استيقظ أسيل مع أول خيوط الشمس المتسللة عبر ستائر غرفته الحريرية، لكنه لم يشعر بأي دفء

عينيه نصف مغمضتين، وجهه شاحب كقمرٍ خامد، لا أثر لأي تعبير فيه، كأن ملامحه سقطت من وجهه خلال النوم.

بعض الخدم تحركوا بصمتٍ حوله، كأنهم اعتادوا هذا الصمت منه، كأنهم جزء من أثاث القصر، لا يتكلمون، لا يسألون

البّسوه رداءه الرسمي المطرّز بخيوط الفضة والقرمزي، ورفعوا شعره بعناية خلف أذنه، لكنه لم ينظر في المرآة، لم يكن يهمّه شكله. لم يكن يهمّه شيء

كل شيء حوله كان كاملاً، جميلاً، متقناً حد الكمال:

القاعة السفلية قد ازدانت بالشرائط الحريرية الزرقاء، والطاولات انحنت بثقل الفواكه والحلويات والمخبوزات الفاخرة

وأصوات الموسيقى الكلاسيكية تنبعث بهدوء عبر السقف كأنها لا تريد إزعاج أحد

ومع ذلك، شيء داخله كان ناقصًا. شيء خفي، ثقيل، لا يعرف له اسمًا

نزل السلالم ببطء، كل خطوة له لا تشبه الأخرى، وكأنه لا يطأ الأرض بل يمشي في حلم

لكن ما إن لمح لوكريسيا في نهاية القاعة، واقفة بكامل أناقتها المعتاده فستانها الأحمر يلتف حولها كنارٍ هادئة، عيناها تراقبانه عن بُعد بحنانٍ دافئ حتى تذكّر دوره:

طفل في العاشره

طفل... لا يهمه سوى الكعكة، والهدايا، وعناق أمه

ركض إليها فجأة، دون أن يدرك أنه يركض

رفع عينيه نحوها بلمعانٍ مصطنع، وقال بصوتٍ ناعم طفولي ضاحك متظاهرا أنه يخرج من قلبه

"ماما "

ابتسمت لوكريسيا برقة، لم تفضح التوتر خلف ابتسامتها

" جوهرتي الثمينه"

ثم همست وهي تميل لتعدل ربطة عنقه

قبل أن يجيبها، قُطع المشهد بوصول شخصين لم يكن لهما مكان في هذا الحفل...

الكونت دوبليف، عم لوكريسيا، وزوجته ذات العينين الباردتين كحجارة النهر

كان ظهورهما مفاجئًا، ولكن ليس غير متوقع

رغم أن الدعوة لم تُوجّه لهما، إلا أن كونهما يحملان اسم "فالديمار" جعلهما يُفرضان كظلٍّ على الضوء

لقد أتيا... لأجل العلاقة مع الدوق. لا أكثر

"لوكريسيا " نطق اسمها عرضيا ليس فيه ذره حب او اهتمام

قال الكونت بابتسامة متكلّفة، وهو يقبّل يدها بافتعال

"عيد ميلاد سعيد لابنك "

ردّت عليه بلطف متجمّد

"شكرًا لحضوركما، عمي"

عندما سمع أسيل كلمة عمي على لسانها، كادت معدته تنقلب

كان يعرف... يعرف من هو هذا الرجل

يتذكّر جيدًا... هذا الرجل، وهذه المرأة، هما بداية النهاية لأسيل دوبليف القديم

هما البذرة التي نمت لتصير شجرة حقد سامّة، جعلت من أسيلسان الشرير الأخير

كل نظرة منهما، كل كلمة، كانت تزرع شعورًا بأنه غير كافٍ

آثر أفضل منك. آثر سيصبح دوقًا دوق البريش

أما أنت؟

فقط "ابن لوكريسيا"... من فرع لا يرث شيئًا سوى اللقب القديم دوبليف

الكونت دوبليف....

انطلقت الموسيقى في أنحاء القصر منذ اللحظة الأولى التي دوّت فيها الأبواق الفضية عند البوابة الكبرى، معلنةً بداية الحفل

أرضية القاعة كانت مغطاة بسجادٍ حريري مطرّز برموز عائلة دوبليف القديمة، وقد امتدت الثريات الكريستالية الضخمة من السقف إلى نقطة تكاد تلامس رؤوس النبلاء، تنثر فوقهم نورًا دافئًا كاذبًا

تم ترتيب ثلاث موائد دائرية عملاقة في وسط القاعة، عليها أصنافٌ من الطعام لم يسبق لأسيل أن تذوق أغلبها-أطعمة من الشرق البعيد، لحومٌ مشوية من غابة الجبال الحمراء، حلويات بألوان زهرية وسماوية متوهجة... كل طبق كان تحفة فنية

في الزاوية الشرقية، عازفون يعتمرون قبعات سوداء يعزفون مقطوعة موسيقية متغيرة تتبع نبضات القاعة-بطيئة في لحظات الحديث، وسريعة حين يُضحك أحد النبلاء الآخر بنكتة متقنة

الخدم يرتدون الأبيض والذهبي، يمرّون بخفة بين الحاضرين وهم يحملون المشروبات في كؤوس من الكريستال الأزرق، مخصصة لهذا اليوم فقط.

كل شيء بدا أشبه بمسرحية ضخمة... وكل شخص يؤدي دورًا كُتب له مسبقًا

وبينما كان الجميع يشير إليها بإعجاب، كان أسيل يراقب من بعيد، واقفًا وسط القاعه، يضغط طرف الكم على أصابعه دون أن يشعر

اقتربت منه زوجة الكونت ضحكت بصوتٍ منخفض، وأسقطت جملتها كشوكة داخل جوفه

" عيد ميلاد سعيد حفيدي الصغير"

لكن أسيل... ابتسم

ابتسم كطفلٍ في العاشرة...

أومأ، ثم قال

"هل أحضرتما لي هدية؟"

قالها بصوت بريء، خالٍ من أي توقعات

فوجئ الاثنان

ضحك الكونت بنبرة خفيفة، وقال:

"سنرسلها لاحقًا، لا تقلق... لكنك لا تحتاج شيئًا آخر مع هذا القصر، أليس كذلك؟"

ثم مرّا إلى الداخل، حيث الاصطفاف الرسمي لتقديم التهاني

أسيل بقي في مكانه مر عليه الدوق البريش وآثر أعطاه الدوق هديه لكنه لم يستوعب حقا ما يحصل أمامه كما لو أنه يشاهد مسرحية لم يلاحظ نظراة آثر ولم يسمع كلام الأشخاص الذين تحدثوا معه كما لو أنهم دما في المسرح تقوم بدورها فقط

تظاهر بالاهتمام بطبق الحلوى أمامه، راح يأكل قطعة صغيرة دون طعم، فمه شبه مغلق، يراقب الجميع كأنهم ممثلون على خشبة مسرح لا يُجيد الإيمان به

من بعيد، لمح والدته

لوكريسيا بثوبها الأحمر القاني المطرز باللهب، شعرها المائل للنار مسدول على ظهرها، عيناها تتحركان في كل اتجاه

كانت ترحب بالضيوف، تبتسم، تشير إلى الخدم، تتحدث مع أمهات الأطفال النبلاء، تضحك بصوت خافت حين يداعبها الدوق بكلمة عابرة

رآها تنظر إليه فجأة

نظرة قصيرة... لكنها دافئة

فرفع يده ولوّح لها

..............

كان قد ابتعد عن الحشد قليلًا حتى قبل أن يدرك ذالك

الضوء خافت هنا في الممر الطويل خلف قاعة الحفل، صوت الموسيقى أصبح كأنما يأتي من عالمٍ بعيد... كأنه حلم لا يخصه

وقف هناك، بجانب تمثال رخامي لأحد أسلاف عائلة البريش، ينظر إلى انعكاسه على النافذة، قبل أن تغزوه الكلمات... من ذاكرته كلمات الروايه

"لطالما شعر أسيل دوبليف بأنّه ضيف غير مرغوب فيه، في لا بيتٍ يحمل اسمه"

"كانت المقارنة سيفًا يغوص ببطء: آثر بارع في المبارزة، أسيل ليس كذلك. آثر وُلد بوريثٍ للدماء، أما أنت؟ لقبٌ فقط، موروثٌ من والدتك"

"حتى عندما مرض أسيل، كانوا يقولون إنّ المرض محرج لنبيل "

"وكانا هم... البذرة"

الكونت دوبليف، عم لوكريسيا وزوجته، لوكريسيا التي تحمل اسم عائلتها أعلى من أن يُذكر اسمه أمامهما لم يتوقعا يوما أن الطفله التي لطالما اهانوها ستصبح أعلى مقاما منهم ....

في الرواية، كانا أول من نظر إلى أسيل كـ"نصف وريث".

كانا أول من جعل آثر يبدو كنجم في سماء لا يسعه وصولوه

ارتجف قلبه، ببطء، ثم تجمّد

صوتاهما...

لم يكن صدى بالنسبة له ...آثر مجرد بطل الروايه الذي يتمنى أن لا ينهي حياته القصيرة بالفعل

اقشعر بدنه عندما سمع صوت همس الكونت وزوجته

......

كانا يتحدثان الآن. في هذا المكان. خلف العمود المجاور

تسلل، بهدوء

اختبأ كأن جسده ذاب في الظلال، لكن قلبه؟ كان قرع طبول، قادمًا من الأعماق

صوت الكونت:

«أترين هذا الحفل؟ كل هذا الهراء لأجل طفل لن يحكم شيئًا. تلك الطفلة اللعينه تظن أن تغطية العار بالذهب يجعله يلمع»

ضحكت زوجته، صوتها كالسكاكين

«مسكينه... لازالت تعتقد أن زواجها من الدوق رفع من شأنها. نسيت أن الجميع يراها أرملة متسلقة، تعلقت بأقوى رجل في الإمبراطورية حتى تضمن لقبًا جديدًا لابنها المشؤوم»

الكونت

«ابنها؟ هه، ذلك الشاحب ؟ لا اعلم حتى أن كان ابن زوجها ذاك ما كان اسمه جيد أن مات بسرعه كان كالعلقه ذالك الكونت اللعين »

قالت زوجته

« تلك الطفله اللعينه هل رأيت كيف كانت تتظاهر بأنها الدوقه الموقره »

قهقه الكونت

«لو كنت مكانها... لأخفيت وجهي خجلاً.....قتلت زوجها الاول وحصلت على لقبه ليس لديها وريث مناسب حتى يبدوا مقززا كالجثث....»

وبعد لحظة صمت، أضافت الزوجة، بصوتٍ حاد خفيض

«أتعلم؟ أحيانًا أنظر إليه وأفكر... ربما لو مات في صغره، لكان ذلك أفضل له ولنا»

.....

توقف الزمن

توقف الهواء

كل شيء تجمد حول أسيل

لم يكن هناك دموع. لم يكن هناك شيء

كان هناك فقط... فراغ

ثم تغيرت الأجواء

مانا عميقة، قاتلة...

راحت تتصاعد من جسده، من عينيه، من كفيه

نيّة

نيّةٌ خالصة للقتل

نقطة سوداء نقيّة... لا تحمل ترددًا ولا تراجعًا

خرج من الظلال ببطء

بخطوات ناعمة، هادئة...

حتى وقف أمامهما تمامًا

الزوجة شهقت

الكونت صمت ثم بابتسامة محرجة مصطنعه حاول قول شئ ما وجعله يذهب لكنه تجمد في مكانه

نظر إلى عينيه، ثم أدرك شيئًا... جعل جسده يقشعر

وجه أسيل كان فارغًا

لكن عينيه...

كانتا كأنهما شقّان في الجحيم، ينفذ منهما الغضب والاحتقار، كأن كل جملة نُطقت غرست سكينًا في ذاكرة لن تُمحى

ثم، ظهرت النية

كأن الهواء انكسر

كأن الأرواح انكمشت

نيّة القتل التي انبعثت من الطفل أمامهم لم تكن مجرد إحساس... كانت كأن سكينًا لامرئيًا على أعناقهم

الكونت تراجع خطوة

زوجته أمسكَت بثوبه دون وعي، عاجزة عن النطق

أسيل رفع رأسه ببطء، تمتم بكلماتٍ لم تُسمع

لم يُغمض عينيه الخاليه من الحياة ...رفع يده لكنه سرعان ما حمله أحدهم بعيدا

الدوق البريش

بخطوات سريعة، ظهر فجأة، رفع أسيل عن الأرض بين ذراعيه

كأنما قرأ المشهد دون أن يحتاج لكلمة

لم يقل شيئًا

فقط نظر إلى الكونت وزوجته بنظرةٍ تجمّد العظم

.....صمت

أسيل لم يقاوم

بقي جامدًا ب

ين ذراعيه، يتشبث

ينظر إليهما من فوق كتف الدوق، نظرة... لا تشبه الأطفال

سرعانما ابتعد بين ممرات القصر المظلمه

سمع صوت الدوق يهمس " كان اليوم طويلا اذهب للراحه"

لم يعارض

...لم يكن هناك دموع

لم يكن هناك صوت

لم يكن هناك شيء يخرج من فمه، ولا حتى تنهيدة

فقط عيناه الميتتان...

تلك العينان الواسعتان، نظرتا إلى الفراغ كأنهما تريدان الهروب من شئ ما

2025/06/10 · 33 مشاهدة · 1371 كلمة
سالفيا
نادي الروايات - 2025