وقف آثر في ساحة التدريب وحده، فيما كانت أنفاسه تتكاثف في الهواء كأنها دخان معتم ينبعث من داخل صدره، لا من برودة الجو

المانا...

هي ليست كما كانت

شعر بها حين جلس بجانب أسيل في قاعة الطعام. كانت تتسرّب من جسد ذلك الطفل كأنه جرح مفتوح لا ينزف دمًا، بل طاقة. شيء ما عميق، عفن، يشبه التعفن البطيء لزهرة مقدسة في مستنقع من الظلا

رفع رأسه، عينيه تراقبان السيف بين يديه، لكن تفكيره لم يكن فيه

كان في ذلك الكائن الذي ظنّوه صبيًا لطيفًا

أسيل دوبليف

أغمض عينيه لوهلة

"لو كان ما أشعر به حقيقياً... فقتله ليس خيارًا. إنه ضرورة"

فتح عينيه

نظراته صلبة، باردة، كأنها نُحتت من صخر لا يعرف الشفقة

"ليس بشريًا... أو لم يعد كذلك"

المانا التي شعر بها قبلًا تتعاظم في ذاكرته، الآن يُدرك تفاصيلها:

كانت تتلوى... كأنها تحاول الفرار من جسده، أو كأنها تُحاول الانفصال عنه بالقوه

قال بصوت خافت:

"هذه ليست طاقة طفل يحتضر...

بل طاقة كائن يُقاتل كي لا يتحول إلى شيء آخر"

ثم همس، وعيناه لا تزالان معلّقتين على حد السيف:

"وإن كان كذلك... فإن قتله قد يكون الرحمة الوحيدة التي بقيت له"

.......

غربت الشمس كان آثر لايزال في ساحة التدريب، وحده هذه المرة. السيف في يده بدا أثقل مما اعتاد، رغم أن عضلاته لم تشتكِ. لم يكن الوزن حقيقيًا، بل هو شعور غامض... كأن المعدن صار يحمل أفكارًا لا أصواتًا، كأن كل لمعة على نصله تعكس وجهًا واحدًا فقط

وجه أسيل

تأمل الشفرة، والنصل يلمع تحت ضوء مغبر. تنفّسه بطيء، عينيه نصف مغمضتين، والتفكير يعصف بصمت

"لم يتفاجأ"

كان هذا أول ما فكّر فيه

"أسيل... لم يتفاجأ حين فهم أنه يعاني من اضطراب المانا. لم يسأل، لم ينكر، لم يُظهر ذرة ارتباك"

رفع السيف قليلًا، ثم أنزله بتباطؤ

"كأنه... يعرف شيئا ما"

الريح مرّت من الساحة، باردة، تجر معها أوراقًا جافةً من أحد الأشجار

"كأن جسده اعتاد الألم، أو... أنه لم ينسَ ما مرّ به في زمنٍ آخر"

أطبق أصابعه على المقبض بقوة أكبر، وفكر:

"هو ليس طفلًا عاديًا... لم يكن أبدًا كذلك"

ثم جاءه ذلك الخاطر، بوضوح مخيف:

"أنا فقط من كان أعمى"

نظرة سريعة إلى السماء، لم تكن زرقاء. كانت مائلة للرمادي، كأنها تتآمر بصمت

ثم لوكريسيا...

كلما رأى ابتسامتها، تذكّر رائحة الدم

"تتظاهر بأنها نبيلة، امرأة مجتمع، أمّ لطيفة..."

"لكن في عينيها، شيء يشبه الوحوش التي تخرج من الدهاليز القديمة"

آثر لم ينسَ أبدًا تلك اللحظة... حين رآها تقاتل

لم تكن امرأة تدافع عن نفسها، بل كانت شيئًا آخر...

كأنها آلة قتل خلقها السحر والنار والنَذْر

حتى الآن، حين تمر قربه، يشعر بوخزٍ غريب في عظامه، كأن المانا نفسها تنكمش داخله

"الابن يشبه الأم، إذًا..."

خفض نظره إلى السيف، وشيء في داخله همس:

"إن كان ما أظنه صحيحًا... إن كان أسيل يحمل في داخله ما لا يجب أن يُولد في هذا العالم..."

"فأنا وحدي من يمكنه أن ينهيه"

أغلق عينيه للحظة، ثم فتحها ببطء

لا مشاعر على وجهه. فقط هدوء قاتل

"سأراقبه أكثر"

"إن تأكدت من أنه ليس بشريًا تمامًا... فلن أتردد"

ثم طعن السيف في الأرض، ووقف هناك، طويلًا، جامدًا، والهواء من حوله لم يتحرك

في أعماقه، كان القرار قد بدأ يتشكل

كانت خطواته صامتة، كأن القصر تعلّم أن يختنق حين يتحرك آثر

فتح الباب ببطء، تسلل كظل لا يملك صوتا، ودخل

أسيل كان هناك. مستلقيًا

بملامحه الهادئة… أنفاسه التي بالكاد تُرى… تلك العينان الخرراوين كالغابه مغلقتان كأن العالم كله لا يستحق أن يراهما

آثر لم يقترب أولًا

وقف عند العتبة، حدّق فيه طويلًا

"لا يتحرك"

قالها في نفسه

ولا رمشة، ولا ارتجافة، ولا خفقة جفن

لم يكن نائمًا، ولا مستيقظًا… بل بدا كأنه شيء بلا روح

كأنه توقّف… عن الوجود

للحظة، انقبض قلب آثر

مدّ يده للأمام، خطوة خفيفة نحو السرير

"هل… مات؟"أن .....

لكن اليد توقفت في منتصف الهواء

مهلًا

أليس هذا… وقتًا مثاليًا؟

همس صوت داخله، هادئًا، باردا

اقترب ببطء

جلس على طرف السرير، راقب وجه أسيل عن قرب

كان هادئًا… أكثر من اللازم

تأمل صدره. لا حركه

"إنه لا يشعر بي. لا مانا تحيط بجسده"

وضع يده على جبينه، كأنها يد أخ حنون

لكن ما حدث لم يكن من أجل الاطمئنان

نار زرقاء دافئه تنبعث من يده كأنها جزء منها

آثر أغلق عينيه… وبدأ الغوص

الغوص في الذكريات

البوابة انفتحت بسهولة غير متوقعة…

أكثر مما كان يتخيل

لكنه لم يرَ مشاهد طفولة

ولا لوكريسيا تحتضن ابنها الوحيد…

بل رأى شيئًا آخر

دائرة حمراء

سماء متشققة

صوتًا يهمس باللعنات…

وشخصًا يحمل سيفًا… يشبه سيفه

فتح آثر عينيه على الفور، وتراجع بسرعة

أنفاسه تقطعت، قلبه يدق، لكنه لم يُظهر شيئًا

نظر مجددًا إلى أسيل

كان لا يزال هناك…

بلا حراك، بلا دفء

آثر تمتم بصوت بالكاد سُمع:

"ما أنت؟"

"سأعرف كل شيء…

حتى لو احترقنا معًا"

همس آثر بالكلمات كأنها وعدٌ لنفسه، لا لأسيل.

مدّ يده ببطء، وسحب أنفاسه بعمق، ثم ضغط بأصابعه على جبهة الفتى، موقنًا أن هذه المرة، سيصل إلى لبّه... إلى ما يخفيه عن الجميع

ولكن…

لا شيء

فراغ

عتمة

صمت بلا جدران

أفكار ميتة، وأمنيات لم تولد، ورغبات بلا صوت

لم تكن هنالك كراهية

ولا حزنٌ واضح

ولا حتى… خيطٌ واحد يتمسك بالحياة

كان كمن دخل إلى عقلٍ مفرغ، مغلق بإحكام، وكأن صاحبه قد تخلّى عن كل شئ قبل وقتٍ طويل

ارتجف آثر وتفاجا للحظه

"ما هذا…" همس، يحدق في الفراغ الذي امتصه، وعيناه تتسعان بدهشة خافتة

فجأة، شعر بشيء ما ينسحب من تحت أصابعه

كأن نبضًا خافتًا كان هناك… ثم انقطع

رمش مرّة

مرّتان

ثم تحرّك بسرعة

مدّ يده نحو عنق أسيل، يضغط بخفة، يتحسّس… لا نبض

"لا، مستحيل…"

انخفض بجسده كلّه، أذنه على صدره، ينتظر صوت الحياة…

لا شيء

جسده كان دافئًا قليلًا… لكن لا حرارة حقيقية

عينيه، لم تتحركا

"أسيل؟"

لا رد

انقبض صدر آثر

يده ترتجف. شيء بداخله بدأ يعلو كصفير

"أسيل!"

هزّه بقوة

لكنه لم يتحرّك

أفلت آثر أنفاسه، وعيناه تتسعان ببطء، لم يكن خائفًا… بل كان أقرب إلى الذهول

"لقد كان ميتًا طوال هذا الوقت…"

همس لنفسه، قبل أن يدرك أن دماغه يرفض التصديق

لكن قلبه، كان يعرف

في تلك اللحظة، لم يكن في الغرفة صدى للحياة.

كان أسيل ساكنًا كما كان، لكن شيئًا جوهريًا قد رحل. لم تكن مجرد غيبوبة، أو نوم، أو ضعف

بل انسحاب كامل

كأنّ روحه نظرت إلى العالم،

ولم تجد سببًا للبقاء

كان الصمت جاثمًا، أثقل من الرصاص

لا حركة. لا صدى. لا حرارة تُذكر

شيء في ملامحه كان كأنّه… فقد المعنى

حدّق آثر فيه طويلًا، وكلما طال النظر، خُيّل له أنه أمام جثة… جثة دافئة ما زالت تخدع من يلمسها

رفع

يده المرتجفة مرة أخرى، يريد أن يلمسه… أن يتأكد… أن يُنكر

لكنه لم يستطع

شيء في قلبه تشقّق فجأة. شيء يشبه الخوف، لكنه أعمق… أشبه بفراغٍ يُسحب من داخله

ثم…

نبض

ضربة واحدة

ضعيفة، شاحبة… لكنها موجودة

ثم ثانية

كأن شيئًا غير مرئي قد انزلق إلى قلب الفتى، ودفعه للنبض مجددًا، رغماً عنه

كأن الحياة تردّدت للحظة… ثم قررت أن تعود

2025/06/04 · 31 مشاهدة · 1084 كلمة
سالفيا
نادي الروايات - 2025