كان عبق الشاي الدافئ يملأ أرجاء قاعة الطعام، حيث انعكست الشمس على الكريستالات المعلقة كأنها قطع من حلم ناعم. جلست لوكريسيا بهدوء، ترتشف شايها بنعومة، بينما جلس آثر غير بعيد عنها، صامتًا كعادته
وفجأة، تجمد أسيل في مكانه، عينيه متسعتين، كأن أحدهم انتزعه من قلب لحظة أخرى وألقاه في هذا المشهد دون سابق إنذار
كان قبل لحظة، يتذكر بوضوح، يقف في قاعة التدريب، يتجادل مع آثر، العرق يبلل عنقه، والسيف بين يديه يرتجف قليلاً من التعب. كيف؟ كيف وصل إلى هنا؟ متى؟
انقبض قلبه بشدة. لا... ليس مجددًا...
خفض رأسه بسرعة، يخفي نظراته المتوترة خلف رموشه الطويلة. يده قبضت على طرف رداءه دون وعي، يحاول أن يثبّت نفسه في هذا المكان، في هذا الواقع
"أسيل؟" صوت والدته ناعم، لكنه يحمل ملاحظة دقيقة
رفع نظره بسرعة، ابتسم باهتًا، "ن نعم ؟" متفاجا قالها بصوت مبحوح قليلًا، "أظن أنني فقط... شرِدتُ قليلًا"
لوكريسيا لم تقل شيئًا للحظات، نظرت إليه، بعينين قرأتا فيه أكثر مما قاله. ثم ابتسمت فجأة، تلك الابتسامة الرقيقة التي كانت كأنها تخفي بها كل شيء
"إذن بما أنك لا تفعل شيئًا الآن..." قالت وهي تعيد فنجانها إلى الصحن برقة، "لِمَ لا تبقى معي بعد قليل؟ نلعب معًا. اشتقت لقضاء الوقت معك"
اتسعت عينا أسيل قليلًا، ثم انفرجت شفتاه في ابتسامة هادئة
"بالطبع... سأبقى"
آثر كان يراقبه بصمت. لم يكن ينظر إلى ملامحه، بل إلى شيء آخر تمامًا... الطاقة
طاقة أسيل السحرية تتسرب ببطء... كأنها تنزف من جلده، من عظامه، من كل خلية فيه. كانت كثيفة، خانقة، أشبه بهدير تحت الأرض. شيء لا يُفترض أن يكون هنا. شيء لا يُفترض أن يبقى حياً بهذه الحالة
آثر يُمسك بالكوب بين أصابعه، لكنه لم يشرب شيئًا. عيناه ثبتتا على أسيل، لا على ملامحه بل... على ما لا يُرى
شيء خاطئ
شيء غائر في جسده، يطفو من داخله ببطء... كأن جلده بالكاد يقدر على احتواءه
لم تكن مجرد طاقة سحرية، بل كتلة نابضة، ثقيلة، كأنها تنبض بنبضات مستقلة عن قلبه. آثر لم يشعر بشيء كهذا من قبل. وكأنه واقف أمام صدع في العالم، منبع مظلم يُطلّ برأسه من تحت ملامح وجهٍ طفولي
هذا ما زاد شكه أكثر من أن أسيل قد لا يكون كائنًا بشريا، بل كائنا متنكرا بخبث بوجه بريء، يحاول فعل أمرٍ محظور
وشيء في حدسه صرخ: "هذا... لا يمكن أن يكون طبيعيًا. لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة بهذا الشكل..." نظر إليه للحظه بعينان باردتان
لكنه، كالعادة بقي صامتا
قطع سكون الجو في القاعة طرق خافت على الباب، ثم دخل رجل يرتدي عباءة رمادية قاتمة. لم يكن أحد الحُراس أو الخدم، بل رسول نقابة الغراب الأحمر
انحنى باحترام أمام لوكريسيا، وعيناه لا تلتقي بأي أحد آخر
"سيدتي الدوقة، رسالة مستعجلة من المقر"
تناولت لوكريسيا الرسالة بهدوء. أخرجت الختم الشمعي، فضته بحركة سريعة، وبدأت تقرأ، وجهها لا يتغير. لكن يدها... شدّت على الورق بقوة لحظة واحدة قبل أن تسترخي من جديد
قالت وهي تطوي الرسالة:
"عذرًا، عليّ إنهاء بعض الأعمال الطارئة في البرج الشرقي"
ثم التفتت إلى أسيل، تمسح على شعره بأطراف أصابعها:
"ابقَ هنا قليلًا، حبيبي، وسأعود لنلعب كما وعدتك"
أومأ أسيل، وابتسامته هذه المرة كانت واهية... شاحبة كظل شمس في ماء راكد
غادرت بخطوات ثابتة، وتبعها رسول النقابه
لم يقل آثر الكثير . فقط ظل يراقبه بصمت، قبل أن يبتعد بهدوء، يضع الكوب جانبًا، ويغادر الغرفة دون أن يلتفت
بقي أسيل وحده
صوت الباب وهو يُغلق بدا وكأنه يختتم شيئًا ما. صمت كثيف حلّ مكانه، خالٍ من الهواء تقريبًا
ثوانٍ… ثم بدأ كل شيء من حوله يتبدل بهدوء مرعب
الضوء القادم من النافذة لم يعد كما كان. صار أبهت، كأن الغبار يطفو في الهواء بلا سبب، وكأن الشمس لم تكن هناك قط
رفّ في طرف عينه ظل
نظر
كان هناك شيء على الحائط… صورة؟ لا. لا يتذكر أن تلك الزخرفة كانت هناك. زهرة حمراء مشوهة من الطلاء، تتساقط منها قطرات داكنة
غمض عينيه
فتحها
اختفت
في طرف الغرفة، ومضت صورة — ظلال أجساد كثيرة، راكعة، وجسد بعيد .....يبدوا غير واضح كأنه مصنوع من الضلال
اقترب بخطوة، فاختفت
تراجع، فشعر بسائل دافئ على كفه
نظر إلى يده… دم
رمش
لم يكن هناك شيء
أنفاسه تتسارع، صدره يرتفع وينخفض، وشيء في عقله يهمس: أنا أعرف هذا… رأيت هذا… لكن متى؟
ضوء أبيض خاطف ظهر على الحائط، ثم تشقق كأن جدار الغرفة صار مرآة تنكسر
فيها، رأى نفسه، أكبر سنًا… أو ربما ليس هو. عيناه فارغتان، وملامحه مجوفة
ثم اختفى كل شيء
أعاد النظر حوله
الغرفة عادت كما كانت
لكن قلبه لم يعد كما كان
وساقاه بالكاد تحملانه
ارتجف صدره وهو يحاول أن يلتقط أنفاسه من جديد، لكنه لم يستطع…
كأن الهواء ذاته رفض الدخول إلى رئتيه
يداه ترتعشان، ودم بارد يسري في أطرافه.
لم يكن الألم جسديًا، لكنه كان حادًا، حقيقيًا…
كأن روحه ذاتها قد اُنتُزعت للحظة وأُعيدت مكانها بطريقة خاطئة
رفع يده ببطء إلى جبينه… كان متعرقًا، رغم برودة جلده
عيناه لم تستطيعا الثبات على شيء… كل شيء في الغرفة بدا مشوهًا للحظة، ثم يعود طبيعيًا، ثم يتشقق من جديد في أطراف رؤيته، ثم يندمل
همس لنفسه، بصوت بالكاد يُسمع:
«ما الذي يحدث لي…؟»
لم يُجِبْه أحد، حتى صدى صوته خاف أن يتكرر
كل شيء فيه كان منهكا… حتى جسده الذي استيقظ للتو، كأنه لم يعرف طعم النوم أصلًا
سار بخطى بطيئة إلى جناحه، كان القصر فخمًا وواسعًا كعادته، لكن الضوء فيه باهت اليوم… كأن الجدران تعبت هي الأخرى
فتح باب غرفته، لم يخلع حذاءه، لم يُشعل الشموع.
سقط على السرير بثيابه، ووجهه نحو السقف الباهت السرير
لم يكن يريد التفكير…
لكنه لم يستطع التوقف
"كيف وصلتُ إلى الطاولة؟"
"كنت في ساحة التدريب، هذا أكيد… رأيت الأرضية، سمعت صوت السيوف… أليس كذلك؟"
"لكن…"
"لم أتحرك… لم أنهض… فقط... كنت هناك… ثم هنا…"
شعور بالغثيان تصاعد إلى حلقه
"هل أنا أحلم؟"
"هل هذا العالم حقيقي أصلًا؟"
"هل اختلقته؟"
أغمض عينيه، لكنه لم ينَم
الظلال خلف جفونه كانت مرهقة أكثر من الواقع
كل ما حوله بدأ يبدو وكأنه انعكاس… صورة غير مكتملة في مرآة مشروخة
الناس، الأماكن، حتى والدته… حتى نفسه
"ما الذي يحدث لي؟"
"هل كنت دائمًا هكذا… أم أنني أصبحت شخصًا آخر؟"
تقلّب على الفراش، وشعر بثقل غير مرئي فوق صدره.
لم تكن هناك يد تضغط عليه، لكن شيئًا ما عالق في أعما
قه… شيء يخشى أن يخرج، وشيء آخر يصرخ ليفهم
ذلك الظل خارج النافذة
تلك اللحظة التي اختفى فيها كل شيء…
"لا أريد أن أكون غريبًا…"
"لا أريد أن أفقد نفسي"
همس:
"لو أن أحدهم فقط… ما الذي يحدث "