وقبل أن ينهض الإمبراطور ليرمي قطعة الزهر، توقفت السكرتيرة قليلاً، ثم قالت بصوت هادئ:
"يا مولاي، وصل الدوق والدوقة إلى رفات التنين منذ ساعات قليلة"
رفع الإمبراطور رأسه ببطء، ولم يفقد ابتسامته الساخرة.
"أوه، أخيرًا. لعل القصة تأخذ منحى أكثر تسلية"
توقفت السكرتيرة، ثم أضافت
"ولكن هناك خبر آخر، يا مولاي… ملك الرابرة فر من أيرلاي أثناء المواجهة"
تحولت ابتسامة الإمبراطور إلى ضحكة قصيرة لكنها مليئة بالازدراء
"ها! يا له من مصير محتوم لهم جميعًا. الهروب؟ هكذا ببساطة؟"
أدار رأسه ببطء وهو يتأمل زجاجة الخمر أمامه، ثم أضاف بنبرة مفعمة بالتهكم
"يظنون أنهم أبطال في مسرحية لا يملكون حتى نصها"
مد يده ليملأ كأسه مرة أخرى، ثم قال بصوت منخفض
"الفرار لا يعني إلا أنهم قد فقدوا السيطرة، وهذا بالضبط ما أريده ..... ابادتهم جميعا"
كانت عيناه تبرق بوهج مشؤوم
نظر إلى السكرتيرة بعيون تتلألأ بالغموض وقال
"دعنا نراقب هذا العرض… لعل النهاية تكون أكثر إثارة مما توقعت "
كانت الرياح تعصف بصمتٍ ثاقب حول رفات التنين العملاق، حيث يقف الدوق والدوقة في مواجهة هذا المخلوق الذي كان يوماً ما رمزًا للقوة والعظمة
لوّنت أشعة الشمس الغاربة عظام التنين بألوان الدم والنار الباهتة، وكأنها تذكير قاتم بماضيه المجيد، وحاضره المسموم
وقفت لوكريسيا بجانب الدوق، عيناها تنظران بحذر وفهم عميق لما تعنيه تلك العظام التي تنبعث منها موجات المانا الميتة الثقيلة
قال الدوق بصوت هادئ، لكنه مثقل بالمسؤولية
"لقد وصلنا أخيرًا، وما زال هذا المكان ينبض بآثار قوة عظيمة… وقوة مميتة"
نظرت إليه لوكريسيا، وابتسمت بابتسامة واثقه، تمسح بيدها عباءة الريح المتطايرة
"اذا ماذا علينا أن نفعل الأن"
أخرج الدوق كتابه القديم قد إعطاءه الامبراطور له ، فتحه على صفحة تحمل رموزًا قديمة معقدة، وبدأ يقرأ التعويذات بصوتٍ منخفضٍ لكنه واضح، كأنه يدعو لعالم خافت من الظلال
بينما لوكريسيا بدأت برسم دائرة من الرموز على الأرض كما اخبرها الدوق، تستخدم طاقتها السحرية لتثبيت التقاليد القديمة
كانت تلك الدائرة تتوهج بتدرجات اللون الذهبي والناري، متوازنة بدقة مع البرودة الكريستالية التي تحيط بالمكان
مرت دقائق ثقيلة، وارتفعت أصوات الرياح وكأنها تردد صدى التعويذات
وفجأة، اهتزت الأرض تحت أقدامهم، وانتشر ضوء خافت من مركز الدائرة
قال الدوق بابتسامة خفيفة
"لقد بدأنا… الآن، لن يكون هناك مجال للخطأ"
نظرت لوكريسيا إلى الأفق، وهي تستجمع قوتها
"كل خطوة نخطوها هنا قد تهدد حياتنا"
تبادلا نظرات صامتة، محملة بالعزم والقلق، لكنهما واثقان أن ما يقومان به هو مفتاح لما هو قادم
............
خرج أسيل من غرفته المظلمة ببطء، يحمل في عينيه الحزن الخفي، لكنه لم يستطع أن يبوح به لأحد
تعب من البقاء محاصراً بين جدران القصر، حيث تتجمع الأوهام وتلتهم كل أمله
الحديقة واسعة لكنها شعرت له كقفص كبير، والهواء كان بارداً ومالئاً بصمت ثقيل
نظراته تائهة تبحث عن شيء، عن راحة أو عن سلام، لكنه لم يجد سوى الظلال التي تتراقص على الأرض
لم يأكل جيداً منذ أيام، ولم يشعر بالنوم الحقيقي منذ أسابيع. جسده الضعيف يئن تحت وطأة المرض الذي لا يرحم، ويده ترتجف أحياناً عندما يحاول الإمساك بأي شيء
رآه آثر، يقف بعيداً في الزاوية، يبتعد عنه بنظرة تملؤها المسافة وكأن بينهما جدار من الهواء
أسيل لم يعرف كيف يتحدث معه، أو حتى كيف يقترب. كان جديداً في حياته، غريباً، شخص لا يفهمه ولا يعرفه
تنهد أسيل، وأغمض عينيه للحظة، شعر ببرودة القلب تزداد
كان يعلم، من مكان عميق داخله، أنه لن يعيش طويلاً.
أنه سيموت قبل أن يبلغ الثامنة عشرة، مثل قصة في رواية لم تكتمل
صمت الحديقة كان يثقل على صدره، كأنه يهمس له
"لا مفر من مصيره"
تراجع خطوة إلى الوراء، وجهه الصغير يرتسم عليه ملامح الوحدة والخوف
ابتسم ابتسامة باهتة، حزنها أكبر من عمره
"ربما... ربما سيكون آثر هو النهاية"
نظر بعيداً في السماء التي بدأت تغيب فيها الشمس
كان أسيل لايزال واقفًا في منتصف الحديقة، جسده النحيل يتمايل قليلاً مع الريح، وكأنه لا يملك جذورًا كافية ليظل ثابتًا
نظر إلى الأشجار العالية حوله، لكنه لم يشعر بأي رهبة أو دهشة
كان المكان واسعًا… أكثر من اللازم
واسعٌ لدرجة أنه أحسّ أن جسده ضائع فيه، وأنه إن تكلم، ستبتلعه المسافة
كل المساء تقريبا جلس على حافة النافورة الحجرية، يحدق في المياه الساكنة
وجهه الشاحب ينعكس فيها مشوشًا، وكأن حتى الماء لا يستطيع تمييز ملامحه بوضوح
لا أحد يمر. لا أحد يسأل
رفع يده قليلًا، يراقب كيف تلامس أصابعه سطح الماء
برودة خفيفة. لا حياة فيها
أراد أن يقول شيئًا، أن يتحدث مع أحد، أن يهمس حتى للريح، لكنه لم يجد الكلمات
لم يكن وحده في المكان… لكن شعوره بالوحدة كان كثيفًا، يخنق الهواء حوله
"أنا هنا… لكنني لا أعني شيئًا لأحد"
ثم أعاد يده إلى حضنه، مطأطئ الرأس، وترك أفكاره تغوص في دوامات صغيرة تشبه تلك التي تنشأ كلما سقطت ورقة في الماء
.........
في الساحة المفتوحة، كان صوت السيوف يصطدم بالهواء
آثر واقف وسطها، السيف بين يديه، والعرق يتسلل من عنقه نحو الترس
عيناه حادتان، كل ضربة يوجهها مدروسة، كل خطوة محسوبة
لم يكن يتدرب لأجل أحد
لم يكن يتنافس مع أحد
كان وحده
كما أراد
أعاد السيف إلى وضع الاستعداد، وتنفس بعمق، ثم هتف في نفسه
"تركيزي فقط للسيف المقدس. هذه هي مهمتي. هذه هي هويتي "
خطواته على الأرض المبللة بالغبار كانت صامتة، كأنه يقاتل شبحًا داخليًا لا يُرى
لحظة خاطفة، تذكّر الطفل في الحديقة
لكن الذكرى مرت كطيف، لم تمكث. لم تلامس القلب
فكر بحدة
"إن بدأت أنظر خارج حدود السيف… سأفشل. لا يجب أن أسمح بذلك"
ثم عاد إلى وضع القتال
مستعدًا لأي شيء… عدا التورط في شخص لا يخصه
.........
خرج أسيل من الحديقة بخطواتٍ متثاقلة، جسده النحيل كاد ينكسر تحت وطأة المرض والبرد القارس الذي يلفه بلا رحمة
وقف في زاوية مهجورة من القصر، حيث لم تطأها قدمٌ منذ زمن، كان وحده هناك، تمامًا كما يشعر في داخله
الصمت يلف المكان بثقله، كأنه قبر بارد يحتضنه
أغمض عينيه برهة، يتنفس بصعوبة، كأنه يحتفظ بقطرات الهواء كما يحتفظ بأملٍ لم يعد موجودًا
كانت أنفاسه متقطعة، صدى وحدته يتردد داخل صدره المكسور
لم يكن خوفه من الموت… بل من الرحيل بلا ذكرى، بلا أثر، بلا من يسمع صرخته الأخيرة
تمنى لو يستطيع أن يبكي، لكن الدموع لم تعد تخرج.
كانت روحه قد جفت، وتركت جسده هزيلًا كما هو الآن، صامتًا كأشباح القصر
نظر إلى السماء التي كانت تبتلعها ظلال الغروب، ولم يرَ فيها سوى سوادٍ قاتم
همس بصوتٍ خافت، كأنه يحاول أن يقنع نفسه وهو يعلم العكس
"لا أحد… سيذكرني… لا أحد… سيحزن"
تراجع خطوة إلى الوراء، وارتطم ظهره بالحائط البارد، شعر كأن القلب يتوقف، لكنه استمر في الخفقان بصعوبة،
مذكّرًا إياه أنه ما زال حيًا، في سجن لا مفر منه
تنهد بعمق، ورفع يديه المرتجف
تين إلى وجهه، يخفي ضعفًا لا يجرؤ على اعترافه
في تلك اللحظة، كان أسيل وحيدًا ليس فقط في المكان، بل في العالم كله
كان ينتظر النهاية التي تعرف أنها قادمة، ببطء، بلا رحمة، بلا وداع