الهواء في الشرفة لم يكن باردًا، لكنه لم يكن دافئًا أيضًا.
كان ساكنًا، كأنه ينتظر شيئًا ما ليبدأ التحرك
آثر وقف هناك، بلا عباءة، بلا حُرّاس، كأن قيد التاج القديم لم يعد يثقل كتفيه…
لكن ظلّه، ظلّ التاج، لا يزال يمدّ أطرافه فوق الأرض، كوشم لا يمحى
تحت الشرفة، كانت أضواء الحفل تتلاشى، والزهور تذبل قبل أوانها
حتى القمر بدا مشوشًا، كأنما يحاول أن ينسى ما رأى الليلة
خطوات خفيفة تسللت عبر الصمت.
لا يُخطئها آثر. ليست خطوات خادم ولا جندي. إنها خطوات من يتقن الحضور كأنه سراب
"لم أتوقّع أن أجدك هاربًا من الحفل. ظننتك من النوع الذي يُجيد التمثيل حتى النهاية، جلالتك"
مع انحناءة ساخرة مبالغ فيها، قالها الصوت بسخرية باردة، كمن يُدلي بملاحظة لا انتظار فيها لردّ
لم يلتفت آثر، لكنه أجاب:
"توقف عن مناداتي بذلك… تتصرف دائمًا كغراب حاقد"
ضحك إيرلاي، ضحكة قصيرة خالية من الفرح
اقترب بخطواتٍ محسوبة، ثم وقف عند الدرابزين، يحدّق في الحديقة كمن يحاول أن يقرأ سطرًا في كتابٍ لا يفهم لغته
مرت لحظة طويلة.
آثر بقي صامتًا، عيناه تتابعان رقصة الضوء الأخيرة على أطراف النافورة
"البرابرة... ليسوا أناسًا عاديين، يا مولاي. لم يعودوا فقط أناسًا يتقاتلون على أراضيهم، بل صاروا كتلة متحركة، زحفهم بات يتجه نحو العاصمة… ليس بحثًا عن صراع، بل عن ملاذ، عن بقايا ما كان"
آثر استدار ببطء، عيناه تمتلئان بتلك النظرة المتجمّدة، نظرة من شهد سقوط ممالك وعروش قبل أن تُبنى
"تلك البقايا… التنين القديم، يا إيرلاي. لم تندثر نيرانه بالكامل. كم من قوى حاولت إخمادها، لكنها تعود بلهب أكثر حدة"
تقدّم إيرلاي خطوة، واضعًا يده على الحافة الباردة للشرفة
"في الغرب، حيث تكسرت الممالك، تخلّفوا بقايا من نار تتراقص كأشباح. البرابرة الذين فرّوا من قبضة المملكة المتهاوية، يحملون معهم إرث هذا اللهب القديم… يكادون يكونون أداة في يد قوى لا يفهمها حتى هم"
ابتسم آثر ابتسامة ضحلة، متحسّسًا في صدره ذلك الخوف القديم
"كيف يمكن أن نوقف هذا؟ كيف نصمد أمام موجة تزداد عنفًا؟ على أي حال، مهمتي فقط الحفاظ على السيف المقدس… كل شيء بخير"
تحرك الهواء بينهما كأنفاسٍ عتيقة لم تغادر الحجرة قط، تحمل معها رائحة الورق المحترق... والماضي المحفوظ بالحبر والنار
آثر نهض من جلسته بهدوء لا يخلو من صرامة، استدار نحو إيرلاي، عينيه تقرآن بين الكلمات
"لم تخبرني… أن تلك المرأة كانت تلميذتك"
لم تكن نبرة اتهام صريحة، لكنها حملت في طيّاتها شيئًا خافتًا، كما لو كان يعيد ترتيب الأحداث في ذهنه، يربط الخيوط بصمت، ويتساءل كم من الأسرار تُساق إليه ببطء، لا دفعة واحدة
رفع إيرلاي حاجبًا، ثم أجاب دون أن يلتفت، بصوته المعتاد المكسو بسخرية رقيقة
"آه، لا أذكر أن ذلك كان سؤالًا مباشرًا في المرات التي كنت تحدّق فيها بعينيها كأنك ترى ظلًا من ماضيك. وهل تهمّ التفاصيل في حضرة الجلالة الإمبراطورية؟"
لم يضحك آثر
بل استمر ينظر إليه… طويلًا، وأضف بصوت أكثر حدة، لكن دون أن يعلو
"أنت دائمًا تختار التوقيت المناسب لتُظهر الحقيقة… أو لتُخفيها"
هز إيرلاي كتفيه، وكأن الأمر لا يعنيه كثيرًا
"ولو أنك تحكم العالم مجددًا، لاخترت الصمت أيضًا
المعلومات مثل النار يا آثر، بعضُها يدفئ، وبعضها يحرق"
ساد الصمت لحظة، قبل أن يتحدث آثر أخيرًا
"عن أي نار تتحدث؟ التي في صدور البرابرة؟ أم التي تنهض في الغرب من جثث التنين القديم؟ أم تعني نيرانك المشؤومة التي تحرق أرواح البشر؟"
التفت إيرلاي نحوه هذه المرة، ملامحه أكثر جدية، لكن نبرته بقيت ساخرة
"كلاهما، يا مولاي السابق. البرابرة يتزاحمون على أبوابنا كأنهم يركضون من شيءٍ لا نستطيع رؤيته. قبائل بأكملها اختفت في الليالي الباردة، وهناك من يقول إنهم التقوا بقايا كائن لم يكن ينبغي له أن يستيقظ"
اقترب آثر خطوة، وعيناه تشتعلان بتوتر خفي
"تنين؟ ألم تقل إن التنانين قد فنيت . أنت من أكدت لي أن آخر تنين قد اختفى فجأة، كما اندثر وجود الحرب الكبرى!"
ضحك إيرلاي، خافتًا، وكأنه يضحك من سذاجة الفكرة
"أوه، الرماد… جميل في القصائد. لكنه لا يبقى في مكانه طويلًا. هناك شيءٌ في الغرب، شيء يهمس في آذان الهاربين، ويوقظ فيهم نداءً بدائيًا. ليسوا مجرد برابرة، بل شهودٌ على عودة شيء كنا نظنه أسطورة
"وهل تتوقع مني أن أصدق ذلك؟"
"لا. لكنك ستشعر به قريبًا"
شحب وجه آثر قليلًا كأنه أدرك شيئا، كأن الكلمات لمست شيئًا دفينًا فيه. ثم بصوت أخفض
"وهل كانت… هي، جزءًا من ذلك؟"
هز إيرلاي رأسه، بعينين لا يمكن قراءة ما فيهما
"لوكريسيا… هي شظية من نار قديمة، لم أخبرك عنها، لأنك لم تكن مستعدًا لتعرف. إنها نيران النيرفاليس، جلالتك… تحرق كل شيء"
قالها بابتسامة تقشعر لها الأبدان
"ولِمَ الآن؟ لمَ تخبرني الآن؟"
"لأنك الآن فقط بدأت تسمع... كالأرض حين تشقّها الزلازل قبل أن تنفجر"
سحب آثر نفسًا طويلًا، كأن الصدر ضاق بالعواصف القادمة
نظر إلى الأفق البعيد، حيث لم تعد الغيوم مجرد غيوم… بل رسل نُذر جديدة
"سنحتاج أكثر من السيوف. سنحتاج الحقيقة، كاملة"
ردّ عليه إيرلاي، بصوت خافت
"الحقيقة لا تُعطى… بل تُنتزع، آثر"
صمتٌ آخر، أعمق هذه المرة. كأن الشرفة ابتلعت كل ما قيل، وكل ما لم يُقال بعد
آثر بقي يحدّق في البعيد، في الظلال التي بدأت تتكاثف تحت النجوم، في الأفق الذي لم يعد يَعِد بنهار قريب
ثم... جاءه ذلك الخاطر. كما لو أن الشرر في كلمات إيرلاي فجّر قبوًا قديمًا في ذهنه
"إذن… ذلك الطفل…"
الفكرة سقطت في قلبه كحجر في بحيرة راكدة. لم تُحدث صوتًا، لكنها أثارت دوائر موجعة
أسيل
اسمه لم يُنطق، لكنه كان هناك، حيًا في المسافة بين جملةٍ وأخرى
"شكوكه الآن بدأت تندثر… شيئًا فشيئًا"
هل كان تفكيرًا أحمقًا؟
كيف استطاع أن ينظر في عيني ذلك الصبي المنكسرتين، يسمع صوته الخافت، ويرى يديه المرتجفتين… ويفكر، ولو لوهلة، أنه خطر؟
شعر بطعم معدني في فمه، مزيج من الذنب والخذلان.
"الحماقة… لعلها أكبر ذنب ارتكبته. لا لأنه فكر في قتله، بل لأنه فكّر في ذلك كثيرًا. لو شكّ للحظة، لكان قد تهور وفعل شيئًا يندم عليه"
تخيّل، مرارًا، كيف سيكون المشهد… سيف مرفوع، صمت مشؤوم، ونهاية لا ندم بعدها
لكن الطفل… لم يحمل يومًا سوى نظرة بحث.
بحث عن دفء، عن إجابة، عن أحدٍ يَلجأ إليه
"أنت صامت، وهذا ليس من عادتك"
قال إيرلاي، دون أن يلتفت. بدا كما لو أنه حقق ما أراد
لكن آثر لم يجب، لأنه كان مشغولًا
ليس بإيرلاي، ولا بالبرابرة، بل بالدمعة التي لم تسقط من عين أسيل تلك الليلة، رغم أن كل شيء فيه كان يتوسل للبكاء
أغمض عينيه، كأنما يريد الهرب من أفكاره، لكن الظلام في جفنيه كان أكثر قسوة
بكل سرية، أدار إيرلاي ظهره
لم يودّع، لم يعلّق، فقط ترك آثر مع صمته المُثقل، ومضى
بخطوات خفيفة، كأن الأرض تحفظها عن ظهر قلب، تسلّل عبر الشرفة، ثم هبط بخفة إلى الممر
الجانبي المغطى باللبلاب المتدلّي، يمرّ بجوار النافورة التي توقّف ضوؤها عن الرق
الحديقة كانت مظلمة، والأزهار المبعثرة لم تعد تعبق، بل خضعت للصمت كما لو أنها تراقب رحيله
كظلّ شبحٍ يعرف الطريق جيدًا، اختفى إيرلاي بين الأشجار، تاركًا خلفه أثر هواءٍ بارد… ورائحة رمادٍ قديم، وكلمة لم تُولد بعد