امتدت لحظة الصمت بينهما، ثقيلة كالجبل فوق صدر البربري

تلك الكلمات التي خرجت من فم أيرلاي لم تكن مجرد تهديد، بل كانت كالمرآة التي أجبرته على مواجهة الحقيقة القاسية

لم يبقَ أحد بجانبه

الجنود، الذين كانوا كظل يحيطون به ويشعلون روحه، تلاشت هالاتهم في الفوضى ...البرابره والجنود على حد سواء جميعهم ابيدوا

الصدى الخافت لصراخهم يتلاشى شيئًا فشيئًا في قلب الصحراء الخاوية

نبض قلبه تعثر

بدا كما لو أن غضبه الكاسح قد أفرغ من وقوده.

تلك القوة التي استند عليها لتحطيم الحواجز، صار لها فجوة كبيرة تهوي فيها

إحساس وحيد اجتاحه، لهيبٌ أسودُ من الغضب واليأس،

غضبٌ على الإمبراطورية، على الأعداء الذين خبّأوا وجوههم، وعلى نفسه لأنه بقي وحيدًا

تنهد بعمق، لكن أنفاسه خرجت متقطعة، كأنها أنينُ رجلٍ محطم

صوته صار يهتز والهواء حوله يشتعل بصدى كلماته:

"أنا... الملك..."

ثم سقطت الكلمة الأخيرة كخرقة ممزقة في العاصفة

"لا أحد يتحداني... لا أحد."

لكن الصحراء، الواسعة التي احتضنت كل معاركه، كانت بلا حياة

الريح تهمس بين الصخور، تحمل صدى وحدته الباردة

أطلق يده التي كانت تمسك بالحجر، فألقى به بعيدًا، كأنما يرمي جزءًا من كبريائه المحطم اختفى من بين أنظار الجميع في لمحه

سقط على أرض رخاميه مهجوره بعيدا عن اراضي الامبراطوريه ثم بدأ يجرّ قدميه، يهرب

هرب ليس من أيرلاي فقط، بل من الذاكرة التي وجدت نفسه فيها

ذاكرة الملك الذي خُلع من عرشه

ذاكرة الرجل الذي فقد الجميع

كان يغلي داخله نار الغضب، نارُ الانتقام التي لم تجد لها هدفًا بعد

لكنّه الآن، في هذا الفراغ، أصبح مجرد زفير وحيد يتوهج في ليلٍ لا يرحم واعدا بإبادة الامبراطوريه

ركض البربري، غاضبًا، متألمًا، وكأن كل خطوة تبعده عن ما كان يمكن أن يكون، وتقربه من هاوية لا مفر منها

في غرفة في دار القمار وسط العاصمة ذات الجدران المزخرفة والمظلمة، حيث تتلاشى أصوات الرقائق المعدنية والضحكات

البعيدة في دوامة من الدخان والظل، جلس الإمبراطور على كرسي ضخم مغطى بأهداب المخمل الأحمر الداكن

كان يعبث بقطعة من الزهر في يده، ويحدق في شريط الخمر الداكن أمامه

شعره البني المصبوغ بعناية لم يخفي بريق عينيه الذهبية التي تشعّ بسخرية قاتلة، تضاهي لمعان النجوم في ليل بلا قمر

ابناء الشمس السلاله الامبراطوريه ، أولئك الذين جرت في عروقهم الشمس، وتموجت في شعورهم وأبصارهم خيوط الذهب. لم يولد أحدٌ من نسلهم إلا وقد حمل التوهّج ذاته: شعر كأنه خُطَّ من أشعة الفجر، وعيون كأنها صُقلت من كنوز الشمس

لكن أونيسيم... لم يكن كذلك تمامًا

في اليوم الذي أُعلن فيه صراخه الأول، ارتجفت السماء. كُسفت الشمس، في لحظة لا تحدث إلا كل قرن. وغرقت العاصمة في ظلال باردة، في زمن لا يعرف إلا وهج النور. عدّ العرافون ذلك نذيرًا، وارتجف البلاط. طفل وُلد تحت كسوف؟ وصمة، لعنة، نحس

همس بعضهم بوجوب قتله فورًا. وقيل إن الإمبراطور نفسه أمسك بالخنجر

لكنه لم يفعل

ربما خشي على سمعته، أو ربما رأى في عيني الطفل نظرة تردعه. نظرة ليست من هذا العالم. تركه حيًّا، لكن ليس حيًا تمامًا. نُبذ وهو في مهده، يكبر في عزلة القصور كطيف منسيّ

أطلقت عليه أمه اسمًا لا يليق بمن وُلد تحت ظلٍّ

أونيسيم — الازدهار والثروة، كأنها تحاول كسر النبوءة باسم، أو تسترضي الآلهة بجرأة الأمل

ولولا أنه كان الأمير الوحيد، ما خُيِّل لأحد أن يرى فيه يومًا إمبراطورًا

لكن القدر لا يحترم التوقعات، ولا تخضع الشمس لأحد... حتى حين تُكسف

دخلت سكرتيرته المباشرة بهدوء، كأنها تخطو فوق أرض من زجاج هش، حملت بيدها ملفًا سميكًا من الأوراق، ونظرت إليه بخفة في عينيه التي لا تعرف الرحمة

قال الإمبراطور مبتسمًا ابتسامة متهكمة

"هل تعلمين، يا سكرتيرتي العزيزة، أن كل هؤلاء البشر الذين يتصارعون هناك… مجرد دمى على مسرحيتي؟"

أغمض عينيه قليلاً، ثم استدار في كرسيه كأنه يحاول النظر خلف ستار العالم

"ديريك؟... ذلك الصغير الممل؟ لم أحمله معي هذه المرة. لا فائدة منه الآن، لا يزال لا يعرف حتى كيف يلعب دوره"

رفع قطعة الزهور وكاد يرمقها بنظرة كره وحب في آن

قال بنبرة ساخرة

"ما أفعله أنا هنا، في هذه القاعة؟ أراقب الهرج والمرج وأتحكم في الأوتار من بعيد" قالها كما لو أنه يقول شعرا

تنهد ببطء، وصوب نظره نحو السكرتيرة، ضاحكًا بسخرية لاذعة

"زوجتي؟ هي على خشبة المسرح نفسها مدنيه إمبراطورة جليله. أميرة في مسرحية فاشلة… لكنها تعتقد أنها البطلة أوه هل هذا قليلا ...لكنهم حقا دمى ممله"

التفت بحركة بطيئة نحوها وقال

"وكلهم، من ديريك إلى الصغيره، أدوار في هذه المسرحية. لا أكثر"

كان وجهها ثابتا لكن يداها المرتجفتان في الخلف اضهرتا عكس ذالك

نزل من كرسيه بخفة غير متوقعة، متكئًا على الطاولة

قال بهدوء مخيف

"أحب التلاعب، يا سكرتيرتي. أن أشاهدهم يتهافتون، يتصارعون، يسقطون ويتعثرون…

كأنهم لا يرون أنني أتحكم في الخيوط"

رفع حاجبه، وابتسم ابتسامة كاشفة

"لديّ طاقة غامضة… ربما لا يراها أحد، لكنها تعانق الظل في كل حركة أقوم بها"

تنهد ببطء وأدار رأسه كأنه يتململ من الملل

"العالم؟ مسرحية مملة… لا تستحق إلا أن تشاهدها من بعيد"

صمت قليلاً، ثم قال بنبرة أخيرة، تملؤها الهيبة والتهكم:

"أبقني على اطلاع، وأرسل لي تقاريرك… أر

يد أن أرى كيف يرقصون على أنغامي"

ابتسم، ورفع كأسه نحوها، وكأنهما في نزهة استثنائية على أطلال إمبراطورية التي أصبحت مسرحه الجديد منذ توج امبراطورا

2025/06/28 · 10 مشاهدة · 803 كلمة
سالفيا
نادي الروايات - 2025