ أن يخبر أسيل بذلك
كان يراقب تعابيره يرى الفرحة الخالصة في عينيه البراءة بينما روحه تتاكل يوما بعد يوم بسبب لعنه الشياطين . لعنه تاكل الروح والجسد والعقل
كم من الوقت يمكن لهذه البراءة أن تستمر؟
لم يشأ التفكير في الأمر ليس الآن
***************************************
كان أسيل لا يزال مستغرقًا في اللعب عيناه الصغيرتان تلمعان بحماس عندما فتح الباب مجددًا دخلت لوكريسيا بخطوات هادئة مرتدية ثوبًا عصريًا مخمليًا يعكس بريق الضوء في الغرفة شعرها الأحمر كان ينساب على كتفيها بنعومة وعيناها الخضراوان تلمعان بلطف كما لو أن شيئًا لم يحدث كما لو أن الليلة الماضية لم تكن مليئة بالغضب والدماء
آثر شم رائحة الدماء العالقه . دماء لم تكن لها ...نظر إليها بحدة للحظه لكنه تجاهل الأمر
"أسيل عزيزي ما رأيك أن نخرج اليوم؟" قالت بصوتها العذب وهي تقترب منه
نظر أسيل إليها للحظة ثم اتسعت عيناه بفرح طفولي "نخرج؟ حقًا؟!"
ابتسمت وهي تمسح على رأسه برفق "بالطبع السوق المركزي سيكون مزدحمًا اليوم أعتقد أنك ستحب ذلك"
لكن لحظة الفرح لم تدم طويلًا
"كما أن عيد ميلادك يقترب ربما نجد شيئًا مميزًا هنالك ~~"
تجمدت ملامح أسيل ارتعشت أصابعه التي كانت تمسك بقطار المانا الصغير لكن الابتسامة بقيت مرسومة على وجهه، مترددة، خافتة
لوكريسيا لم تلاحظ ذالك
لكن آثر لاحظ
عينا الطفل تلاشت منهما الحياة لجزء من الثانية وكأن شيئًا مظلمًا قد زحف إلى داخله شيء لم يكن من المفترض أن يشعر به طفل صغير
كل عام يكبر فيه... يقترب من موته
عرف آثر هذا الشعور جيدًا عرف ما يعنيه أن تُدرك أن الوقت ليس في صفك لكنه أبقى أفكاره لنفسه مراقبًا أسيل بصمت
"آثر، تعال معنا" قالت لوكريسيا فجأة وهي تلتفت إليه كما لو أن الأمر كان بديهيًا
رفع حاجبًا. "لا أعتقد أنني مهتم بالتسوق "
"أوه. هيا . لا تكن مملًا" ابتسمت وهي تميل رأسها بخفة
لكن قبل أن يرد أمسك أسيل بكمه بلطف عيناه الواسعتان تتوسلان بصمت "تعال معنا. من فضلك"
تنهد آثر لم يكن بإمكانه قول لا عندما يطلب الطفل بهذه الطريقة
"حسنًا. حسنًا " قال ذالك بصوت مستسلم واظح عليه الارهاق
بعد ساعة وقف الثلاثة أمام عربتهم التي ستقلهم إلى السوق المركزي
كانت لوكريسيا كعادتها ساحرة الجمال ترتدي فستانًا عصريًا أنيقًا تصميمه البسيط زاد من جاذبيتها الفريدة وشعرها الأحمر ينساب حولها كالشعلة المتوهجة
آثر على الجانب الآخر بدا مختلفًا تمامًا عن الأجواء الحيوية للسوق كان يرتدي ملابس سوداء فاخرة معطف طويل بخطوط أنيقة ووشاح داكن زاد من حدة ملامحه الجادة سيفه كان مثبتًا عند خصره مما جعله يبدو كظل قاتم وسط عالم ملون
أما أسيل فقد بدا كأنه دمية ملاك صغير كان يرتدي ملابس بيضاء دافئة مع معطف فرو خفيف يزيد من براءته شعره الأبيض زاد من مظهره الطفولي وملامحه الرقيقة جعلت كل من يراه يرغب في حمله وحمايته
عندما نزلوا من العربة وساروا في السوق أمسكت لوكريسيا بيدي أسيل وآثر يدها اليمنى تمسك بيد ابنها الصغيرة بينما يدها اليسرى تمسك بآثر دون أن تنظر إليه حتى لم تلاحظ ملامح النفور والملل الخفيفين
[أنها تعاملني كطفل ..تماما مثل ذلك الرجل ]
كانوا يسيرون بثقة وكأن العالم بأسره لا يمكنه لمسهم
عينا آثر تحركتا في السوق، يراقب الناس الذين ينظرون إليهم بإعجاب أو فضول كان الأمر طبيعيًا بعد كل شيء الدوقة البريش كانت شخصية بارزة وجمالها كان حديث الجميع وأبن الدوق البريش الدوقيه الاقوى . التي تحمي السيف المقدس في اراضيها
أما أسيل فقد كان ببساطة... لا يُقاوم
وسط السوق الصاخب
كانت الألوان الزاهية تملأ المكان والأصوات تتداخل بين البائعين والمنادين والموسيقى الخفيفة القادمة من أحد العازفين في الزاوية رائحة المخبوزات الطازجة والتوابل النفاذة امتزجت في الهواء مما جعل المشهد ينبض بالحياة بطريقة فوضوية ولكن ساحرة
أسيل كان يسير بخطوات قصيرة متحمسة عيناه تلمعان وهو ينظر إلى كل شيء من حوله كان واضحًا أنه لم يخرج كثيرًا إلى أماكن مزدحمة كهذه على النقيض منه كان آثر يسير بهدوء متجنبًا أي اتصال مباشر مع المارة الذين لم يرفعوا عينيهم عنه بينما لوكريسيا تبدو وكأنها ملكة تتجول في مملكتها الخاصة كل خطوة لها مدروسة وكل نظرة محسوبة
"انظري، أمي! هناك حلويات بشكل تنانين!" هتف أسيل فجأة مشيرًا إلى عربة خشبية مزينة بأشرطة ذهبية حيث كان الحلواني يعرض قطعًا صغيرة من الحلوى المنحوتة بعناية على شكل تنانين صغيرة بأجنحة ملونة وعيون لامعة من السكر
"إنها جميلة عزيزي هل تريد واحدة؟" سألت لوكريسيا بلطف
هز رأسه بحماس وسرعان ما قدمت له البائع قطعة مغلفة بشريط أحمر أخذها بين يديه الصغيرتين وعيناه تلمعان بالفرح الطفولي
آثر، الذي كان يراقب بصمت، لم يستطع منع نفسه من الابتسام قليلًا كان الأمر مثيرًا للشفقة بطريقة ما كم مرة سيستطيع هذا الطفل أن يفرح بهذا الشكل قبل أن يلتهمه مصيره؟
"أنت لا تبدو مستمتعًا آثر" جاءت ملاحظة لوكريسيا الهادئة مما جعله يرفع حاجبه
"لست من محبي الأسواق المزدحمة" رد ببرود معتاد لكن عينيه كانتا لا تزالان على أسيل الذي كان يحاول ألا يُلطخ نفسه بالسكر بينما يقضم الحلوى بحذر
قبل أن تستطيع لوكريسيا الرد توقفت فجأة. شيء ما تغير في الهواء . كان خفيفًا بالكاد محسوسا لكنه كان هناك
آثر لاحظ ذلك أيضًا
تحولت الأجواء حولهم للحظات وكأن شيئًا غير مرئي يراقبهم لم يكن هناك ما يُرى لا شيء خارج عن المألوف لكن حدس المحارب بداخله لم يكن ليخطئ
"أسيل اقترب " قالت لوكريسيا بصوت منخفض وقد اختفت ابتسامتها المعتادة
الطفل الذي كان قد لاحظ تغير الأجواء أمسك طرف فستانها دون تردد لم يكن يعرف السبب لكنه كان يعلم أن والدته نادرًا ما تتوتر بهذه الطريقة
آثر وضع يده على مقبض سيفه لم يسحبه
بعد لكنه كان مستعدًا
"ما الأمر؟" سأل بصوت بالكاد يُسمع لكن لوكريسيا لم تجبه فورًا كانت عيناها تتحركان بين الحشود وكأنها تحاول التقاط شيء محدد وسط الفوضى
ثم وبنفس السرعة التي ظهر بها ذلك الشعور الغريب اختفى
"لا شيء" همست أخيرًا لكنها لم تبدُ مقتنعة تمامًا
آثر لم يُصدّق ذلك للحظة كان قد رأى ما يكفي من المعارك ليعرف أن الغريزة نادرًا ما تكذب لكن ما لم يفهمه هو لماذا اختفى التهديد بهذه السرعة؟
أو لما ظهر بالأصل ؟
ـــــــ
لن يكون هناك فصول لفتره من الوقت حتى انتهي من المخطوطه😶🤍