كان صمت الريح في العالم المدمر أبرد من الموت

ركامه يجلد الأرض، والسماء الممزقة كأنها تبكي منذ ألف عام. كل شيء يصرخ، ومع ذلك لا صوت. لا طير، لا بشر، لا ضوء… فقط آثر

وقف وحده في قلب الجحيم

جال بخطواتٍ متثاقلة بين أطلال الممالك التي سقطت، فوق عظام منسية، ودمٍ جفّ منذ قرون. لم يعد يعلم كم مضى. عشرات السنين؟ مئات؟ في النهاية، توقف عن العد. توقف عن الشعور

كل من أحبّهم… ماتو

كل من حارب لأجلهم… لم يبقَ منهم شيء

كان جسده يتحرك، لكن روحه انطفأت مع آخر صرخة بشرية سمعها منذ قرون. لا شمس تشرق، لا ليل ينام، لا زمن يمر. حتى الشياطين غابوا بعد أن أنهوا مهمتهم. وحده، ظل هناك… ظل في الندم

ثم، استيقظ

استفاق فجأة وهو ابن دوق، لا أكثر. بعد خمسمائة عام بين الوحوش التي غزت القاره والموت. في سريرٍ ناعم، تحت سقف من الرفاه لكن قلبه بقي في ذلك العالم الرمادي. لم يكن هذا عالمه… كان غريبًا عليه، أكثر من جحيم الشياطين

كما لو أن الزمن انحرف عن مساره… ظهرت البوابات في السماء، سوداء يحيط بها وهج أرجواني كالندبة على وجه السماء، لكنها لم تفتح .لم يعلم سكان هذه القارة أي شئ عن الحرب الكبرى كل ما علموه أنها انتهت على يد الامبراطور الأول آثر نفسه باستخدام السيف المقدس

كان يتذكر جيدًا… حين فُتحت آخر مرة، تفككت القارات، صرخت النجوم، وابتلع الظلام كل شيء

لكن هذه المرة… ظلت مغلقة

وقف آثر في ممر القصر المظلم، الموشى بلوحات أجداده وعبق العطور الملكية، لكنه لم يشعر بشيء سوى الفراغ.

كان الممر طويلًا، ممتدًا كأن لا نهاية له، وكل خطوة يخطوها كانت أثقل من التي قبلها، كأن الحنين ذاته يقيده

ثم… أتته الذكرى

أخوه الأكبر

وجهه المشوش، صوته الدافئ، اليد التي كانت تمسك يده بقوة حين كانا طفلين

لماذا عاد الآن؟

لماذا يشعر كأن روحه تناديه من خلف مئات السنين؟

ارتجفت أنفاسه لكن عيناه كانتا باردتين كالجليد

رفع عينيه نحو نافذة زجاجية مطلة على السماء المشققة… في خياله البوابات ما زالت هناك، ثابتة، تراقبه

كأنها تنتظر اللحظه

....…...

في أحد الممرات الجانبية للبرج الأسود، حيث الجدران مغطاة بطلاسم لا تُقرأ، والأرضية تحمل آثار خطى لا تعود لأحد، كان إيرلاي يسير

لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه. ليس فقط بسبب مظهره، بل بسبب ذلك الجو الغريب الذي يحيط به. الهواء يتبدل حين يمر، والضوء يخفت، كما لو أن المكان نفسه يشعر بالخطر

عيناه ثاقبتان، نظراته تبعث القشعريرة في العمود الفقري لأي مخلوق يقع عليهما. لا يتحدث كثيرًا، لا يُظهر أي انفعال. رداءه الطويل ملوث بالدماء، بعضها طازج، كأنها لم تجف بعد، ولا يبدو أنه يهتم. وكأن بقع الدم جزء منه، دليل صامت على ما فعله قبل لحظات

مرّ بجانب حارس كان على وشك أن يحييه، لكنه توقف فجأة، وتراجع دون أن ينبس بكلمة. إيرلاي لم ينظر إليه حتى

أخرج جهاز الاتصال من جيبه، ضغط زرًا، وانبعث صوت خافت من الجهة الأخرى

قال بنبرة هادئة لكنها مختلفة عن بروده المعتاد:

"لوكريسيا؟"

أجابت مباشرةً بصوتها المعتاد، الحازم قليلًا، لكنه دافئ

"ماذا تريد الآن، يا ساحر البرج الم اخبرك أن لا تتصل بي الا للضروره "

"ابنكِ… أسيل. أليس عيد ميلاده بعد يومين؟ لا تقولي أنكِ لن تدعيني. لن أتحمل هذا النوع من الخيانة"

قالت بنبرة مازحة، وكأنها تعرف كيف تثير غضبه:

"لا تتصرف كأنك جدّه، يا عجوز البرج"

ضحك بخفة. ضحكة قصيرة وغريبة، لا يعرفها منه أحد

"تلك الثعلبة الصغيرة… كبرت كثيرًا"

ثم أغلقت لوكريسيا الاتصال

حدّق في الجهاز للحظة، كأنه يسترجع ذكرى بعيدة، ثم أعاده إلى جيبه، وتنهد

"هذا الإمبراطور اللعين..."

تمتم بصوت منخفض، وكأنه يحدث نفسه

"يستمر في رمي كل الأعمال القذرة عليّ. يومًا ما، سأضع سكيني في عنقه"

قالها وهو يشد حزام عباءته الثقيلة، كأن الكلمات وحدها لا تكفي للتنفيس عن الغضب المتراكم في صدره

مدّ يده إلى طاولة خشبية صغيرة عند مدخل الغرفة، حيث خُطّت دوائر سحرية قديمة بلون الدم، وسحب منها خنجرًا ذا نصل أسود قاتم. أمسك به قليلًا، ثم أدخله إلى غمده المثبّت عند خاصرته

خرج من البرج بخطوات بطيئة، لكن ثابتة. الهواء حوله ازداد برودة، والسماء بدأت تمطر فوق العاصمة، كأنها تغسل ما لا يمكن غسله

في الأحياء السفلى، حيث يتكاثر الفقر والجريمة، كانت الشوارع ممتلئة بأصوات النزاعات الخافتة، ومواء قطط تبحث عن طعام وسط أكوام القمامة

هنا، حيث لا قانون يحكم، ولا سلطة تحمي، كانت الأوامر الصادرة من الإمبراطور تمر عبره هو

لكن كل دم سُفك… كل صفقة قذرة… كل تحالف مع الوحوش… وُقّع باسمه

"تجعلني جلادًا لك، ثم تلبس عباءة القداسة"

لوكريسيا تلميذته الوحيده الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يقول إنه يهمه

"هي تخطط لشيء… وأنا لا أحب الأسرار، لوكريسيا"

توقف أمام باب حجري كبير في نهاية زقاق ضيق، طق طق، طرقه ثلاث مرات بطريقة محددة، ثم دخل دون انتظار الرد

وراء الباب، كان هناك طاولة محاطة برجال من العصابات. رؤوسهم تدور نحو الداخل فور دخوله، عيونهم تتسع

سكنت الغرفة

حتى الهواء توقّف عن الحركة

إيرلاي نظر إليهم نظرة واحدة فقط، ثم قال:

"أين كبيركم؟ لدي عمل غير مكتمل… وأحتاج إلى أدوات بشرية" قال ذالك كأنه رمز سري للعبور

ساد الصمت لحظة. ثم وقف رجل ضخم من الزاوية، وجهه مليء بالندوب، وعيناه فيهما من الخوف أكثر مما فيهما من الشراسة

"كبير العصابة ينتظرك في الأسفل، يا سيّد البرج…"

قالها بانكسار، ثم أشار إلى باب خلفي نصف مفتوح، ينزل إلى قبو تحت الأرض

لم يجب إيرلاي. اكتفى بأن خطا عبر الغرفة، وفتح الباب. صوت مفاتيح سحرية اشتعلت تلقائيًا على الجدران، تُضيء القبو بسراج أرجواني خاف

نزل الدرج بهدوء، كل خطوة منه تُصدر صدى غريبًا، كأن القبو يئن من وجوده

في الأسفل، كان زعيم العصابة، جوراس النمس، ينتظره. رجل نحيل، قصير القامة، لكن يُقال إنه قتل ثلاثة عشر شخصًا قبل أن يبلغ العشرين

رفع جوراس رأسه عندما دخل إيرلاي، وتظاهر بالابتسامة

"سيد البرج... لم أتوقع زيارتك بهذا الوقت. هل من مشكلة في… الشحنة الأخيرة؟"

لم يرد عليه مباشرة. اقترب منه حتى أصبح على بُعد خطوة واحدة، ثم أخرج من جيبه قنينة صغيرة مملوءة بسائل أسود يتحرك كأنه حي

"أحتاج إلى توزيع هذا… في أسرع وقت. في أحياء العاصمة، ثم خارجها. كل من يشرب منه، سيتحول"

توقف قليلًا، ثم أضاف:

"لكن ليس الآن. أريد أن ينتشر أولًا… ثم نُشعل الفوضى"

جوراس بلع ريقه

"هل… هل هو ما ظننت؟"

"أسوأ"

قالها إيرلاي ببرود، ثم أعطاه القنينة

"وسأعرف إذا خنتني، جوراس. وأنت تعرف ما يحدث حين أكذب

أومأ جوراس بسرعة، ثم هتف لأحد أتباعه كي يخفي القنينة

استدار إيرلاي دون أن يضيف كلمة. لكن قبل أن يرحل، توقف عند الدرج، وقال دون أن ينظر خلفه:

"آه… وبخصوص ذلك الطفل، أسيل دوبليف؟ لا تقتربوا منه. من يلمسه… لن يموت بطريقة سريعة"

ثم صعد الدرج واختفى في الظلال، تاركًا جوراس يتصبب عرقًا

كان يسير في طرقات العاصمة الخلفية، الرداء الطويل ينسحب وراءه، والدماء التي لطّخته ما زالت رطبة كأنها تأبى أن تجف

وفي داخله… كان السؤال يتكرر، مزعجًا كذبابة لا تموت:

"لِمَ تُبقي لوكريسيا على عائلة عمها؟ بعد كل ما فعلوه؟"

"كان يمكنها أن تمحوهم من الوجود… بكلمة، بإشارة، بنظرة"

"لكنها لم تفعل… حتى الآن"

قطّب حاجبيه بملل، وغمغم وهو يركل حجرًا صغيرًا أمامه:

"حسناً… لست مهتمًا."

قالها بنبرة من لا يكترث فعلًا، لكن عينيه الضيقتين كانتا تلمعان بشيء أعمق… ريبة؟ أم فضول؟

"لو أردت قتلتهم بيديها، أو أرسلتني… وأنا كنت سأفعلها مسرورًا"

أطلق ضحكة قص

يرة بلا روح

"لكن لا… هي تحميهم، أو تتغاضى عنهم. كأنهم طيف من ماضٍ لا تقدر على دفنه"

توقف عند سور قديم قرب نهر المدينة، وسحب من جيبه قطعة حلوى صغيرة مغلّفة بورق أحمر فاخر، فتحها ووضعها في فمه، ثم تمتم وهو ينظر إلى سطح الماء:

"لوكريسيا تلك الثعلبه الصغيره… ما الذي تخططين له بحق الجحيم؟"

2025/06/07 · 35 مشاهدة · 1197 كلمة
سالفيا
نادي الروايات - 2025