في الخارج غربت الشمس، رياح خفيفة حرّكت ستارة النافذة، فأغلقت الضوء عن أسيل، وتركته في عتمةٍ مؤقتة... تشبهه

تقدم أحد خدم قصر الدويقه تردّد قليلًا قبل أن يفتح باب الصالة الواسعة، كأن شيئًا في داخله حذّره مما قد يراه

وهناك، وجده

جالسًا وحده، في ظل الضوء المتسلل عبر الزجاج الملون.

رأسه مائل قليلًا، يداه الصغيرتان ممدودتان على ذراعي المقعد، وعيناه تحدقان إلى لا شيء...

إلى الفراغ نفسه

لم يكن يقرأ كتابًا، لم يكن يُمسك لعبته، لم يكن يراقب شيئًا

فقط... موجود هناك

كأن وجوده نفسه لم يعد يعني له شيئًا

بخطواتٍ بطيئة، كأن الأرض نفسها لا ترغب أن تُصدر صوتًا يزعج هذا الهدوء الثقيل

"السيد الصغير؟" تكلمت إحدى الخادمات

لا رد.....

"لقد رحلت والدتك، أعلم أنك كنت تودّ وداعها، لكنني واثق أنها ستعود سريعًا فور الإنتهاء من أعمالها"

عيناه لم تتحركا

"هل... هل ترغب أن نخرج قليلًا؟ يمكننا الذهاب إلى الحديقة..."

عندما بقي هكذا علمت أنها لن تجد أي اجابه انسحب ثلاثة من الخدم بقلق مكبوت

لا شيء

عندها، تحركت يد أسيل، ببطء، رفعها نحو صدره كمن يتحسس قلبه... ثم أنزلها من جديد، كأن لا شيء هناك

«لماذا أنا هنا؟ لماذا أستمر؟ ما النفع من بقائي؟»

« كيف دخلت الروايه؟ أصلا هل أنا حقا ابن لوكريسيا .......»

وضع يده على وجهه فجأة، ليس ليبكي، بل ليحجبه.

كأنه يشعر بأنه ليس جديرًا بأن يُرى

الغرفة بدت غريبة. مألوفة... لكنها غريبة

ألوان الجدران باهتة، الأثاث جامد كأنّه مسنود على ذكرى منسية

حتى النور الخافت المنبعث من المصباح بدا مشوهًا، كأنه يتردّد في الظهور

أسيل جلس على حافة السرير، قدماه الصغيرتان لا تلامسان الأرض، ظهره منحنٍ، ويداه في حضنه كأنهما فقدتا وظيفتهما

أطال التحديق في الفراغ، وفي رأسه... صخب

"لماذا أنا هنا؟"

"هل هذا جسدي؟ هل هذه غرفتي؟"

"ربما... ما زلت على السرير البارد في المشفى"

أمسك بذراعه، ضغط عليها... لا دم. لا دفء

مجرد جلدٍ هشّ فوق فراغ

"إذا ابن ذهب ابن لوكريسيا؟"

ضحك بصوت خافت، مشروخ، كأن حلقه صدئ

"لماذا تُصر على تصديق ذلك، أيها الطماع؟"

"حتى الكذب أصبح أثقل من أن يُحتمل"

ارتفعت الحرارة فجأة. ثم انخفضت

ثم بدأت الأصوات...

همسات خافتة، تمضغ الهواء خلف الجدران، تتسلل تحت الباب، تصعد من بين شقوق الأرض

"إنه يرانا..."

"إنه يعرف..."

"يجب أن لا يعرف..."

التفت ببطء نحو زاوية الغرفة

هناك... كانت الدمى

عيونها الزجاجية الآن... لم تكن زجاجية

كانت عيونًا. حقيقية. مليئة بكراهية هادئة، تنظر إليه وكأنه كائن دخيل، كذبة تمشي، خيانة متنكرة بهيئة طفل

إحداها كانت بلا ذراع

الأخرى مبتورة الرأس... لكن الرأس على الرف المقابل، يحدّق نحوه بابتسامة مقلوبة

نهض ببطء، وبدأ يسمع "همهمات"

لم تكن من الدمى

كانت من الحيطان

"تذكّر..."

"أنتَ السبب في كل شيء..."

"لو لم تكن موجودًا..."

تراجعت أنفاسه، واهتز جسده وهو يتمتم

"أنا لا أريد أن أتذكر..."

لكن الذكريات خرجت رغمًا عنه

السرير الأبيض...

الروائح المُعقّمة...

صوت الأجهزة...

والصوت الأكثر فظاعة

"لا فائدة، لن ينجو هذا الطفل"

ثم... وجه امرأة. ليست لوكريسيا

وجه باهت، ينهار، يبكي، ثم... يختفي

«هل هي أمي؟ أمي الحقيقية؟»

الصوت عاد

"لم تُردك، لا أحد أرادك، تمسّكتَ بالحياة كأنك سُرّاق!"

"كل هذا... لأنك لم تمت حينها!"

ضرب رأسه بيديه

"توقّفوا... أرجوكم... لا أريد هذا!"

لكن الغرفة أصبحت كأنها فم وحشٍ يُغلق عليه

الأرضية تنزف...

الدمى تقترب...

الحائط يتنفس...

حتى المرآة في الزاوية بدأت تُظهر انعكاسًا لا يشبهه

كان ظلا طويلا باهتا يبدوا بأسا أكثر كلما نظرت إليه لكنه بدا مرعبا يجعل النظر إليه مثير للاشمئزاز

اقترب أسيل منها... يريد أن يفهم

لكن الانعكاس تحرك قبله

ابتسم. ابتسامة ممزقة، وقال بصوتٍ يشبهه ولا يشبهه

"لماذا أنت هنا؟"

"هذا ليس عالمك"

"أنتَ... شيء دخيل"

تراجع، لكن المرآة لم تكتفِ

ظهرت خلفه يد رمادية، باردة، أمسكت كتفه

لم يشعر بها. لكنه سمعها

"أنتَ لست حقيقياً. لا أحد يراك... حتى لوكريسيا، تعرف ذلك"

نظر حوله...

الغرفة كلها كانت تضحك. الدمى، المرآة، الحائط، حتى السقف كان يهتز بالقهقهة

أسيل انهار على الأرض

"أنا لم أطلب هذا... لم أطلب شيئًا..."

أغلق عينيه

لكن حتى في العتمة، كان هناك ظلٌ ينظر إليه

...........

في وقت لاحق من ذلك اليوم، عاد آثر من تدريبٍ شاق مع الفرسان، منهكًا، ينهب أنفاسه بصعوبة، لكنه توقف فجأة حين رأى المشهد من نافذة الرواق المطل على الحديقة

كان الخدم... يحرقون شيئًا

مشى باتجاههم، وسأل باستغراب لما يحرق الخدم شيئا في حديقة القصر

"ماذا تفعلون؟!"

أجابه أحدهم، مرتبكًا، يتجنب النظر في عينيه

"أوامر... أوامر من السيد الصغير، سيدي . كانت أوامره حرق كل شئ في الغرفه عدا الأثاث"

"أوامر؟ بحرق كل ألعابه؟ كل شيء؟!"

أومأ الخادم برأسه ببطء بتوتر، يهمس كمن يخشى أن يسمعه أحد

"قال... إنه لا يحتاجها بعد الآن"

آثر نظر إلى النيران... ورأى ألعابًا، كتبًا، وسائد صغيرة، وحتى الدمى التي كانت ترافق أسيل في طفولته...

تحترق بهدوء

«لا يحتاجها؟ من الذي يحتاج أن يتخلى عن طفولته في العاشرة؟ من الذي يختار أن يُصبح رمادًا؟ كيف اتصرف معه ... هذا ليس من شءني علي حماية السيف المقدس فقط هذه هي مهمتي ...»

وكان الجواب في عيني آثر، حين حدّق في النيران

2025/06/16 · 13 مشاهدة · 779 كلمة
سالفيا
نادي الروايات - 2025